مقالات
عمرو الملاّح: الشيخ كامل الغزّيّ.. مؤرخ حلب
عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
حياته ومصادر ترجمته:
هو كامل بن حسين بن محمد بن مصطفى البالي الحلبي الشهير بالغزّيّ، ولد في حلب سنة 1270هـ /1853م أو قبلها بسنة في أقرب الروايات وتوفي فيها سنة 1351هـ/1933م.
نشأ في بيت علم وشرف فقد كان أبوه الحسين (1235 -1272هـ /1819-1855م) من أشهر رجال الشام في الفقه والحديث والأدب؛ ولد في مدينة غزة بفلسطين، ودرس في الأزهر، ثم رحل إلى جزيرة أرواد، ومنها إلى طرابلس الشام، ثم استقر في حلب في منتصف القرن الثالث عشر للهجرة ولبث فيها مدرساً بالمدرسة السيافية في محلة الفرافرة، ثم وجهت إليه الخطابة في عهد الوالي العثماني سليمان رأفت باشا (1269-1272هـ/ 1852-1855م)، ومن مصنفاته المخطوطة «رسالة في التوحيد»، و«المقالات في بيان المجازات». توفي في السادسة والثلاثين من عمره تاركاً ولده كامل يتيماً لم يكد يبلغ الثالثة من عمره، وتزوجت أمه بعده الشيخ محمد هلال بن محمد الآلاجاتي، وأنجبت منه أخاه الشيخ بشير الغزّيّ الذي رباه في حجره صغيراً حتى غلبت كنيته عليه.
بدت مخايل النبوغ عليه باكراً، فحفظ القرآن الكريم وله ثماني سنوات، وفي الحادية عشرة بدأ دروسه في المدرسة القرناصية بحي الفرافرة في حلب، ثم سعى إلى الشيوخ في بلده فأخذ العلم عن الشيخ كامل الكحيل والشيخ مصطفى الكردي وغيرهما من أجلة علماء عصره، وبدأ نظم الشعر وهو فتى.
ولم يكتف بما تلقاه عن أساتذته من علوم الدين، من فقه وحديث وفرائض وما يخدمها من علوم اللسان، بل أضاف إليها باجتهاده بعض العلوم الأخرى، مما لم تكن تتسع له مناهج الدرس في أيامه، ومن ذلك (التاريخ) الذي عمق معلوماته فيه استناداً إلى مؤلفات من سبقه من فحول المؤرخين كالطبري وابن الأثير وابن العديم وغيرهم؛ فتوافرت له بذلك ثقافة موسوعية كانت له رصيداً كبيراً استمد منه المادة الرئيسة لوضع كتابه المرجعي «نهر الذهب في تاريخ حلب» وغيره من مصنفاته.
وأخذ منذ شبابه الأول يكتب وينشر في كبريات الدوريات العربية والسورية مقالات وبحوثاً تناولت مختلف العلوم المعروفة لوقته من دينيّة ولغوية وأدبية، يعدها العارفون من خالص الأدب الرفيع، وما لبث أن عُني بالأدب الشعبي والفنون في حلب حتى غدا العالم المرجع في موضوعاته.
تقلّد الغزّيّ عدداً من المناصب الرسمية في بلده في مختلف العهود التي خبرها، ألا وهي العثماني والفيصلي والانتدابي، فتولى في العهد العثماني رئاسة كتّاب المحكمة الشرعية وعمل نائباً لحاكمها للحكم والنظر في الدعاوى مرتين، وأنيطت به رئاسة تحرير جريدة ولاية حلب الرسمية «فرات» نحو عشرين سنة خلفاً لصديقه ورفيق دربه المفكر التنويري الكبير عبدالرحمن الكواكبي، وسمي مديراً لمكتب الصنائع وهو أول مؤسس له، ورئيساً لكل من مجلس إدارة المصرف الزراعي، وغرفة التجارة والزراعة والصناعة، وانتخب غير مرة عضواً في المجلس البلدي. كما انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وعهد إليه المجمع بإدارة شؤون فرعه في حلب، وسمي عضو شرف في المجمع العلمي الفرنسي بباريس.
كان الغزّيّ أحد رجالات الرعيل الأول الذين اضطلعوا بدور أساسي في النهضة العلمية التي شهدتها البلاد في العصر الحديث؛ فكان له في هذا المجال مآثر تذكر وتشكر، ومنها إسهامه في تأسيس المكتبة العامة للكلية الشرعية «الخسروية» التابعة لمديرية أوقاف حلب، وترتيبه لها ووضعه لبرنامجها. كما كان له الفضل على «دار الكتب الوطنية» في حلب؛ إذ وضع لبنتها الأولى سنة 1342هـ/1924م لتكون في طور نشأتها الأولى فرعاً لدار الكتب الوطنية الظاهرية في دمشق، وهي المكتبة ذاتها التي تطورت بعد ذلك وظلت تنمو على مر الأيام حتى غدت المكتبة الوطنية الفخمة الشهيرة. وولي سنة 1342هـ/1924م رئاسة جمعية الآثار القديمة «العاديات» وكان اسمها الذي انطلقت به «جمعية أصدقاء القلعة والمتحف»، وهي أول جمعية أهلية تُعنى بالآثار على مساحة الوطن العربي، وتعد مفخرة من مفاخر الشهباء حالياً إذ امتدت فروعها لكل محافظات الوطن للحفاظ على تراثه وآثاره. وعين عضواً في اللجنة الإدارية للمتحف الوطني بحلب، ورئيساً لتحرير مجلة «العاديات السورية» فحمل أعباءها وحده حتى الأيام الأخيرة من حياته.
نال الغزّيّ العديد من الأوسمة اعترافا بدوره الكبير في حماية التراث والحفاظ عليه والتعريف به، ومساهماته العلمية المميزة، ومنها الوسام «المجيدي» العثماني من الدرجة الرابعة سنة 1316هـ/ 1898م، ووسام «المعارف» الفرنسي من الدرجة الثانية سنة 1342هـ/ 1924م. وفي سنة 1349هـ/ 1931م منح كلاً من وسام «المعارف» الفرنسية من الدرجة الأولى، ووسام «الاستحقاق السوري» من الدرجة الثانية.
اتسعت ترجمة الغزّيّ في المصادر تبعاً لامتداد شوطه واتساع أثره ، ومن أوائل الذين عنوا بالترجمة له من معاصريه الأديب الحلبي المعروف قسطاكي الحمصي (1275-1360هـ/ 1858-1941م) في كتابه «أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر»، وعنه نقل آخرون مادة الترجمة له [1].
مكانته في بلده:
بلغ الغزّيّ بعلمه وجدّه منزلة فريدة عند الحكام، وقد قرأنا في الجزء الثالث من «النهر» عن علاقته الوثيقة بولاة حلب العثمانيين وثقتهم الشديدة به. فعرفنا أن الصدر الأعظم محمد رشدي باشا الشرواني قد اصطحبه معه إماماً عندما حول عن ولاية حلب إلى مكة المكرمة سنة 1291هـ/1874م، فلبث فيها ثمانية أشهر عاد بعدها إلى بلده وعمره يومئذ عشرون سنة. وأن الصدر الأعظم محمد كامل باشا القبرصي قد اتخذه إماماً له في صلاة التراويح أثناء ولايته حلب (1294ـ–1296هـ/ 1877–1878م).
ويبدو أنه قد نعم بثقة المشير حسين جميل باشا (1297-1304هـ/1879-1886م) فطلب إليه تأريخ تجديد عمارة حوض الجامع الكبير بأبيات من نظمه سنة 1302هـ /1884م. وكذلك كان أمره مع رائف باشا (1313-1318هـ /1895-1900م) الذي أعجب بعلمه وشخصيته، فطلب إليه إلقاء خطبة افتتح بها حفل وضع أساس منارة ساعة باب الفرج سنة 1316هـ/1898م.
ونظراً لما امتاز به الغزّيّ من كفاية إدارية عرض عليه أنيس باشا (1318-1320هـ /1900م-1902م) تولي إدارة مكتب الصنائع الذي أنشئ في عهده فقبل. وحين عزل أنيس باشا خلفه مجيد بك (1320-1322هـ/ 1902-1904م) وكان له ابنٌ على جانب عظيم من الزهو و الخيلاء، فأخذ يضايق الغزّيّ بشتى المضايقات، فآثر السلامة بترك إدارة مكتب الصنائع حتى بلغ الخبر الوالي، فاستاء من ولده وزجره واسترضى الغزّيّ ليعود إلى إدارة مكتب الصنائع ثانية، ثم اتصل بناظم باشا (1323-1333هـ /1905-1909م) الذي أعجب بنظمه وإنشائه، فطلب إليه تأريخ توسيع حجازية الجامع الكبير بأبيات من نظمه سنة 1325هـ/1907م. وعلت منزلته عند جلال بك (1331-1333هـ/1912-1914م) فسيره إلى دمشق لاستقبال العلم النبوي الشريف المحمول إليها من المدينة المنّورة إيذاناً بالنفير العام.
وقد توطدت الثقة بينه وبين توفيق بك الذي ولي حلب سنة 1335هـ/1916م، ولا عجب في ذلك، فقد طلب إليه أن يفتح حفل جرّ ماء عين التل إلى حلب بقصيدة من نظمه.
وبعد قيام الحكومة العربية إثر جلاء الجيش العثماني عن البلاد ندبه أمير اللواء شكري باشا الأيوبي الدمشقي وكان حاكماً عسكرياً على حلب لمرافقة اللنبي القائد العام للجيوش الإنكليزية العربية الفرنسية في سورية وفلسطين في زيارته للأماكن التاريخية في مدينة حلب سنة 1337هـ/1918م.
وبعد انقضاء العهد العربي لازم الغزّيّ من تعاقب على حَكمَ حلب من كبار أعيانها كالفريق كامل باشا القدسي (1338-1340هـ/ 1920-1922م)، ومصطفى حلمي بك برمدا (1341هـ/1923م)، ومرعي باشا الملاّح (1342-1344هـ/1924-1926م)، وعاش بجانبهم معظَماً عندهم محبباً إليهم، فذكرهم في «النهر» مادحاً، وخص آخرهم بالثناء الجزيل إذ ولي الغزّيّ في عهده إدارة دار الكتب الوطنية ورئاسة «جمعية أصدقاء القلعة والمتحف» سنة 1342هـ /1924م، وأتاح له الانصراف إلى العلم والتصنيف فأصدر سفره النفيس «نهر الذهب».
وقد اشتهر الغزّيّ منذ شبابه الأول بسعة الثقافة، وحب المطالعة، والذكاء الواضح، والعقل الراجح. وكان ذا نفس لا تعرف التعصب، ولا عجب في ذلك، فقد كان أصدقاؤه من مختلف الأديان.
وكان إلى ذلك يعظ في أكثر منابر بلده، فيفيد من فيض علمه وغزير معرفته، فأصبح محط الأنظار يفد إليه الكبراء يستمدون منه النصح والمشورة، ومن هؤلاء عبدالرحمن زكي باشا المدرس الوجيه الحلبي الكبير المتوفى سنة 1327هـ/1909م الذي طلب إليه إنشاء كتاب وقف الجامع الذي بناه في محلة السليمية (الجميلية) سنة 1318هـ /1900م.
خزانته:
عرف عن الغزّيّ أنه أولع باقتناء الكتب منذ صباه، فكان يطوف الأسواق في بلده ويراسل المكتبات في المشرق والمغرب متحرياً النفيس من أصنافها. حتى اجتمعت له منها خزانة نفيسة عامرة عدها العلامة محمد كرد علي في كتابه المرجعي «خطط الشام» واحدة من أشهر خزائن حلب لوقته.
وقد قرأنا في «النهر» أسماء بعض المصادر التي كانت عنده فمن ذلك:
- الدر المنتخب: لابن خطيب الناصرية بخط مؤلفه؛
- كنوز الذهب: لأبي الذر ، بخط مؤلفه؛
- شفاء السقيم بآيات إبراهيم: لابن الملا؛
- معادن الذهب: لأبي الوفا العُرضي، وهو الآن من نفائس المتحف البريطاني في لندن، وعنه أخذت النسخة التي حققها الدكتور محمد ألتونجي.
أثاره ومؤلفاته:
هذا الاطلاع الواسع، وتلك الخزانة العامرة اللذان توفرا للغزي جعلاه يتمتع بثقافة موسوعية مكّنته من كتابة مؤلفات كثيرة أثرت المكاتب العربية منذ مطالع القرن الرابع عشر للهجرة حتى الأيام الأخيرة من حياته .وكلّها لا تحلّه المكانة التي استحقها بعد وضعه سفره النفيس «نهر الذهب».
فأما آثاره المطبوعة فهي:
- إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف: عرّبه عن التركية – ومؤلفه عمر حلمي – وقد ألمع إليه في «النهر» وطبعه في مطبعة البهاء في حلب سنة (1327هـ-1909م)؛
- انتقاد العادات السيئة: طبع في حلب سنة 1339هـ/1920م، وهي محاضرة تقع في 23 صفحة ألقاها سنة 1920 في نادي الشهباء؛
- الروزنامة الدهرية: طبع في حلب سنة 1341هـ/1922م؛
- نهر الذهب في تاريخ حلب: في ثلاثة مجلدات كبار، والمجلد الرابع منه في التراجم ما زال مخطوطاً، وقد طبعه في المطبعة المارونية في حلب بين سنتي (1342-1345هـ/1924-1926م).
ومن آثاره المخطوطة:
- ديوان شعر؛
- الذيل على الروزنامة الدهرية؛
- القول الصريح في الأدب الصحيح؛
- ترجمة الصنوبري وأشعاره؛
- الروضة الغناء في حقوق النساء؛
- جلاء الظلمة في حقوق أهل الذمة.
علاوة على عشرات المقالات العلمية والتحقيقات اللغوية والتاريخية المبثوثة في كبريات الصحف العربية والسورية كجريدة ثمرات الفنون، والبلاغ، والمفيد، والحقيقة، ومجلة الشرق في بيروت، ومجلة الفتح، والمكتبة، والزهراء في مصر، والحقائق في دمشق، وجريدة الفرات، وصدى الشهباء التي كان الغزّيّ قد أنشأها مع حكمت ناظم بك نجل الوالي محمد ناظم باشا سنة (1326هـ/1908م)، ومجلة الاعتصام، والجامعة الإسلامية، والحديث، والعاديات في حلب.
ومن أهمها ما حظيت بنشره مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق وهي:
- عثرات الأقلام، المجلد الرابع (1924م)؛
- تحوّل العوارض الجّوية في حلب، المجلد الرابع (1924م)؛
- الموسيقى والموسيقاريون في حلب، المجلد الخامس (1925م)؛
- كلمة في (ولا سيما) ، المجلد السادس (1926م)؛
- الهجنة في لهجة الحلبيين، المجلد السابع (1927م)؛
- كتاب نزهة العيون في أربعة فنون، المجلد الثامن (1929م)؛
- قوة الحافظة وكثرة المحفوظات، المجلد العاشر (1930م)؛
- الشاعر الصنوبري، المجلد الحادي عشر (1931م)؛
- الشواذ في علم النحو، المجلد الحادي عشر (1931م)؛
- قصيدة الفراسة، المجلد الثاني عشر (1932م).
إحالات مرجعية:
[1] قارن مع: إسماعيل البغدادي، إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (بيروت: دار الفكر 1982)؛ خير الدين الزركلي، الأعلام (بيروت: دار العلم للملايين 1990)؛ سامي الدهان، قدماء ومعاصرون (القاهرة: دار المعارف 1961)؛ سامي الكيالي، الأدب العربي المعاصر في سورية 1850ـ 1950 (القاهرة: دار المعارف، 1968)؛ عائشة الدباغ، الحركة الفكرية في حلب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (بيروت: دار الفكر 1972)؛ عمرو الملاّح، الشيخ كامل الغزي مؤلف نهر الذهب في تاريخ حلب (حلب: دار القلم العربي 1991)؛ قسطاكي الحمصي، أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر (حلب: مطبعة الضاد 1968).
اقرأ ايضاً: