قضايا
الإضراب الستيني في سورية
فخري البارودي ومشروع الفرنك:
أطلق فخري البارودي أحد أقطاب الكتلة الوطنية، في تشرين الأول عام 1934م مشروعاً وطنياً لتنوير الشعب وتوحيد اتجاهاته وللدعاية للمسألة الوطنية دولياً. وأسس البارودي مكتباً مركزياً لهذا المشروع في دمشق، ونشر المكتب كراس صغير يتحدث عن المشروع وأهدافه وشعاره الذي كان: “السنتيم أساس المليون” وبدأ يجمع التبرعات من أجل الدعاية للقضية السورية في إطار “مشروع الفرنك”. وشرع المكتب منذ تأسيسه بتصنيف وتوثيق ما ينشر في الصحف حول سورية منذ العهد الفيصلي، بالإضافة إلى جمع الوثائق السياسية والاقتصادية المتصلة بهذه المرحلة. كما وجه نداء إلى الشعب من أجل حماية الصناعة الوطنية، ومقاطعة البضائع الأجنبية.
حفل تأبين إبراهيم هنانو:
في العاشر من كانون الثاني عام 1936م، أقامت الكتلة الوطنية حفل تأبين بذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة إبراهيم هنانو. وأعلنت الكتلة الوطنية الميثاق الوطني.
تزامن هذا الإعلان مع دعوة فخري البارودي إلى مقاطعة شركة التنوير والجر الفرنسية بدمشق. وما أن حدثت حركة مقاطعة الشركة حتى تبنتها الكتلة الوطنية.
إغلاق مكاتب الكتلة الوطنية:
رداً على ذلك أقدمت السلطات الفرنسية في الثامن عشر من كانون الثاني على اقتحام وتفتيش وختم مكتب البارودي ومكتب الكتلة في دمشق وحلب بالشمع الأحمر، بالإضافة إلى اعتقال فخري البارودي ونقله مباشرة إلى مكان غير معروف خارج مدينة دمشق.
المظاهرات يوم 19 كانون الثاني:
احتجاجاً على اعتقال البارودي وإغلاق مكاتب الكتلة خرجت مظاهرات مساء الأحد التاسع عشر من كانون الثاني. تعاملت سلطات الانتداب مع هذه المظاهرات بعتف، واعتقلت عدة متظاهرين.
إجتماع الكتلة الوطنية:
عقدت الكتلة اجتماعاً في منزل جميل مردم بك وأصدرت بياناً يتضمن استنكار إقفال مكاتب الكتلة الوطنية والاستمرار في سياسة الشدة وخنق الحريات. واختتم البيان بالاحتجاج الشديد على خرق حرمة الدور. وأكد فيه أن الكتلة ستوصل الجهاد والعمل وليكن ما يريده الله. وأرسلت احتجاجاً إلى المفوض الفرنسي الكونت دي مارتل أشارت فيه إلى الحالة الحاضرة وإلى إغلاق السلطات لمكاتب الكتلة الوطنية كما احتجت الكتلة ايضاً على اعتقال النائب فخري البارودي(2)
بداية الإضراب:
بعد حادثة إعتقال البارودي وإغلاق مكتبه ومكاتب الكتلة، انتقلت المقاطعة إلى حركة سياسية فتوالت المظاهرات وبدأ في العشرين من كانون الثاني إضراب شامل في دمشق وانتقل إلى بعض المدن السورية
كانت البداية في صباح يوم الاثنين العشرين من كانون الثاني عندما رفضت سلطات الانتداب الإفراج عن المعتقلين بسبب مشاركتهم بالمظاهرات.
نقلت السلطات الفرنسية سبعة أشخاص منهم إلى المحكمة المختلطة، وحكمت عليهم مدداً مختلفة تراوحت بين أربعة أشهر و15 شهراً وغرامات تتراوح بين 25 و50 ليرة سورية. كما ألقت القبض على سيف الدين المأمون، مدحت البيطار، ومحمود البيروتي وقد أبعد الأول ايضاً على الفور إلى القامشلي.
وما كادت الأنباء تتسرب إلى أسماع أهالي حي الميدان حتى شكلوا مظاهرات كبيرة، وقد صادف مرور عربة الترام فألقوا عليها قذيفة انفجرت فيها واحترقت العربة، وحضر رجال مصلحة الإطفاء، وأخمدت النيران في باقي حطامها، فاضطرت شركة الترمواي لإيقاف عرباتها عن هذا الخط.
ثم قام أبناء حي العمارة بمظاهرات عارمة وساروا في الشوارع حتى وصلوا إلى الشارع العام الذي تسير به عربات الترام وصادف مرور عربتين فهاجموهما بشدة وكسروا جميع زجاجهما وأبوابهما الخشبية، فتوقف هذا الخط أيضاً عن العمل.
واندلعت مظاهرة أخرى بباب توما هاجم المتظاهرين فيها بعض المحال التجارية المفتوحة ارغموا أصحابها على إغلاقها، كما أندلعت مظاهرات أخرى في دوما وحمص وحماة.
إزاء هذا الحراك تولى الجيش المحافظة على الأمن، فانتشرت الجنود المسلحة في كل مكان بالمدينة، ونصبت الرشاشات في كل مدخل حصين.
دعا رجال الكتلة الوطنية في تلك الأثناء إلى إجتماع عاجل للبحث في التطورات.
عقد الإجتماع بمشاركة الأعضاء وفي مقدمتهم جميل مردم بك، لطفي الحفار، نسيب البكري، شكري القوتلي، في صباح يوم الاثنين العشرين من كانون الثاني في منزل نسيب البكري الذي يقع بالقرب من بناء الجامعة السورية.
أثناء انعقاد اجتماع أعضاء الكتلة وفي الساعة العاشرة خرج جميع طلاب الجامعة السورية بمظاهرة كبرى، وحضروا إلى بيت نسيب البكري حيث عقدت الكتلة الوطنية إجتماعها وطلبوا من المجتمعين أن يشتركوا معهم في مظاهراتهم.
فلم يسع رجال الكتلة سوى الإذعان للأمر الواقع فخرجوا جميعهم من منزل البكري الذي يقع بالقرب من بناء الجامعة السورية ويمموا شطر شارع جمال باشا.
وما كان المتظاهرون يصلون إلى محطة الحجاز حتى وجدوا أمامهم شداً منيعاً من رجال الشرطة الذين طلبوا من المتظاهرين العودة من حيث أتوا وأن يتفرقوا حالاً.
لم يشأ المتظاهرون العودة كما أنهم لم يطيعوا رغبات الشرطة، وأرادوا المرور بالقوة مهما كلفهم الأمر، فاضطرت الشرطة لاستعمال القوة معهم، وأخذ أفرادها يضربون المتظاهرين بعصيهم وهراواتهم ضرباً مبرحاً.
وتكاثر رجال الشرطة على المتظاهرين وهم يحملون هراواتهم الثقيلة ثم أخذوا يفرقون الجموع بالضرب المؤلم، فأصيب جميل مردم بك برض في ذراعه، وكذلك شكري القوتلي، وسرت شائعة قوية مفادها أن يد لطفي الحفار قد كسرت. فاضطر رجال الكتلة إلى الإلتجاء إلى فندق “أبوريان بالاس” المقابل للمحطة المذكورة.
وهنا نشطت الشرطة في اعتقال طلاب الجامعة المتظاهرين حتى بلغ عددهم 46 طالباً ثم ساقتهم إلى نظارة الشرطة بدائرة البوليس.
أكرم الحوراني والاضراب:
وذكر أكرم الحوراني في مذكراته أنه في تلك الفترة كان الجو في البلاد العربية الأخرى معبأ للانفجار أيضاً، ففي مصر كانت تضطرم حركة الطلاب ومظاهرات حزب الوفد، وفي فلسطين كانت أحداث الثورة المسلحة المتفرقة مستمرة، والوضع العربي العام يشبه سلسلة متصلة الحلقات ما أن تهتز حلقة منها حتى تستجيب لها بقية الحلقات.. وقد تنطلق الشرارة الأولى من حادث بسيط جداً كما حدث في دمشق. ويضيف : (فبدأت ثورة عام 1936 بحملة احتجاج قادها فخري البارودي ضد شركة كهرباء دمشق لرفعها تعرفة الترامواي نصف قرش.. ومن هنا انطلقت شرارة أعظم اضراب وأطول موجة احتجاج جرت في العالم حتى ذلك الحين، فما أن أعلن الإضراب العام وقامت التظاهرات في دمشق حتى عمت المدن السورية جميعاً، وفوراً انقلب الاحتجاج على شركة الكهرباء إلى المطالبة بالاستقلال)(3).
كانت القيادات السياسية في الكتلة الوطنية غائبة عن هذه الحركة التي لم تكن تتوقع لها كل هذا التصاعد والاستمرار والصمود وقد صرح جميل مردم للصحف، بعد أسبوع من بداية الاضرابات: “ان الكتلة الوطنية لم تقرر الاضراب حتى تذيع بياناً بانهائه. ولقد أظهرت دمشق خلال هذا الأسبوع شعورها الوطني واحتجاجها .. وأرى انها كافية”.
في الثامن والعشرين من كانون الثاني عام 1936م، استقبل المفوض السامي الفرنسي وفداً من السوريين الذين قدموا له المطالب التالية:
1- إعادة الدستور كما وضعته الجمعية التأسيسية.
2- إلغاء نظام الانتداب، وإعلان استقلال سورية.
3- إعلان وحدة البلاد السورية.
4- إعادة المبعدين وإطلاق سراح المسجونين.
استمرت هذه الحالة ستين يوماً، ودمشق والمدن السورية الأخرى مغلقة جميعها من أقصى البلاد إلى أقصاها، وتشكلت في عدة لجان شعبية في بعض الدول العربية مثل مصر وفلسطين والتي تولت عمليات التموين وجمع التبرعات وتوزيعها، وكان التجار والأغنياء أسخياء في تبرعاتهم، وأعلن كثير من أصحاب بيوت السكن أنهم أعفوا المتسأجرين من دفع الأجور طول مدة الأضراب، ومر عيد الأضحى والمدينة مغلقة فتبرع الأطفال بعيدياتهم لأبناء الشهداء وللعائلات الفقيرة و الحركة الوطنية.
لم تلبث وزارة الشيخ تاج الدين الحسني أن سقطت، وأصدر الرئيس محمد علي العابد مرسوم قبول استقالة حكومة الشيخ تاج الدين الحسني الثاني في الثالث والعشرين من شباط عام 1936م.
وغادر الشيخ تاج إلى بيروت ومنها إلى فرنسا.. أما حسني الرازي فقد توارى، وكانت الحراسة الفرنسية مشددة على بيوت أولئك الوزراء خوفاً من انتقام الشعب.
وفي 24 شباط 1936م، تألفت وزارة عطا الأيوبي الانتقالية للإشراف على الحكم مدة المفاوضات بين الكتلة الوطنية وفرنسا.
(1) فرزات (محمد حرب)، الحياة الحزبية في سوريا، منشورات دار الرواد، الطبعة الأولى حزيران 1955، ص 129.
(2) صحيفة عام 1936- مظاهرات دمشق وإعتقال البارودي
(3) من مذكرات أكرم الحوراني – الإنفجار الكبير .. إضراب الستين يوماً في سوريا
اقرأ:
صحيفة عام 1936- مظاهرات دمشق وإعتقال البارودي
بيان اللجنة الفلسطينية لدعم الإضراب الستيني في سورية عام 1936
من مذكرات أكرم الحوراني – الإنفجار الكبير .. إضراب الستين يوماً في سوريا
اقرأ ايضاً:
مرسوم قبول استقالة تاج الدين الحسني رئيس مجلس الوزراء عام 1936
حكومة تاج الدين الحسني الثانية
صحيفة 1936- مظاهرة الطلاب في دمشق وجرح رجال الكتلة الوطنية
المراجع والهوامش:
(1). صحيفة 1936- مظاهرة الطلاب في دمشق وجرح رجال الكتلة الوطنية
(2). صحيفة فلسطين- يافا، العدد 273- 3157 الصادر في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من كانون الأول 1936م.
المراجع والهوامش:
(1). صحيفة 1936- مظاهرة الطلاب في دمشق وجرح رجال الكتلة الوطنية
(2). صحيفة فلسطين- يافا، العدد 273- 3157 الصادر في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من كانون الأول 1936م.
