مقالات
عمرو الملاّح : زكي الكوراني … حاكم دولة حلب المنسي
عمرو الملاّح- التاريخ السوري المعاصر
شهد التاسع من أيلول عام 1920 إعلان ما يُسمى بــ”الاستقلال الذاتي” (الأوتونومية) لحلب بعد يوم واحد فقط على إعلان المفوض السامي الفرنسي في سورية ولبنان الجنرال غورو في 8 أيلول/ سبتمبر من العام 1920 قيام “دولة حلب” [1]؛ وذلك ضمن سياق عملية إعادة تقسيم أجزاء من سورية الخاضعة للانتداب الفرنسي إلى كيانات إدارية كبرى اصطلح على تسميتها بـ “الدويلات” السورية.
ولقد سمي الفريق كامل باشا القدسي حاكماً عاماً لدولة حلب الوليدة يعاونه مجلس مديرين (وزراء) ضم في عضويته كلاً من مرعي باشا الملاح مدير الداخلية العام، وصبحي النيال مدير العدلية العام، ونصري البخاش مدير التجارة والزراعة العام، وفيكتور عجوري مدير المالية العام [2].
وكان لهذه الدولة علم لونه أبيض، وفي جانبه الأيسر الأعلى علم فرنسي صغير، وفي وسطه خمسة نجوم ترمز إلى الألوية التي تتألف منها الدولة، وهي: حلب، ودير الزور، ولواء الاسكندرون، وأورفة، ومرعش. وما لبث أن حذف من العلم نجمتان، في إشارة إلى سلخ أورفة وعينتاب إثر إبرام معاهدة (فرانكلان بويون) بين فرنسا وتركيا الكمالية في العام 1921 [3].
الكوراني في مديرية عدلية دولة حلب
شهد خريف العام 1921 تقديم مرعي باشا الملاح استقالته من منصب مدير الداخلية العام الذي كان يشغله في 8 أيلول/ سبتمبر 1921 نظراً لرفضه العمل مع سلطة الانتداب من موقع التبعية على نحو ما أكده القنصل البريطاني بحلب، الذي كتب في تقرير له قائلاً: “كان مرعي باشا قد أظهر حينما شغل منصب مدير الداخلية قدراً كبيراً من الاستقلال.. وهو سلوك كان على دراية تامة بأنه لم يكن ملائماً للفرنسيين” [4]، وهو ما يتقاطع أيضاً مع ما أورده أسعد الكوراني في مذكراته حينما عزى استقالة الملاح من مديرية الداخلية إلى “اعتزازه بنفسه” [5].
فما كان من الفرنسيين إلا أن عمدوا إلى ملء الفراغ الذي أحدثته استقالة الملاح من منصبه عبر إجراء تعديل حكومي طال اثنتين من المديريات التي قامت مقام الوزارات، ألا وهما الداخلية والعدلية؛ فسموا صبحي النيال مديراً للداخلية بالوكالة نقلاً من مديرية العدلية، والقاضي زكي الكوراني الذي كان يشغل منصب مدعي عمومي الاستئناف (النائب العام) في دولة حلب مديراً للعدلية بالوكالة. وكان إصرار الفرنسيين على تسمية النيال والكوراني مديرين بالوكالة مدار استغراب أسعد الكوراني الذي أكد في مذكراته أنه ظل كل منهما يمارس مديريته إلى نهاية نظام المديرين براتب وصلاحيات أصيل، مشيراً إلى أن زكي الكوراني تولى تأسيس عدلية دولة حلب في عهد مديريته [6].
واللافت للنظر في هذا السياق المساعي التي بذلها الكوراني، إبان إشغاله منصب مدير العدلية العام بالوكالة في دولة حلب، لتكريس القطيعة على صعيد الأنظمة القانونية بين عهد المملكة السورية العربية المنهارة وحقبة الانتداب الفرنسي على نحو ما تجلى- مثلاً- بدعمه إلغاء التعديلات التي أجرتها الحكومة العربية في عهد فيصل على أصول المحاكمات الحقوقية وفقاً لما أورده فارس الخوري في مذكراته [7].
الكوراني في حاكمية دولة حلب
في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1922 عين الجنرال غاستون بيوت مندوباً للمفوض السامي لدى دولة حلب خلفاً للجنرال دولاموت. وقد عمل بيوت على انتهاج سياسة مختلفة عن تلك التي انتهجها سلفه دولاموت ذي النزعة المراكشية الاستعمارية؛ فبرز في عيون الحلبيين بوصفه أنموذجاً للمندوب الفرنسي الذي يخدم المدينة على نحو ما تجلى في وصف رجل الاقتصاد والسياسة سليم جنبرت له بـ”صديق الحلبيين الحميم” نظراً “لما له من التنظيم العظيم، والإرشاد الثمين” [8].
وقد ارتأى الجنرال بيوت أن يعفي حاكم دولة حلب العام الفريق كامل باشا القدسي من منصبه نظراً لتقدمه في السن، وتدهور وضعه الصحي على نحو لم يعد يساعده على مواصلة النهوض بأعباء الحكم. وبغية تقليص النفقات الإدارية الضخمة التي بلغت حداً لا تحتمله واردات دولة حلب أمر الجنرال بيوت بإلغاء المديريات العامة مكتفياً بالمفتشين ورؤساء المصالح وبالنائب العام الاستئنافي، وعهد إلى مدير العدلية العام بالوكالة زكي الكوراني بإشغال منصب حاكم دولة حلب بالوكالة ولكن باختصاص كامل في أواخر العام 1922 لكي يتولى تنفيذ هذا التنسيق [9].
والواقع إن كل هذه التطورات الأنفة الذكر التي شهدتها دولة حلب على الأصعدة السياسية والإدارية والمالية قد تزامنت مع إعلان “اتحاد الدول السورية” على أساس فيدرالي برئاسة صبحي بركات مع إبقاء كل من دولة حلب ودمشق واللاذقية وحكامها العامين، وإلغاء المديريات العامة التي كانت تقوم مقام الوزارات في تلك الدويلات الثلاث، والاستعاضة عنها بمديريات مركزية، وإحداث مجلس اتحادي يؤخذ أعضاؤه من ممثلي الدويلات الثلاث كان مقره حلب أولاً ثم ما لبث أن نقل إلى دمشق، مع إبقاء المجلس التمثيلي (النيابي) في دولتي حلب ودمشق [10].
لم تطل مدة إشغال زكي الكوراني لمنصب حاكم دولة حلب بالوكالة سوى بضعة أشهر أنجز خلالها التنسيقات الادارية؛ إذ عمد الجنرال بيوت إلى تعيين مصطفى برمدا رئيس محكمة الجنايات في حلب حاكماً عاماً لدولة حلب بالأصالة في الأول من نيسان/ أبريل عام 1923، لأن منزلته في القضاء كانت رفيعة ومكانته الشعبية كانت عالية وله شخصية قوية، فعارضه معاونه المسيو ريكلو في هذا الاختيار ورأى تثبيت زكي الكوراني في المنصب وتعيينه فيه بالأصالة بعدما كان يشغله بالوكالة، ولكن كلمة الجنرال كانت هي النافذة، وأعيد الكوراني إلى سلك القضاء معيناً رئيساً لمحكمة الجنايات في دولة حلب [11].
كلمة أخيرة
في ضوء ما ذكر أعلاه، فإن القاضي زكي الكوراني كان ثاني شخصية حلبية تعاقبت على إشغال منصب حاكم دولة حلب العام بعد الفريق كامل باشا القدسي. وإنه لمن المستغرب أن تخلو الرواية الرسمية للتاريخ السوري من أي إشارة إليه واستعراض للدور الذي اضطلع به في الحياة السياسية، وكذلك ألا يدرج اسمه في قائمة من تعاقب على حكم حلب في عهد الانتداب الفرنسي.
إحالات مرجعية:
[1] حسن الحكيم، الوثائق التاريخية المتعلقة بالقضية السورية، دار صادر، بيروت، 1974، ص53.
[2] أسعد الكوراني، ذكريات وخواطر مما رأيت وسمعت وفعلت، دار الريس، لندن، 2000، ص55-56.
[3] المصدر نفسه، ص ص55. إن أفضل عرض مكثف لخسارة الألوية الشمالية بموجب اتفاقية فرانكلين-بويون يمكن الاطلاع عليه هو في مهند الكاطع، “تبدلات الحدود السورية – التركية في فترة ما بين الحربين”، المنشور في موقع (Syria TV تلفزيون سوريا).
[4] الأرشيف الوطني البريطاني، 371-10164، تقرير سياسي للقنصل البريطاني في حلب بشأن مرعي باشا الملاح وموقفه من الانتداب الفرنسي، تا 26 كانون الثاني/ يناير 1924.
[5] الكوراني، ذكريات، ص 60.
[6] المصدر نفسه، ص 56.
[7] أوراق فارس الخوري، الكتاب الثاني، تنسيق وتحقيق وتعليق كوليت الخوري، دار طلاس، دمشق 1989، ص 220، 225.
[8] محمد جمال باروت، “التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية: أسئلة وإشكاليات التحوّل من البدونة إلى العمران الحضري”، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، ص 158-159، نقلاً عن خطاب رئيس غرفة تجارة حلب في 8 تشرين الأول 1926، في حفل استقبال الوزير المفوض ريفي الوكيل المعتمد عن دو جوفينيل، مجموعة غرفة التجارة بحلب، س8، 1926، ص36.
[9] الكوراني، ذكريات، ص 57.
[10] للاستزادة بشأن هذه التطورات السياسية انظر حوادث سنتي 1922 و1923 في عينتابي محمد فؤاد و نجوى عثمان، حلب في مئة عام، الجزء الثالث 1921-1950م، معهد التراث العلمي العربي، جامعة حلب، 1992.
[11] الكوراني، ذكريات، ص 58.
اقرأ ايضاً: