مقالات
عمرو الملاّح: محمد خليل المدرس.. رائد الصناعات النسيجية في سوريا
عمرو الملاّح – التاريخ السوري المعاصر
ارتبط نشوء الصناعة السورية وتطورها طوال الفترة الممتدة من أوائل الثلاثينيات إلى مطالع الستينيات من القرن المنصرم ارتباطاً وثيقاً بإقامة الشركات المساهمة المغفلة لتعبئة المدخرات وتحويلها إلى مشروعات استثمارية يمكن أن تدر الأرباح إذا ما حظيت بالدعم الشعبي المناسب.
وسنحاول في هذه المقالة إلقاء أضواء كاشفة على تجربة محمد خليل المدرس (1901-1958) الذي كان أحد رواد الصناعة السوريين، وارتبط اسمه بـ «الشركة السورية للغزل والنسيج» التي تأسست بمدينة حلب في العام 1933، وكانت أول شركة صناعية أقيمت في عاصمة الشمال السوري، والثانية في سوريا بعد «الشركة الوطنية لصنع الشمينتو ومواد البناء» التي تأسست بدمشق في العام 1930، ولكنها كانت كبرى الشركات الصناعية السورية في قطاع الغزل والنسيج حتى مطلع الستينيات حينما صدر قرار تأميمها.
وكان المدرس، المولود بحلب في العام 1901، ينتمي إلى أسرة عريقة من «الأعيان» البارزين، وكبار ملاك الأراضي، ممن كانوا يحظون بموقع مرموق في النخبة البيروقراطية العثمانية المحلية. وقد تلقى تعليمه في مدرسة الألمان بمحلة الصليبة، ومن هنا نشأ اهتمامه بأنموذج التصنيع الألماني الذي سيحاول نقله لاحقاً إلى سوريا.
وقد برز اسم محمد خليل المدرس بوصفه واحداً من أبرز رواد مشروع التوسع بزراعة القطن في سورية الشمالية في عقد العشرينيات إبان إشغاله منصب عضو مجلس إدارة غرفة زراعة حلب، حينما كان وشقيقه أحمد خليل المدرس من بين أوائل المزارعين الذين عملوا على إدخال زراعة القطن الأمريكي (لونستار) في المزارع التي كانا يمتلكانها، وتقع مساحات واسعة منها في قرى كتيان وحميمة كبيرة والنيرب في ريف حلب.
وفي خضم الأزمة الاقتصادية العالمية ارتأى المدرس أن يخوض غمار العمل التجاري، فافتتح مع أخيه محلاً في خان الجمرك في العام 1930، وتعرف إلى التجار، ودرس حالة السوق والغزول والمنسوجات، وخرج من هذه الدراسة بفكرة إنشاء معمل للنسيج، وأجهر بها بين بعض المخلصين من أصدقائه، وفي عدادهم كل من رجل السياسة البارز الدكتور عبد الرحمن الكيالي، وهو أحد كبار ملاك الأراضي أيضاً وقادة الكتلة الوطنية ومن ثم رئيس الحزب الوطني في حلب، والحاج مصطفى شبارق، وهو أحد كبار تجار الحبوب وكان يمتلك مطحنة ضخمة، والحاج توفيق الميسر، وهو تاجر ثري ممن يمتلكون إحدى الخانات في المدينة والمعروف باسم أسرته، والحاج نديم الوفائي، وهو أحد كبار تجار المواد الغذائية ولا سيما السمن، الذين سيصبحون بالإضافة إليه من بين المؤسسين الأوائل للشركة السورية للغزل والنسيج.
وبالفعل فقد تأسست «الشركة السورية للغزل والنسيج» بوصفها شركة مساهمة مغفلة وفق مرسوم الجمهورية السورية الصادر بتاريخ 18 شباط/ فبراير من العام 1933. وبلغ رأسمالها الأولي 30 ألف ليرة عثمانية ذهباً، وزع على 15 ألف سهم بقيمة ليرتين عثمانيتين ذهباً للسهم الواحد. وعلى الرغم من أن سعر السهم لم يكن مرتفعاً لكي يتمكن المواطنون الحلبيون من شراء الأسهم، إلا أن الاستجابة الأولية للعرض كانت دون المتوقع، ولعل السبب في ذلك يعود إلى استمرار حالة الانكماش الاقتصادي التي كانت امتداداً لسنوات الأزمة الاقتصادية العالمية، مما اضطر الشركة إلى تمديد فترة الاكتتاب على الأسهم، وتوفير حوافز للمكتتبين تمثلت في منح سهم مجاني لكل مساهم يملك ما لا يقل عن ثلاثة أسهم؛ وذلك بالتزامن مع إطلاق حملة دعائية تولتها عدة صحف محلية، من أبرزها «الوقت» لصاحبها الصحافي طاهر سماقية، و«الأهالي» لصاحبها النائب والوزير شاكر نعمت الشعباني، شددت على ضرورة الربط بوضوح ما بين تأسيس الشركة والمشروع الوطني، وأن الاستقلال الاقتصادي هو الطريق الوحيدة التي تؤدي إلى الاستقلال السياسي، مبينة حجم العجز التجاري السوري، ومشيرة إلى أن التضامن بين المواطنين في استغلال طاقات البلاد هو العلاج، داعية الحلبيين للاكتتاب على أسهم الشركة. وبحلول شهر أيار/ مايو من العام 1934 بلغت مبيعات الأسهم المقدار الكافي الذي يتيح للشركة المضي إلى انتخاب مجلس إدارتها.
ولئن ظلت الهيمنة على الشركة محصورة في أيدي حفنة من المؤسسين، إلا أن ملكية الأسهم كانت موزعة بين أهالي حلب. وكان المدرس الممول الرئيس لمعظم رأس المال الأولي المستثمر في الشركة، على نحو ما تجلى من الانتخابات التي ستجعله رئيساً لمجلس الإدارة، وهو منصب سيحتفظ به سنوات طويلة.
وقد أسفرت انتخابات مجلس إدارة الشركة عن فوز مؤسسيها الأوائل كافة، ألا وهم محمد خليل المدرس، والدكتور عبدالرحمن الكيالي، والحاج مصطفى شبارق، والحاج توفيق الميسر، والحاج نديم الوفائي. كما فاز إلى جانب هؤلاء كل من الحاج علي خضير الذي كان ينتمي إلى عائلة تجارية تمتلك خبرة طويلة في مجال تصنيع المنسوجات الحريرية باستخدام الأنوال اليدوية، والتاجر المعروف الحاج كامل هيكل، وكذلك المصرفي البارز ألبير حمصي.
وقد جرى، بعدئذ، انتخاب أعضاء هيئة المجلس؛ فأصبح المدرس رئيساً، والكيالي نائباً للرئيس، وخضير مفوضاً، والوفائي خازناً، والميسر أميناً للسر، ونوري الحكيم مدققاً، بينما تقرر تعيين رجل القانون الشهير أسعد الكوراني مستشاراً قانونياً للشركة.
وسرعان ما سينجح المدرس، ذا الخلفية التعليمية الألمانية، في إرساء سابقة تمثلت في ترسيخ مبدأ استمر طويلاً لدى كافة شركات النسيج السورية، ألا وهو إيثار استخدام الآلات الألمانية على سواها، حينما سافر إلى أوروبا في شتاء العام 1934، حيث زار معامل ألمانية وإيطالية وإنكليزية وفرنسية بقصد اختيار التجهيزات اللازمة، وابتياع آلات ومعدات من شركة سيمنز – برلين من جملة شركات ألمانية أخرى.
كما أدى بناء مصنع الشركة إلى ترسيخ سابقة أخرى لا تقل أهمية. فعلى الرغم من أن صناعة النسيج كانت قد أخذت بالانتقال إلى أحياء جديدة في المدينة خارج السور، إلا أنها ظلت تتمركز قريباً من وسط المدينة، حيث كان الكثير من اليد العاملة يقيمون هناك. وأما «الشركة السورية للغزل والنسيج» فقد خرجت على هذا النمط حينما شيدت مصنعها على قطعة أرض تبعد مسافة 5 كم عن وسط المدينة على طريق عين التل، في منطقة كانت تضم حدائق وبساتين يتنزه فيها الحلبيون.
وقد أتاح هذا الموقع للشركة أن يكون لديها مصنع ذا بنية متكاملة، وأن تتخذ عملية الإنتاج فيها طابعاً مركزياً أيضاً. وفي حين أن معامل الغزل والنسيج ذات الحجم الصغير والقريبة من الأحياء السكنية قد حافظت على شيء من روح الورشات الحرفية؛ إلا أن «الشركة السورية للغزل والنسيج» وما جاء بعدها من صناعات ناشئة أقيمت في الضواحي الصناعية الجديدة الواقعة إلى الشمال من المدينة مثل عين التل والبليرمون، كانت عبارة عن معامل حديثة ذات طاقات إنتاجية كبيرة، وتجري أعمالها وفق نظام يعتمد الترشيد.
وفي أواخر العام 1935 أصبح المعمل في طريقه ليكون أول معمل سوري للغزل. وأخيراً، بدأ الإنتاج في سبتمبر/ أيلول من العام 1936 بقدرة مرتفعة بلغت 5045 مغزلاً تنتج 200 رزمة خيوط في اليوم.
وفي ظل رئاسة محمد خليل المدرس للشركة التي استمرت قرابة عشرين عاماً تخللها إشغاله منصبي محافظ حلب ووزير المالية مدة قصيرة في العام 1939، حققت «الشركة السورية للغزل والنسيج» نجاحات ضخمة برهنت على نجاحها للمستثمرين؛ ففي نهاية العام 1937 حققت الشركة ربحاً صافياً بلغ 30 بالمئة، يعود معظمها إلى شراء القطن الخام بموجب عقود مبكرة بـ «أسعار مغرية»، وتمكنها من بيع الخيوط التي تنتجها في السوق التركية.
وفي العام 1938 ازداد رأسمال الشركة إلى 100 ألف عثمانية ذهباً، نظراً لتوسعة الشركة وافتتاح قسم للنسيج ومعمل للصباغ، مما جعلها أول مصنع متكامل للنسيج في البلاد. وفي العام 1941 وظفت الشركة قرابة 600 عامل، يعملون ثمان ساعات يومياً. وبفضل زيادة نشاطها وكسب غير متوقع إبان سنوات الحرب العالمية الثانية نتيجة تخزين مقادير ضخمة من مادة الصباغ الألماني الثابت (انتاندره)، التي فقدت من الأسواق فارتفعت أسعارها ارتفاعاً فاحشاً، وطرح الشركة نسيجاً شعبياً ذا جودة عالية بأسعار مخفضة لتكون في متناول عامة الناس الذين تراجعت قدرتهم الشرائية بسبب الحرب، تمكنت الشركة من زيادة طاقة المصنع الإنتاجية التي ستبلغ 20000 مغزل و462 نول في مطلع الخمسينيات.
وقد ارتفعت قيمة الأسهم في العام 1945 اثني عشر ضعفاً عن قيمتها الأولية. وبعدما صدر قانون التجارة السوري للعام 1949 الذي فرض أن يكون رأسمال الشركات بالليرات السورية بدلاً من الليرات الذهبية العثمانية تحدد رأسمال «الشركة السورية للغزل والنسيج» بعشرة ملايين ليرة سورية.
ولم تقتصر توسعه «الشركة السورية للغزل والنسيج» على إحداث قسم للنسيج ومعمل للصباغ، وإنما ألحقها رئيس الشركة محمد خليل المدرس بإيلائه اهتماماً خاصاً لزراعة القطن وإدخال أصناف مناسبة لتحديد النوعية وتكامل الإنتاج و تطويره، مما دفعه لشراء أراض في الرقة لزراعة الأقطان المناسبة. كما قام بشراء أراض بمصر في كفر الدوار لزراعة القطن ذي التيلة الطويلة، لكي يرفد الشركة السورية في حلب بتلك الأقطان، وما تزال تلك الأراضي إلى يومنا هذا ملكاً للشركة السورية للغزل والنسيج.
ولربما كانت «الشركة السورية للغزل والنسيج»، بمعنى ما، تمثل جهداً جماعياً في المدينة يشارك فيه عمالها على نحو ما تجلى ذلك حينما اختار المدرس للشركة نظاماً داخلياً مستمداً من أرقى وأحدث نظم المعامل في أوروبا؛ إذ جرى إشراك العمال في الأرباح، ومنحهم الضمان الاجتماعي، وكان العامل إذا مرض يجري تطبيبه مجاناً، ويصل راتبه إلى منزله.
ومما يذكر في هذا السياق أنه حينما أضرب عمال الشركة إبان سنوات الحرب العالمية الثانية التي شهدت تراجعاً للقدرة الشرائية للمواطنين من أجل حصولهم على زيادة بمعدل 40 بالمئة على أجورهم آثروا أن يتوجهوا بمطالبهم إلى حملة أسهم الشركة بصورة مباشرة، وألصقوا الإعلانات التي تبرز مطالبهم في مختلف أرجاء المدينة. وما كان لهذا التوجه أن يتصور أحد القيام به قبل عقد من الزمان. وقد تمكنوا من فعل ذلك بفضل الطابع الشعبي للشركة والمكانة الرفيعة التي حازت عليها الشركة في وعي حملة الأسهم في المدينة يومذاك؛ وذلك في وقت لم يكن قد صدرت فيه بعد تشريعات للعمل في سورية.
لقد مثل إنشاء «الشركة السورية للغزل والنسيج» نقطة انعطاف في التطور الاقتصادي السوري، وخاصة لدى البورجوازية الصناعية الحلبية. ولما كانت الشركة مثالاً ناجحاً للمشروع الصناعي الضخم المنظم وفق الخطوط الجديدة للشركات المساهمة، فقد ألهمت رجال أعمال آخرين لاختبار قدراتهم في إقامة المنشآت الصناعية، ولا سيما في قطاع النسيج.
وبعد عشرين عاماً من العمل المتواصل والتفاني نشب خلاف بين محمد خليل المدرس وبعض أعضاء مجلس إدارة الشركة، فما كان منه إلا أن استقال من رئاستها، تاركاً العمل الذي أحبه ووهبه قوته وشبابه وصحته وماله.
وتفرغ المدرس، بعدئذ، للعمل في شركة «مدرس ورينهارد» لحفر الآبار الارتوازية التي كان قد أسسها بحلب في العام 1950، وهي الشركة الرائدة في مجال المكننة الزراعية، جنباً إلى جنب مع عمله الزراعي في قريته كتيان، التي راح يستصلح أراضيها بما عرف عنه من فكر متقد، وحب للتطور والتحديث، فكان من أوائل المزارعين السوريين الذين اقتنوا الجرارات وسواها من المكائن الزراعية الحديثة في زمن كان فيه عدد الآليات الزراعية محدوداً. وما لبثت كتيان بإشرافه أن تحولت في غضون سنوات قليلة إلى « قرية نموذجية » يسعى المزارعون الآخرون إلى تقليدها.
وفي مساء يوم من أيام آذار عام 1958 فجعت حلب بفقدان وجهها البارز محمد خليل المدرس. وبرحيله فقدت الصناعة السورية واحداً من أبرز رواد الصناعات النسيجية الأوائل، الذي اضطلع بدور فاعل في دعم وتنمية الاقتصاد المحلي للبلاد.
مصادر:
يعرب الباحث عن امتنانه وتقديره للسيدة الفاضلة نجلاء سلطان المدرس التي تفضلت مشكورة بتزويده بالكثير من المعلومات عن الصناعي البارز محمد خليل المدرس المستقاة من الأرشيف العائلي المحفوظ لديها؛
عبدالرحمن الكيالي، للعبرة والذكرى: محمد خليل المدرس، نشرة خاصة صادرة في حلب بمناسبة ذكرى وفاته، لا تا؛
Geoffrey D. Schad, “Colonialists, Industrialists, and Politicians: The Political Economy of Industrialization in Syria, 1920–1954” (Ph.D. Diss., University of Pennsylvania, 2001), pp. 263-281.
اقرأ :