قراءة في كتاب
عبد الناصر والتأميم ووقائع الإنقلاب الإقتصادي في سورية
يتابع المؤرخ سامي مبيض محاولاته في كسر القالب التاريخي الجامد الذي آطر رؤية أجيال كاملة في سورية وقدم لها تفسير آحادي الجانب حول قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية آثرت ومازالت تؤثر في تطور المجتمع السوري إذا لم نقل أنها كانت أحد أسباب تفاقمه وانهياره.
القالب التاريخي هذا والذي درسناه في مدارسنا وجامعاتنا، منذ عشرات السنين، حتى تحول إلى ثوابت تكاد تكون غير قابلة للنقاش عند البعض، استطاع ان يصور لنا دائما البرجوزاية السورية على أنها حليفة للاستعمار الغربي، دون أن يترك لها أدنى فرصة لأن تدافع عن نفسها، أو توضح وجهة نظرها حيال ما طرأ من تطور على سورية، اوأن تكشف عن دورها الوطني الذي أغفل عن قصد او عن غير قصد.
ضمن هذا الإطار جاء الكتاب الجديد للدكتور مبيض بعنوان : (عبد الناصر والتأميم ووقائع الإنقلاب الاقتصادي في سورية)، وهو محاولة لرواية حقيقة التاجر السوري بالعموم والدمشقي بالخصوص في النصف الأول من القرن العشرين حتى قيام الجمهورية العربية المتحدة عم 1958م، إلا ان القارئ يستطيع ان يلاحظ ان المؤلف حاول معالجة جدلية (البرجوزاية والعسكر) منذ أول إنقلاب للعسكر على أولياء الأمر عام 1949م، وحتى مرحلة إنقلابهم على بعضهم البعض، عبر قضية تأميم العسكر للمؤسسات الوطنية السورية التي لعبت دوراً بارزاً في استقلال سورية الذي يقول الكاتب أنه كان أشبه بالمستحيل لولا الأموال التي ضخت بشرايين الحركة الوطنية، بشقيها السياسي والعسكري الذي وصل لدرجة جمع مبالغ وشراء طائرات عسكرية قدمت إلى بريطانيا حتى تكون سورية مساهم عسكري في الحرب العالمية الثانية.
و الكتاب محاولة للاقتراب من موقف الطرف الآخر وهو موقف أصحاب الشركات، ووجهة نظر صاحب الأرض المؤممة، وصاحب المعمل المصادر، وصاحب المصرف المستملك لأنهم: (تعرضوا لظلم شديد، وأن الوقت حان لإنصافهم ولإعادة قراءة تجربتهم القصيرة، ونتائجها على تاريخ سورية المعاصر)، ويروي الكتاب قصة تجار وصناعيين نحتوا في الصخر لكي يشيدوا مصانع كانت مفخرة لكل الوطن، تحولت بشطبة قلم إلى سراب.
كما يعد الكتاب محاولة لتحريض القارئ على التفكير في الوحدة وناصرها، ومحاولة غنية جداً لتوثيق تلك المرحلة التي ضاعت الوثائق عنها أو أحرقت أو سرقت في عتمة الإنقلابات العسكرية والتقلبات السياسة التي عصفت في سورية، فضلاً عن شهادات تنشر لأول مرة لضحايا التأميم الذين كشفوا عن تفاصيل مهمة وموضوعات لم يتطرق إليها أحد مثل ظروف تأسيس الشركة الخماسية ودورها الاجتماعي ثم كيفية تأميمها، وكذلك تفاصيل لا تقل أهمية حول أسبوع التسليح الذي جرى في سورية.
يستطيع القارئ ان يلاحظ أن المؤلف لم يكن ابناً برجوازياً إلا في مقدمة الكتاب، ثم يعود إلى مهنته كمؤرخ يحاول نقل وجهة نظر الطرف الآخر، وتقديم شواهد ورويات سورية ربما تكون قاسية في بعض الأحيان عند البعض، ولكنها محاولة لنشر الحقيقة قبل ان تموت مع أصحابها، إلا أنه أيضا لم يعطي التجاذبات الإقليمية والدولية في سورية حقها في كتابه.
صدر الكتاب عن دار رياض الريس للطباعة والنشر في حزيران العام الحالي 2019م، وجاء في ثلاثة عشرة فصلاً تناولت التأميم والحياة المصرفية والشركات والمؤسسات التي جرى تأميمها سواء في دمشق أو حلب، فضلاً عن التطرق إلى أصحاب تلك الشركات وتجربتهم في بنائها وموقفهم من تأميمها، وقدم للكتاب عبد الله الخاني القاضي في محكمة العدل الدولية سابقاً، والأمين العام الأسبق لرئاسة الجمهورية في سورية في زمن الرؤساء شكري القوتلي وهاشم الأتاسي، والذي تحدث عن ظروف قيام الوحدة، ثم الأخطاء التي ارتكبت خلالها وبأسمها. ويتضمن الكتاب مقابلات مع شخصيات عاصرت تلك المرحلة مثل سامي شرف، مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، وأمر سلاح الجو في عهده اللواء وديع المقعبري، وموفق عصاصة، أحد قادة الإنفصال، إضافة للوزير الأسبق المصرفي نعمان الأزهري، والمدير المالي للشركة الخماسية نجم الدين دياب، وأحد مدرائها المؤسسين رفعت القطب (شقيق المؤسس أنور القظب)، ومدير غرفة تجارة دمشق في الخمسينيات عبد الغني حمور، صهر أحد أعمدة الإقتصاد في حينها، عبد الهادي الرباط.