You dont have javascript enabled! Please enable it!
سلايدمقالات

بشير موصللي: حياة الزعيم أنطون سعادة

بعد مرور مئة وخمس سنوات على مولد وواضع اسس الفكر القومي الاجتماعي انطون سعاده. لابد من تعريف القراء بمسيرة هذا الرجل التاريخي الفذ . فانطون سعاده هو مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي ليكون الاداة التنفيذية التنظيمية الاجتماعية السياسية للحركة السورية القومية الاجتماعية التي اطلقها سعاده لبعث نهضة تكفل تحقيق مبادئ الحزب وتعيد الى الامة حيويتها والسعي لانشاء جبهة عربية.

     اطلق سعاده الفكر السوري القومي الاجتماعي وفق نظام جديد أعده لتأمين مصالح الامة ورفع مستوى حياتها . لذلك يعتبر القوميون الاجتماعيون ان مولد انطون سعاده هو مولد الفكر القومي الاجتماعي وحركة النهضة القومية الاجتماعية , فيقيمون الاحتفالات ويغذون الامل كل عام في الاول من آذار بمستقبل مشرق لامتنا السورية العظيمة .

    فالاحتفال بقدوم الاول من آذار كل عام هو ترديد رمزي وتجدد للاحتفال بولادة الفكر القومي الاجتماعي مجسدا بصاحبه انطون سعاده . لذلك فان الواجب يفرض علينا ان نعرف القراء بذاتية هذا الرجل ,الانسان , بعد مضي خمس سنوات على مئويته 2009 – 1904 ومضي ستون عاما على اغتياله بمؤامرة شبه دولية في 8 تموز 1949 . وهو في الخامسة والاربعين بعدما اسس حزبا عمقه بعمق الارض التي احبها وفداها بدمائه .

      هو انطون سعاده والده الدكتور خليل والدته السيدة نايفة نصير , توفيت في مصر سنة 1913 , وكانت سيدة مجتمع راقية . احبها كثيرا ” انها كانت تفهمني وتفهم مراميّ في الوجود” .

     والده الدكتور خليل هو اصغر انجال الشيخ انطون تخرج طبيبا من الكلية السورية الانجيلية في بيروت . اشترك مع الشيخ ابراهيم اليازجي والدكتور بشارة زلزل في تحرير مجلة ” الطبيب ” ثم مارس العمل السياسي واجبر على مغادرة الوطن الى مصر سنة 1909 بعد مؤامرة لاغتياله . له مؤلفات عديدة ” القاموس الانكليزي – العربي ” , ورواية ” كليوباترة ” بالانكليزية , وترجمة ” انجيل برنابا – الامير السوري “…) .

     ولد سعاده في اليوم الاول من آذار سنة 1904 في الشوير قضاء المتن . وتلقى المبادئ الاولية في القراءة والكتابة سنة 1909 على يد المعلم حنا رستم في بيت ” نقول ” وورث عن والديه رياضة ركوب الخيل .

    سنة 1913 ابحر الى مصر ليلتحق بوالده المقيم فيها ثم لا يلبث ان يعود الى لبنان في السنة ذاتها بسبب وفاة والدته , ويتابع دراسته في بيت ” نقول ” ولكن على يد المعلم فارس بدر .

     اثارت الحرب العالمية الاولى وتبعاتها في وطنه , الحزن والاسى في نفسه ان يرى شعبه وبلاده تتعرض لكل هذه المصائب من جوع وخراب وذل واحتلال وتجنيد الشباب والاعدامات , وهي فاقدة الارادة . فتساءل : ” ما الذي جلب لشعبي كل هذا الويل ؟ ”   وانتهى الى تأسيس الحزب جوابا على هذا السؤال الكبير .

     في 1916 انتقل الى المدرسة الرسمية بادارة المعلم هيكل صوايا . وكان عمه العلامة داوود سعاده يرعاه طوال العامين المذكورين . ويروي رفيقه على مقعد الدراسة جبرائيل صوايا نه كان يمتاز بموهبة الخطابة وبالقائه الجذاب , وكذلك يروي المعلم وديع سعد , انه رغب ان يمنح الطالب انطون سعاده شرف حمل العلم التركي في استقبال جمال باشا عند زيارته للمدرسة , فكان جواب سعاده (( شخص هَتَكَ امتي ما بقعد تحت بيرقوا )) . وامام اصرار الحامية التركية في الشوير على المقاومة وعدم الانسحاب بعدما انهزم الجيش العثماني , تسلق سعاده سارية المدرسة الملساء بقوته الجسدية , وانزل العلم العثماني ومزقه .

 ابن 19 سنة

     في سنة 1919 يصل مع اشقائه الى اميركة ليلتحق باخوته عند خاله سليمان نصير في نيو مكسيكو, وهناك يضطر لترك المدرسة ليشتغل ويساعد في تكاليف معيشته واشقائه ويعمل مراقبا في شركة خطوط حديدية . وفي سنة 1920 استقر المقام بوالده في البرازيل وانضم اليه اولاده الصغار الثلاثة ليتابعوا دراستهم . بينما انصرف سعاده الفتى لمعاونة ابيه في اصدار جريــدة ” الجريدة ” التي توقفت عن الصدور سنة 1923 . بعدما امضى اربع سنوات في العمل الصحافي   .

     لم يؤثر توقف ” الجريدة ” على انتشار اسم سعاده في الاندية وفي مجتمعات الجالية السورية المعجبة بمقالاته . حتى انه ولعظمة مقالاته , استكبر الناس ان تكون من كتابة شاب عمره 19 سنة.  واعتقدوا انها من كتابة والده الدكتور خليل .  

     اول مقال عالج فيه شؤون الوطن ظهر في 4 حزيران 1921. وبعده عالج في حوالي عشرين مقالا :” آمال الوطن ” و ” الوطنية ” و ” غورو وسورية ” و ” الوحدة السورية ومخاوف اللبنانيين” و ” السوريون والاستقلال وعاصفة الثورة السورية “.

     احرف الطباعة رصفها بنفسه . كما رصف احرف مقالاته مباشرة ” من رأسه ” من دون كتابة على الورق . بالاضافة الى انه كان مسؤولا عن ادارة ” المجلة ” لتأمين الموارد المالية منها .

 اول تأسيس سياسي

     وفي اول عهده بالتعاطي بالشؤون العامة في العشرين من عمره اسس جمعية الرابطة الوطنية السورية وهي جمعية سياسية اسسها سعاده نفسه سنة 1925 في ” سان باولو ” وارادها جمعية تنمو سرا وتمتد الى الوطن وتجمع عناصر الشباب لتتجه الى الاعمال الجدية والثورة . وسميت في طورها الاول ” جمعية الشبيبة السورية الفدائية ” وعزا اسباب سريتها في البداية لانها تكون ضعيفة امام الزعازع الخارجية “.

    وكن من اعضائها هنري ضو , صاحب جريدة ” المراقب ” والطبيب عبدو جزرة , والاديب رشيد معلوف , والشاعر فيليب لطف الله , والاديب راجي ابو جمرة , وشاب من عائلة المر .

     بعد شهرين من انسحابه من الجمعية حدث تطور في تفكيره بدا واضحا في مقالاته في ” المجلة ” واتخذ من تجربته في الجمعية منطلقا لآفاق جديدة في العمل السياسي .فدعا الاعضاء الستة في الجمعية المار ذكرهم واعلن لهم ارادته في متابعة العمل وتأسيس حزب جديد يدعى ” حزب الاحرار السوريين ” , ويبقى سريا حتى يصل اعضاؤه الى المئة عضو .

     واقسم الاعضاء الستة اليمين بعدما اعلنوا التزامهم بنظام الحزب ومبادئه , وباحترام الاعضاء لرؤسائهم وتأييد سلطة زعيمه في التشريع والقيادة وهي اشبه بعناوين او ملخصات لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الاساسية والاصلاحية الذي سيؤسسه سنة 1932 . واشترطوا عليه ان يكون هو رئيس الحزب وزعيمه الناطق الرسمي باسمه . واصدر قراره الاول بتسمية القيادة برئاسته وزعامته للحزب وعين عبدو جزرة نائبا له وهنري ضو ناموسا عاما وفيليب لطف الله امينا للصندوق ورشيد معلوف مديرا للدعاية وراجي ابو جمرة مديرا للثقافة والمر مديرا للعلاقات العامة .

     بعد استقالة والده من ” الماسونية يرسل سعاده استقالته للاسباب ذاتها في 10 آب 1926 الى المحفل الماسوني مستندا على عشرة بنود . وفي سنة 1927 يتابع التدريب في ” الكلية السورية البرازيلية ” كما يتابع قيادة ” حزب الاحرار السوريين ” , ويدرس اللغة الروسية . ( وبالمناسبة اجاد سعاده اللغات الانكليزية والالمانية والفرنسية واللاتينية والاسبانية والايطالية والبرتغالية قراءة وكتابة, وطالع في آدابها وتفهم قواعدها كاحد ابنائها , يكتب ويخطب ويجادل فيها كلها بسهولة تامة , كأنه يستعمل لغته العربية ) .

العودة الى الوطن

     في منتصف سنة 1928 قرر العودة الى الوطن وتجميد ” حزب الاحرار السوريين “. وفي صباح اول آذار (مارس ) سنة 1929 , في ذكرى ميلاده الخامسة والعشرين , يسجل بعض مشاعره على الورق . وفي تموز (يوليو) 1930 يناجي نفســــه   ” اين الوطن ؟ الى هناك تشتاق نفسي ويتزايد حنيني “. وفي الثلاثين منه يركب الباخرة متجها الى الوطن بعد ان قضى واجبه العائلي في المهجر , فيصل الى بيروت ومنها الى ضهور الشوير ضيفا في دار ابن عمته وديع مجاعص , ليمضي ما تبقى من فصل الصيف في مسقط راسه ما عدا فترة غالبها في زيارة قصيرة الى صيدنايا بمناسبة عيد السيدة ليعود من الزيارة ويكتب ” قصة فاجعة حب ” و ” قصة سيدة صيدنايا “.

 في دمشـــق

     في آخر ذلك الصيف قرر ان ينتقل الى دمشق . جذبته دمشق اليها ولا غرو في ذلك, فدمشق المدينة العاصمة كانت تستقطب العمل السياسي , فمن مؤتمر سنة 1919 الى الثورة سنة 1925 , الى الاضرابات التي تتكرر بلا انقطاع , الى استقبال هذا الشاب المغامر سنة 1930 .

     سكن سعاده بمنزل متواضع يقع في ” حارة بندق “بجوار شارع العابد . وكان من سكان المنزل محمد غنذور . واخذ سعاده يدرّس مادة اللغة الانكليزية في ” الجامعة العلمية ” لصاحبها سليمان سعد.

     من الاختيارات الاجتماعية اختياره عائلة الصيدلي سامي نخمن , صديقا وكان له ثلاثة اولاد , احدهم طبيب والثاني مهندس والثالث طالب طب ويقول نخمن عن سعاده :

    ” عرفت نوابغ كثيرين ولكن في حقل واحد من حقول المعرفة . ولكن سعاده كان مجموعة نوابغ, فهو عبقري في جميع الحقول . اضف الى ذلك صغر سنه بالنسبة الى ضخامة المواضيع التي يطرقها , فمتى تعلم هذا كله واين وهو الذي لم يتخرج من اية جامعة “.

    وكان من الاوائل الذين سرت المودة اليهم الاستاذ نصوح بابيل , صاحب جريدة ” الايام ” ومطابعها . وهناك بدأ احتكاك سعاده برجالات ” الكتلة الوطنية “. مركزا اتصالاته على اولئك المشرفين منهم على الجريدة , وهم : ابراهيم هنانو , فخري البارودي , هاشم الاتاسي , سعد الله الجابري , ولطفي الحفار … وسرعان ما بدأت تتكشف امامه حقيقة الوضع . ” انه وضع يدعو الى الرثاء . همهم الوحيد هو العمل السياسي وحده , العمل ضد المحتل . لا وجهة سير اجتماعية ولا وجهة سير اقتصادية ” . من هنا انطلق يصارع   .

     ومن جملة اتصالاته برجال الفكر كان رجال المجتمع العلمي العربي . ورئيسه في ذلك الحين , محمد كرد علي , وزير المعارف في الحكومة السورية المؤقتة . ويقول عارف النكدي ,رئيس تحرير جريدة ” اليوم ” التي بدا سعاده عمله الصحافي فيها مترجما , ان سعاده ما اكتفى بالترجمة فقد بدأ يكتب مقالات في السياسة الخارجية بدت له معقولة وناضجة فافسح له المجال .

 التــأسيس

      بدا التأسيس لحزب سياسي قومي اجتماعي عام 1932 بخمسة اشخاص هم جورج عبد المسيح , من بيت مري وزهاء الدين حمود ( اردني ) ووديع تلحوق ( من السويداء ) وجميل صوايا ( من ضهور الشوير ) وفؤاد حداد ( من بيروت ), ثم تظاهر بحل الحزب واعاد تأليفه من عبد المسيح وحداد وصوايا .

     من الشخصيات التي انتمت الى الحزب في تلك الفترة السرية كان فؤاد سليمان , بهجت خولي , عبد الله قبرصي , شارل سعد , صلاح لبكي , زكي النقاش , يوسف الدبس , جورج حكيم ,وديع الياس , موسى سليمان , بهيج مقدسي , رجا خولي , نعمة تابت , فكتور اسعد , فؤاد خوري , سامي قربان , جبران جريج , كامل ابو كامل , فخري المعلوف , سعيد عقل ( الشاعر ) الحاج نقولا البردويل , رشيد ابو فاضل , يوسف تاج , وليام ابو خليل , محمد النقاش , محمود الحافظ , مامون اياس , كنعان الخطيب , روبير ابيلا , منح الراسي وبطرس سماحة و( معظمهم من الشخصيات البارزة بتاريخ لبنان ) .

الزوبعة واول آذار

     في تلك الفترة تم اختيار شارة ” الزوبعة ” شعارا للحزب , واعتبرها البعض , بسبب زواياها الاربع , تقليدا لـــ شارة حزب هتلر النازي ( السوستيكا ) او الصليب المعقوف المنقول هو اصلا عن الآثار السورية العمورية . وحورب الحزب على انه نازي بسبب هذه الشائعة , وقد اكتشف بعض القومييـــن ” الزوبعة ” تعود الى آثار سورية قديمة   .

     في 28 شباط  1935 ليلة اول آذار يتلاقى نعمة تابت ومأمون اياس وعبد الله قبرصي ليفاجئوا انطون سعاده في كوخه براس بيروت ويقدموا له باقة زهر ” يهنئونه بعيد ميلاده و فكان ذلك اول احتفال بالاول من آذار في الحزب . ويرد سعاده على ضيوفه بتلاوته قسم الزعامة امامهم واقفا .  وفي تلك اللحظات  ” دشنا عيد اول مارس ” مناسبة حزبية .

 الاعتقال الاول

     ليلة السادس عشر من تشرين الثاني 1935 في الخامسة صباحا القي القبض على سعاده واربعين شابا وكان من بينهم نعمة تابت , زكي نقاش , جورج صليبي , فؤاد خوري , فيكتور اسعد وانضم اليهم بعد يومين عبد الله قبرصي ومأمون اياس , ثم صلاح لبكي وجورج حكيم وفؤاد مفرج . زجوهم في حبس الرمل ” بتهمة التآمر على سلامة الدولة ” . ونام المعتقلون ليلتهم الاولى في القاووش مع المجرمين والقتلة. جميعهم بمن فيهم سعاده تعرفوا على السجن للمرة الاولى .

       في التحقيق تحمل سعاده كل المسؤوليات من دون تردد “. وفي السجن بعد التحقيق عومل الجميع معاملة السجناء العاديين وخرج الجميع من عند الحلاق على الصفر , بعدما خضعوا للقانون .” نحن نخضع للقانون ” هكذا اجاب سعاده بعدما علم ان جز الشعر يطبق على الجميع بموجب القانون .  

     في اليوم التالي , تدفق الطعام والفراش والاغطية على المساجين من الرفقاء فتأكد ان صدمة الاعتقالات لم تزعزع ايمان الاعضاء بقضيتهم , الذين هزت الصدمة نفوسهم وقدموا مع بعض المواطنين ما تيسر من المساعدات .  

     وخارج السجن عين زكريا اللبابيدي ورفعت زنتوت وعادي عيتاني انفسهم ” مجلس عمد ” ليضبطوا الاعضاء ويشرفوا على تصرفاتهم  . يتابعون التبشير بالعقيدة ويجمعون التبرعات وينظمون ارسالها الى السجناء والاتصال بالصحف . و بعد خمسة ايام احتفل في السجن المعتقلون بالذكرى السنوية الاولى لابرام دستور الحزب .

       – اول محاكمة –

     قاعة المحكمة اكتظت بالحضور , وكلهم فضول للتعرف على الشاب مؤسس الحزب انطون سعاده وخاصة وهو يثير غضب رئيس المحكمة بتجاهله الرد على المناداة باسمه ” انطوان سعاده ” مرات عدة . وطال الصمت حتى ” ظن البعض ان الوجل احاق به فخارت عزيمته وعقل لسانه ” ونبهه المحاميان حميد فرنجية وحبيب ابو شهلا الى ” ان الرئيس يناديك ” فاجابهما سعاده بهدوء تام ” لم اسمع الرئيس يذكر اسمي ” , واستوضح الرئيس الامر فاجيب ان المقصود بالمناداة حاضر ولكنه لا يجيب لانه لم يناد باسمه الصحيح . ويسأل الرئيس ما اسمه , ويوجه سعاده كلامه للمحاميين اسمي ” انطون سعاده ” ويعيد المنادي ” انطون سعاده ” فينهض  :” حاضر “.

    عندها ” تشخص الابصار الى الفتى الذي فرض شخصيته وطريقة تفكيره على المحكمة منذ اول احتكاك معها “. بالرد على الاتهام :

    ” حضرة الرئيس : اني سوري وفي بلادي. واني اقود حركة تحريرية ترمي الى اقامة السيادة القومية وجعلها مطلقة , فلست اقبل ان احمل على الكلام في البلاد بغير لغتي “. وتم للزعيم ما اراد وترجم كاتب المحكمة كلامه جملة جملة .

     سرد رئيس المحكمة تأسيس الحزب , واتهمه بخرق وحدة البلاد الجغرافية وانتهاك حرمة الارض فاجابه سعاده :” اني متهم بخرق وحدة البلاد فاراني مضطرا علميا لا بالعاطفة للقـــول : ان خرق وحدة وطننا الجغرافية وانتهاك حرمة ارضنا قد تما بالفعل في سان ريمو وسيفر ولوزان , والمسؤولون عن ذلك هم غير الحزب السوري القومي “.

 ” نشوء الامم “

     نعود اذن الى الاعتقال الاول 1935 لنرى كيف تمكن سعاده فيه من تدوين كتابه المشهور ” نشوء الامم ” , الذي لا يزال حتى اليوم مرجعا علميا مهما في علم الاجتماع باللغة العربية . واكمل انجازه خلال فترة السجن الثانية 1936 وطُبع عام 1938 .

     في 12 ايار 1936 , كان بعض المسؤولين والرفقاء يجتمعون بسعاده وسط داره , ملتفين حوله في شكل دائرة , يتحدث اليهم عقب الافراج عنه حول مرسوم الحكومة بحل الجميعة المسماة ” الحزب القومي السوري ” فاعلن يومها , بأن ” الحكومة يمكنها حل الحزب بمرسوم ولكن الحزب قائم بارادة الشعب . وارادة الشعب تستطيع حل الحكومة . ولكن الحكومة لا تستطيع ن تحل ارادة الشعب “. ولا شك ان مثل هذا التصريح يزعج اوساط السلطة . ويدفعها الى التفكير الجدي الفعال لوقف هذا المد الثوري ووضع حد لصاحبه .

     من اسباب الاعتقال الثاني ردة الفعل الشعبية والحزبية بعد الافراج الاول عن سعاده ورفقائه وما صاحبها من ” تظاهرات الابتهاج والتأييد والحماس الشعبي ” . وقد حركت مخاوف الامن العام الفرنسي من انتشار الحزب خارج اوساط الطلاب والشباب وانتقاله الى اوساط الشعب كافة . فاصبح جميع العاملين النشيطين في الحزب بالاضافة الى القيادة تحت رقابة شديدة , مهدّت للاعتقال الثاني .

 اول تظاهرة حزبية

         يوم الثلاثين من حزيران 1936 , بعد اتهام المنفذ العام عبد الله جميل بتأديب احد الصحافيين المتهجمين على الحزب . طوق رجال الامن , وعلى راسهم الامير فريد شهاب , منزل سعاده ودخلوه عنوة بعد عراك مع الرفقاء الموجودين في الساحة . وخرج الزعيم وانتهر رجال الامن فانسحبوا خارج المدخل ما عدا رئيسهم فريد شهاب , الذي ابلغه مذكرة توقيف . فعاد الى الغرفة وكتب مرسوما بتعيين مجلس اعلى موقت . و كانت التهمة اعادة تشكيل الحزب الذي صدر مرسوم بحله .

     المجلس الاعلى الموقت الذي عينه الزعيم كان برئاسة صلاح لبكي المحامي والشاعر وعضوية نعمة تابت ومامون اياس وفوزي البردويل ويوسف بحمدوني .

     في الثامن من تموز ( يوليو ) 1936 ينظم الحزب اول تظاهرات حزبية قررتها القيادة المركزية لدعم موقف سعاده . ففي كل منطقة سيتظاهر القوميون امام السراي المحلية ومخافر الدرك او الشرطة . وتنطلق التظاهرات في طرابلس وضهور الشوير وكفر مشكي والكورة والاشرفية حيث قدم المسؤول عن التظاهرة الرفيق فيليب فارس عريضة جاء فيها ” لما كنتم اعتقلتم زعيم السوريين القوميين من اجل عقيدته . ولما كنا نحن ايضا ندين بالعقيدة ذاتها , لذلك جئنا طالبين اعتقالنا معه الى ان يفرج عن الزعيم من السجن والى ان يخلي المحقق الذين لم يثبت بحقهم شيء “.

  – نشيد الحزب –

     في ذلك السجن وضع سعاده نشيد الحزب . ويروي فيكتور اسعد بان سعاده واثناء مروره الى زنزانته المنفردة رمى الى القاووش ورقة صغيرة ملفوفة فيها شعر جميل نظمه سعاده . وفي اسفله ملاحظة   ” يعلمنا فيها انه نشيد يمكن غناؤه على نغم اللحن الروسي استنكرازن ” .

     ومن غرفته المنفردة مرر الزعيم كلمات النشيد الى بقية الرفقاء المساجين وطلب منهم التمرن على انشادها بنغمات اللحن الروسي , الذي يعرفه فيكتور اسعد لينشدوه جميعا في وقت واحد عند تلقيهم الاشارة من سعاده وهكذا كان .

 ما حدث داخل المعتقل عبّر عن قوة وصلابة سعاده ورفقاءه بمواجهة السلطة المنتدبة واعوانها من الدرك , كما عبر عن مدى صبره واناته وتجلي قدرته القيادية وما يتمتع به من مناقبية , وتميزه باحترام النظام والقانون عندما لا يتجاوز القانون على حقوق امته ووطنه ولا يعتدي عليها .

 خارج السجن

     اما خارج السجن فكان اعضاء الحزب ” والمسؤولون يكملون الطريق  ” . فلا تكاد تخلو منطقة من انتماءات جديدة ترافقها اعتقالات ومضايقات , في الارزاق والوظائف , عدا حملات التفتيش المستمرة لمحلات ومتاجر ومكتبات وبيوت ” المشبوهين ” بانتمائهم الى الحزب . وهكذا من انطلياس الى المتن الشمالي ” ضهور الشوير , بتغرين , زرعون , الخنشارة , بسكنتا . امتدادا الى المتين . وكذلك في المتن الاعلى , ورأس المتن ويزيدين وكفر سلوان وقبيع والعبادية وبتخنية وغيرها من القرى , انتقالا الى الطرف الآخر في عاليه وبشامون وصيدا وعماطور وبعقلين ومشغرة في البقاع الغربي , وفي زحلة انتهاء بدمشق وحمص وحماه وتل كلخ وصافيتا وحلب واللاذقية وطرطوس وبانياس . وتميزت هذه الفترة باصدار سعاده ” بلاغ الى الراي العام ” عرف بـ ” البلاغ الازرق ” في 15 تموز 1936 .

      في 16 تشرين الثاني 1936 بعد الافراج عن سعاده وقع اصطدام بين حزب ” الوحدة اللبنانية ” وحزب ” الكتائب اللبنانية ” المارونيين من جهة وبيـــن ” الكشاف المسلم ” و ” فرق النجادة ” من جهة اخرى .  ومنعا لحدوث فتنة طائفية , توجهت فرقتان حزبيتان بامر من سعاده , احداهما بقيادة جورج عبد المسيح الى البسطة , والثانية بقيادة مأمون اياس الى الاشرفية . والقى القوميون خطابات بجموع المتظاهرين امام الطرفين دعت الى التهدئة ونبذ العصبيات الدينية ونجحوا في تنفيس الاحتقان . ونلاحظ هنا ان قائد الفرقة الى البسطة الاسلامية , كان مسيحيا , والآخر الى الاشرفية المسيحية كان محمديا , لان سعاده كان يفرض محاربة الطائفية بالممارسة والتصدي لا بالمناورة والمداورة .

  لقاء مع رياض الصلح

       فترة الاستراحة بعد الاعتقال الثاني ملآها سعادة برحلة سياسية الى طرابلس و ” منطقة العلويين”المتاخمة لانطاكية واسكندرون في منتصف كانون الاول 1936 . فامضى يوما في طرابلس بزيارة الامينة الراحلة نجلا معتوق , متابعا الى صافيتا ليلقي خطابا في حشد تجاوز الخمسة آلاف نسمة في ساحة ” الميدان ” وكانت المرة الاولى لظهور الحزب علنا الى الشام.

     وبعد صافيتا يزور سعادة مرمريتا ومشتى الحلو ومتن عرنوق وطرطوس . وفي تلكلخ احاطت الموكب كوكبة من الفرسان من كل جانب , لتعطي الاستقبال والرجل متاعب الى جانب ما ستجلبه من مؤازرة واقبال وانتشار .

     قبل سفره الى المهجر , لاسباب امنية تتعلق بسلامته سبقت سفره مقابلة تأريخية مهمة يلتقي فيها , رياض الصلح بانطون سعادة , قبل اثنتي عشرة سنة من اغتيال سعادة في 8 تموز (يوليو) 1949 المتهم رياض الصلح بالضوع فيها .

     كان ذلك في منزل المرحوم موسى نمور ( رئيس المجلس النيابي ثم وزير الداخلية وقتذاك ) , وعلى ما يروي عبد الله قبرصي وهو يتذكر (ص99), انه سمع من سعادة نفسه وقائع اللقاء بان سعاده قال لرياض الصلح :” ان اهم ما قصدته في مبادئ حزبي الاصلاحية هو علمنة الدولة والغاء كل آثار الطائفية من النصوص ومن النفوس “. ويبدي رياض الصلح تجاوبا وحماسا لاراء سعادة ويوافقه على هذا الالغاء ” ولو كلف الدولة والشعب عشرة آلاف ضحية “. ويدل تعقيب رياض الصلح الفوري على ما قاله سعادة على ادراكه خطورة وصعوبة الوضع الطائفي . وبالتالي اهمية الغائه مهما كلف من تضحيات وضحايا  ولو وصلت الى عشرة آلاف ضحية .

 رأيه في بيير الجميل

     في 17 تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1937 يحل خير الدين الاحدب رئيس الحكومة اللبنانية الجمعيات ذات الاتجاهات شبه العسكرية Para – Militaire   , ويشمل الحل ” القمصان البيضاء ” و ” النجادة ” و ” الكتائب اللبنانية ” . وتتمرد ” الكتائب ” على قرار الحل , وينزل بيار الجميل وهو رئيسها وكان في مطلع شبابه مع بعض رجاله الى ” ساحة البرج ” , ويتظاهرون ضد القرار , ويعطي حبيب ابو شهلا وزير الداخلية امرا بقمعها بالقوة , فقمعت وجرح بيار الجميل جرحا بسيطا , وسجن مع بعض رفاقه . ذلك كان الاصطدام الوحيد بين ” الكتائب اللبنانية ” و ” السلطة ” , ولم يحدث ان اصطدم  بيار الجميل ورجالـــه بسلطات الانتداب لمقاومــــة الانتداب , كمـــا يذكر بعض ” الكتائبيين ” في ادبياتهم .

     وعلى الرغم من موقف بيار الجميل من انطون سعادة لم يفوت الزعيم الفرصة فاعطى رأيه بتصريحات الجميل قائلا:” ان بيار الجميل يريد سحق راسي , اما انا فاتمنى سلامة رأسه “. ويضيف :” بيار الجميل جندي شجاع ولكنه قائد فاشل او ” ضيق ” .

     بعد اعتقال دام ستة اشهر في 1935 , واربعة اشهر في 1936 وثلاثة اشهر في عام 1937 , قرر انطون سعادة السفر الى المهجر , ليفوت على السلطة ما اعدته له من ملفات جديدة ملفقة بمواضيع غير سياسية للاساءة الى سمعته وتوقيفه للمرة الرابعة , لارغامه على الدخول مع السلطة بمواقف دفاعية عبر وسائل اعلام تسيطر عليها الدولة . فيما الحزب لا يزال في مطلع نشوئه ولم يتصلب عوده كما يريد ولا اعلام عنده .

عند الامير عبد الله

     سافر سعاده اولا الى عمان , وامضى يومين في دمشق تفقد المنفذية خلالها في حزيران 1938 , مفوتا على الامن فرصة اعتقاله , بعدما اعدوا له مذكرة جلب بحجة الاستجواب .

     في عمان تترتب لسعاده مقابلة مع ” الامير” عبد الله بحضور”ابو فيصل ” الذي رتب المقابلة , الذي روى بنفسه لعبد الله قبرصي وقائعها بعد سنوات . وهو اردني صديق حميم للامير وللحزب في آن معا فيقول :” دخل سعاده الديوان الاميري من دون ان يكون على علم مسبق بالبروتوكول على ما يبدو . وسلم على الامير عبد الله , وجلس قبل ان يجلس الامير . فبقي الامير واقفا من دون ان يلفظ كلمة . ففهم سعاده ان المقابلة انتهت فحيا وانصرف وغضب الامير , كما غضب سعاده “. وغادر الى فلسطين .

     كان مع سعاده حقيبتان , وفي جيبه ما لا يكفيه لارسال برقية . بينا كان في عناوين الجرائد اللبنانية  ” هاربا حاملا خزينة الحزب “. احدى الحقيبتين كانت ملآى بمئة نسخة من كتاب ” نشوء الامم “. باعها كميل جدع بـ 35 جنيها استرلينيا لسد حاجات سعاده المالية مؤقتا ريثما تصله الحوالة من اسد الاشقر في افريقية . ومن فلسطين يصل سعاده الى قبرص , في 23 حزيران بطريقه الى رومة لزيارة مفوضية الحزب بعدما عين كميل جدع ضابط ارتباط له مع المركز .

 في ايطاليـــــا

     وفي روما رحب اعضاء الحزب بقدومه في 28 تموز وعقدوا لقاءات كثيرة معه , وتلقوا توجيهاته وتعليماته , قبل ان يغادر الى برلين ويلتقي الدكتور منصور عابدين بك مدير المديرية المؤلفة من طلاب شاميين وفلسطينيين ولبنانيين , ولم يقابل في برلين سوى رئيس منظمات الشباب الالماني في لقاء مجاملة قبل ان يغادر الى البرازيل ويعتقل فيها لمدة ثلاثة اشهر بسبب تلك اللقاء واتهامه بعلاقة مع المانيا وايطاليا بتحريض فرنسي وغيره من الجهات , قبل ان يفرج عنه بعدما ثبتت براءته .

     اعتبارا من سفر سعاده الى المهجر ينفصل نشاطه عمليا عن نشاط الحزب في الوطن , فيعمل هناك بالوتيرة ذاتها ليلا نهارا من اجل الحزب وانتشاره وتأسيس فروعه في المهجر , ويتواصل مع المركز في حدود الامكانات المتاحة . واهم انجازات تلك المرحلة اصداره جريدة تنطق باسم الحزب بالتعاون مع فؤاد وتوفيق بندقي صاحبي مطبعة عربية , وانتقى لها اسم ” سورية الجديدة ” . ولم يعد باستطاعته العودة للوطن بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية .

  اعلان الحرب العالمية

 ومن الصفر انطلقت الجريدة بثماني صفحات , وانتشرت بسرعة وحركت احقاد الانعزاليين مجددا , فتقدموا بوشاية اثمرت عن اعتقال سعاده والتحقيق معه . ويعلن مدير الامن العام لوفد الصحافة المحتج على الاعتقال ” ان انطون سعاده موقوف بتهمة القيام بنشاطات غير قانونية تمس بامن وسلامة الدولة “. ومن داخل السجن امكن لسعاده متابعة كتابة المقالات في الجريدة . وبلغ عددها عشرين مقالا , على الرغم من مرضه وسوء حالته الصحية قبل فترة من يوم اعتقاله عند شقيقته عائدة , حيث كان قيد المعالجة في دارتها . وازدادت صحته سوءا دخل السجن مما دفعه للكتبة لمدير السجن شارحا وضعه السيء .

     سنة 1940 وبعد حوالي سبعة اشهر ينتشر الحزب انتشارا كاسحا في الارجنتين في طول البلاد وعرضها , ولكن سعاده يتعرض الى وضع صحي سيء واحوال مالية اسوأ , ويواجه انتكاسات من بعض العاملين .

 الـــــــزواج

     بعد انتماء جورج المير وشقيقتيه جوليات وديانا باشهر , لفتت جوليات نظر سعاده وانتهى اعجاب سعاده بجوليات المير الى زواج , وانجب ثلاث بنات : صفية واليسار وراغدة .

     تمكن سعاده من تأسيس اول واقوى جماعة منظمة في المهجر ترتبط بالوطن برباط قومي ووطني يثيرها القلق على الوطن , وعلى ما يجري فيه وحوله . وابتداء من 15 آب 1942 حتى الاول من كانون اول 1942 نشر سعاده بحثه المهم الآخر الشهير في ثماني حلقات بمجلة ” الزوبعة ” جمعت كلها بكتاب واحد حمل عنوان ” الصراع الفكري في الادب السوري “, مزودا بملاحق لكل من الادباء محمد حسنين هيكل وخليل مطران وطه حسين وعباس محمود العقاد .

 آلام وتضحيات

     عام 1946 كان العام الاخير في المغترب القسري قبل العودة . وعادت فيه مجلة ” الزوبعة ” الى الصدور في آب ( اغسطس ) مع بدء ذروة نشاط سعاده الاتصال مع المركز ببيروت . فبالاضافة الى المقالات والمراسيم بدأت الرسائل تتجه الى الوطن عبر القاهرة ومنها الى بيروت ودمشق وطرابلس وحمص , ومن الارجنتين الى البرازيل وافريقية والمكسيك والولايات المتحدة . ومن الاسماء البارزة المعروفة في الوطن ووجه سعاده رسائل لها كان غسان تويني ( 10 رسائل ) واكرم الحوراني ونعمت تابت .

      كانت حياته ومعاناته في المهجر ملحمة انسانية بكل المعنى وبكل معنى المواجهة والممارسة حتى يحقق نتيجة توخاها ” وقد حصلت النتيجة ” على الرغم مما تعرض له صحيا من متاعب وآلام فكتب الى وليم بحليس متألما  :  

     ” هل خطر في بالك او بال فؤاد في هذا الشأن وفي ما آل اليه جسمي بعد كل ما مر علي من المحن القاسية ؟ وهل يخطر لك ان تسأل كيف يقدر هذا الرجل ان يحافظ وهو في هذه الحالة على شيء من قوة الذاكرة ….ان هذا الجيل الكثير المفاسد العديم قوة التصور لا يعرف الا ان يطلب فكلمة هات دائما في فمه . انه يشبه صبيا عديم التربية له في كل ساعة مطلوب جديد يضج ويصخب ليأتيه احد به . ان هذا الجيل يظنني آلة تشبه الكرامفون حصلت له ليلهو بها وليغير عليها الاقراص …” …”اتعرف اني بيت مدة ولا ازل غير آمن استقراري المعاشي ” ….” قمت في العشر سنوات التي مضت باكثر كثيرا مما هو طبيعي القيام به . ووزعت قواي بلا شفقة ووجدت انه عندما قاربت التلف لم يكن حولي احد . حتى اذا استعدت شيئا قليلا جدا من قوتي الماضية , وهو القليل الذي اشتغل به الآن , عدت لاسمع تلك النغمة الكريهة : هات .هات ” .

         يتابع سعاده بالم ظاهر ومعاناة وجدانية حزبية مؤلمة قائلا :” ان اكثر هذا الشباب يجهل كل الجهل ويعمى كل العمى عن حالة الزعيم وعن الضرورات المطلوبة من كل واحد من افراده على نسبة مقدرته وكفاءته واستعداده . هل يخطر في بال احد افراد ” الشباب السوري ” ان الزعيم يجاهد منذ عقد كامل من السنين جهادا متواصلا مضنيا ابتلى جسمه ليبقى لنا الاشعاع الفكري والشعوري والقيادة الثابتة . او هل يخطر في باله التفكير في لوازم مكتب الزعيم ومقومات العمل الاذاعي وكيفية تجهيز واعداد ما يلزم لذلك ؟. كلا لا شيء من ذلك ولكن يخطر في باله شيء كثير من الافكار الفوضوية كالانتقاد والتعنت والسفسطة …   .

 القـــدرة الفــــذة

      كانت صحيفة الحزب واحدة بمواجهة عشرات الصحف . ولكنها اكثر تحررا وتصدر بشكل مدهش لا يصدق يشرحه سعاده : ” كنت انا كاتب جريدة ” الزوبعة ” واني انا مديرها , واني ناموس ادارتها فادون اسماء المشتركين واحذف اسماء الذين يرجعون الجريدة . وابحث عن اسماء مشتركين جدد . وانا آخذ المقالات من منزلي الى مركز الجريدة . وانا اصلح المسودات وانا اكتب اسماء المشتركين على الآلة , وانا اضبط حساب الورق واجرة الراصف , وانا آخذ الى البريد الرزم والرسائل الخاصة بالمشتركين . وانا اطلع الصحف الاجنبية والسورية “.

     هذا بعض اعماله في الجريدة وقد اختصرت الكثير منها حتى لا يزداد القارئ ذهولا وعجبا من قدرة هذا الرجل على العطاء وعلى التحمل وعلى خيبات الامل في سبيل ان يصل الى نتيجة اعلن انه وصل اليها وحققها . فاذا ما ادركنا وعرفنا حقيقة تلك الظروف والاجواء , ادركنا أي عظيم واي رجل خارق كان ذاك الذي يتولى لوحده كل تلك الالتزامات والواجبات والاعباء والمواجهات الخطيرة والكثيرة واي آلام كان يعانيها .

 صدمة السيارة

      راينا كيف انه كان يرصف حروف الجريدة بنفسه ويقوم بكل حاجاتها ” ويتنقل على قدميه من مكان لآخر ليوفر اموال الحزب ” ولهذا السبب ” تصدمه سيارة وهو يجتاز الشارع قاصدا دائرة البريد حاملا البريد بنفسه من جريدة ” الزوبعة ” ومن رسائل حزبية . اذ ان مكتبه – مكتب الزعيم -. اصبح مكونا منه وحده بعدما رجع اسد الاشقر الى الوطن .

    وكأن صدمة السيارة لم تكفه حتى فاجأته صدمة اخرى بالسيارة وكانت هذه المرة لابنته البكر صفية , ونجت منها فيما بعد , فكيف نتصور وضع هذا الرجل ” الزعيم ” السياسي الحزبي لاكبر حزب في الشرق الادنى تحوط به كل هذه الظروف المنهكة , وكلها ظروف ومتاعب نوعية بالنسبة الى رجل بمكانته ومركزه السياسي والفكري والاجتماعي , يضطر لادارة متجره ليؤمن موارد معيشته وللانفاق على الجريدة وعلى العمل الحزبي  والقيام بكل اعبائهما .

     والاشد قسوة عليه من كل ذلك انه اذ يتزوج ليؤمن استقرارا عائليا يثور عليه بعض اعضاء الحزب ويتململون ويحتجون .” يريدون ان يفرضوا عليه البتولة كأنه كاهن او ناسك او متصوف “. وحان وقت العودة الى الوطن .

العودة للوطن

     مصاعب العودة بدأت في المهجر ذاته فلم يكن بامكان السفارة الفرنسية في الارجنتين اعطاء تأشيرة سفر لاي لبناني الا بامر واذن من وزارة الخارجية اللبنانية .

     وعودته الى الوطن لم تكن مسالة هينة ولا روتينية . لذلك احاطها بكثير من الاهتمام والادراك للوصول الى خلفيات كل الامور التي تترتب العودة عليها . فكانت شغل رسائله الشاغل بعدما علم ان اسم الحزب اختصر وان العلم تبدل في المركز ببيروت .

     لذلك , نراه يؤكد قائلا ان ” امر عودتي الى الوطن يتوقف على بحث هذه النقطة مع المجلس الاعلى , وعلى التقارير التي ستردني من المجلس موضحة الحالة الراهنة هناك . وان القراءة المتأنية لاهتمام سعاده ببعض التفاصيل المتعلقة بعودته تظهر ان لديه شكوكا حول موقف بعض قياديي الحزب من عودته ومن التزامهم بعقيدة الحزب ومبادئه .

     واخيرا حصل على الفيزا وبدأ مرحلة البحث عن مقعد في طائرة في المطار , وبعد اجراءات وصعوبات وتنقل بين شركات الطيران , يحصل سعاده على مقعد في طائرة ” عبر العالم ” المتوجه في الساعة الرابعة بعد الظهر الى مدريد , ومن هناك يتابع معها الى الجزائر , ثم الى تونس فطرابلس الغرب واخيرا يصل القاهرة في الساعة الحادية عشرة ليلا ليجد ” الامين نعمة تابت والرفيق اسد الاشقر ” , في استقباله في فندق ” شبرد ” متوقعين وصوله الى بيروت صباح السبت في اول من آذار ( مارس ) 1947 , ولكنه لم يصلها الا يوم الاحد في الثاني من آذار .

     عن الفترة ما بين وصوله وبين اغتياله بقرار قضائي صوري تم نشر مؤلفات ومقالات ودراسات كثيرة لا تزال متوفرة لذلك سأمر عليها باختصار جدا لان ما قبل عودته وحتى ولادته وتأسيسه الحزب لا يزال مجهولا لمعظم المهتمين بالحزب وتاريخه .

 تنظيم الاستقبال

      وصل سعاده الى مطار بيروت في يوم دافئ , مشرق مشمس جميل . وعند مفرق كل طريق من الطرق الموصلة الى بيروت من الشمال والجنوب والشرق ومن مفارق الطرق الموصلة من داخل المدينة الى المطار الدولي القديم في منطقة ” بئر حسن ” , تقف لجنة تنظيمية حزبية تعطي لكل وفد رقمه وتعليمات الاتجاه , وبعدم تجاوز أي وفد آخر مع تحديد مكان وقوف الباصات الناقلة لاعضاء الحزب , ومع كل لجنة تنظيمية سيارة مكشوفة تنتقل من مكان الى أخر .

     على مدخل الطائرة شاهدناه يلوح بيده وعرفنا للتو ان الرجل الواقف الى جانبه هو فوزي القاوقجي . وعلى الطائرة نفسها وصل الموسيقار فريد الاطرش . والى طرابلس عاد على الطائرة الطالب في جامعة القاهرة رشيد كرامي . وحتى اليوم , لم يكتب احد ولم يذكر شيئ عن مصادفة القاوقجي مع سعاده في الطائرة , وما اذا جرى حديث متبادل بينهما .

 الاستقبال التاريخي

     شكل ” القوميون حاجزا طويلا يتماسكون بالايدي لكي تبقى الطريق الى المطار حرة في بيروت . والحرس المكلفون بالحماية يطوقون بسياراتهم المكشوفة كل المنافذ ” .

     تميز استقبال سعاده عن غيره من المهرجانات السابقة بانه كان ” الاول في العدد والاعداد ” ولم تتم الفرحة ففي الساعة الحادية عشرة ليلا حضر رجال الامن الى حيث يقيم سعاده لالقاء القبض عليه بعد مرور اربع وعشرين ساعة على وصوله الى الوطن , ولكن الاحتياطات المسبقة تحول من دون وصولهم الى مآربهم .

اسباب الاعتقال

    سبب الاعتقال , الظاهر , ان سعاده لم يعترف بالكيان اللبناني اثناء خطابه امام المحتشدين لاستقباله. ولكن وبعد سنه وبضعة اشهر انكشفت المؤامرة يوم الاعتداء على الحزب واعتقال جميع اعضائه وملاحقة زعيمه في حادث الجميزة الشهير في 9 حزيران 949 لاغتياله باي شكل كان .

الملاحقــــــة

     في المساء نامت بيروت على سيرة سعاده واستقباله وخطابه , اما حكام بيروت فلم يغمض لهم جفن . ذلك كان ليلهم الطويل .

     ولعل هذا التنظيم الغريب عن الساحة العربية , ايقظ فيما ايقظ عيون وانتباه المتربصين بالامة , الى وجوب وضع حد لانتشار حزب يعلّم الناس النظام والطاعة , ويحاول اختصار هوة التمدن بيننا وبين الغرب . فكيف اذا كان التنظيم عاملا شاملا فلسطينيين واردنيين وشاميين ولبنانيين بكل ما فيهم من طوائف ومذاهب ؟. لذلك فلا بد من وضع حد لانتشاره واعتقال زعيمه .

    وبدأ التنفيذ في الساعة الحادية عشرة ليلا عندما حضر رجال الامن الى حيث يقيم سعاده لالقاء القبض عليه بعد مرور اربع وعشرين ساعة على وصوله الى الوطن , ولكن الاحتياطات المسبقة حالت  دون وصولهم الى مآربهم .

ادارة المعركة

     وتستمر ملاحقة سعاده لتنفيذ مذكرة الاحضار . وكذلك يستمر هو في الوقت ذاته بتوجيه سياسة الحزب من مقره في الجبال بشكل طبيعي عبر اتصاله المستمر بالادارة المركزية . يطلع من خلالها وبشكل دائم على التطورات السياسية في البلاد . ويتواصل مع الراي العام ويوجه الحزب في ” سياسة رشيدة صلبة قوية “.

    اما الاسباب الظاهرة لملاحقة الحكومة للزعيم فتعود الى اتهامه بان خطابه تضمن مسا بـ ” الكيان اللبناني “.

     مذكرة التوقيف الغيت في التاسع من تشرين الثاني 1947 . ومعنى ” الغيت ” يعني ان الاتهام ذاته قد الغي واسقط . وافتضح الغرض من انه كان مجرد غطاء لابعاد سعاده ولو موقتا عن الساحة السياسية والقومية وعن مباشرة السلطة في الحزب , تمهيدا للقضاء عليه نهائيا تحت أي سبب او مبرر .

     نزل سعاده الى قيادة الحزب في بيروت ” واعلن النفير العام . وعندها فقط  شعر القوميون ان فترة الراحة والتحالف مع السلطة دفنت في بئر الماضي “. وهنا لا بد من الاشارة الى ان فترة ملاحقة سعادة تميزت بمعالم مهمة اعطت مغزى كبيرا بالنسبة الى الظروف التي نشأت فيها , ونشرت ظلالها على الحياة السياسية والاعلامية اللبنانية , احتل الحزب خلالها عناوين الصحف مرة ثانية , كما حدث عند اكتشافه عام 1935 .

 طرد تابت واياس 

   في 13/8/1947 اصدر سعاده قرارا حزبيا خطيرا بتجريد نعمة تابت ومأمون اياس من ” رتبة الامانة ” وطردهما من الحزب . ويومها لم يلتحق بهما من اعضاء الحزب سوى اثنين فقط . وقد اعتبر البعض ان ما حصل مغامرة وقفزة في الهواء ان يطرد سعاده من كان رئيسا للحزب في غيابه طوال عشر سنوات, وانتمى اكثر من نصف اعضاء الحزب في الكيانات السورية الى الحزب خلالها. ولكن سعاده كان واثقا انه على حق .

     بدأ سعاده نشاطا حزبيا اداريا ثقافيا سياسيا مميزا فاعاد ترميم الاجهزة الادارية بما يتناسب مع الامكانات المتوفرة . واحيى الندوة الثقافية سياسيا بالمحاضرات الشهيرة باسم ” المحاضرات العشر ” وفيها شرح عقيدة ومبادئ الحزب , وصار الاقبال على الانتماء واسعا بحيث لفت الانظار وخاصة في منطقة بيروت  وعائلاتها السنية . مما دفع بسعاده لزيارة المناطق فزار البقاع وعين زحلتا والكورة .

     ركز سعاده هدفه الاولي والمهم على ايجاد ” مركز نفوذ ” للحزب في لبنان يكون منطلقا الى الكيانات الاخرى تبشيرا وتوسعا. في ” الاعداد السلمي لاستلام الحكم , او الاشتراك فيه ” فيكمل ما بدأه في الثلاثينات من تدريب وتحضير “.

     من المهم ان يعرف القراء واعضاء الحزب ان النشاط الهائل والضخم لعجلة الحزب الدائرة بقوة عنيفة من دون توقف ما كانت تعتمد على غير موارد الحزب الذاتية من اشتراكات . وهبات يبعث بها رفقاؤنا في المهجر . فاذا عرفنا كيف كانت احوال اعضاء الحزب المالية والمادية بشكل عام تأكد لنا ان ما قام به الحزب في تلك الفترة , بل طوال وجوده , قياسا على وضعه المالي يدخل في باب المعجزات , لذلك فان الفرق بين ضخامة الانتاج والعمل وبين قلة الموارد كانت تغطيه التضحيات النادرة من جبابرة النهضة وجنودها المجهولين , في اعطائهم الحزب كل دقيقة من حياتهم , فليس مبالغة اطلاقا  تشبيه وضع الحزب واعضائه بخلية النحل ” لا مكان فيها للكسول “. وحتى بيت الزعيم ذاته ” اقتصر دخله على ما كانت تستلمه زوجته من اهلها في الارجنتين “. ولم يكن ذلك كافيا لسد حاجات العائلة والضيافة .

  الجولات الحزبية

     في 12/3/948 وعند مفرق شارع بيروت , كنت مع حسن جمال باكرا منتظرا قدوم الزعيم في زيارة خاطفة لدمشق ادقق بسيارة لبنانية زرقاء . وفجأة تقف السيارة وفيها سعاده ونحن بانتظاره . وجلست على يساره حتى مكتب الحزب في شارع كرجية حداد – 29 ايار – حيث لعب كرة الطاولة مع جميع الموجودين لبضعة دقائق قبل انصرافه الى مواعيده . وبقي في دمشق حتى المساء . واثناء النهار تناول الغداء في دار الوجيه نسيب سكر والد الرفيق رياض , بحضور وزير الدفاع احمد الشرباتي , بناء على موعد مسبق .

  اهم جولات سعاده الحزبية عام 1948 بدأها في الصيف من دمشق وجرى له استقبال حافل وضخم في ناحية دمر على الطريق العام .  وبعدما استراح في مكتب الحزب ينتقل الى منزل عصام المحايري المنفذ العام ليطلع على برنامج الزيارة ويعطي توجيهاته بحضور معروف صعب وسامي الخوري وبشير موصلي وبقية الوفد المرافق له ….حول ترتيب الزيارات واللقاءات السياسية وفي المساء حلّ ضيفا في منزلنا بحي المهاجرين – ناظم باشا . في الثالث من تشرين ثاني 1948 , طوال فترة زيارته .

     الوضع في الحي وحول البناية مريح ومؤمن . وقد مكث عندنا اثني عشر يوما حتى الثاني عشر من تشرين الثاني حافلة باللقاءات والمقابلات مع شخصيات علمية وادبية وسياسية وحزبية . تخللتها دعوات لسعادة , منها دعوة عفيف ” بك” بيهم وحضرها نبيه “بك ” العظمة ” رئيس ” الحزب الوطني ” , وصبري العسلي ( وزير الداخلية يومها ) والنائب السابق ابو الهدى الحسيبي . وفي مرات اخرى اقيمت دعوات وسهرات عدة عند معروف صعب عصام المحايري وبشير موصلي ومظهر شوقي وصبحي فرحات وجورج غناجة .

 اللقاء مع حسني الزعيم

     اول لقاء له مع حسني الزعيم تم بحضور اديب قدورة ركز فيه حسني الزعيم على بشارة الخوري ورياض الصلح واهل الحكم في لبنان متجاهلا كارثة فلسطين والنكبة , التي لم يأت على ذكرها خلال تدفقه بالحديث عن انقلابه , وعن موقف حكومة لبنان السلبي منه . وينتهي ليأخذ سعاده منه دفة الحديث منطلقا من اصل العلّة , متعرضا الى السبب الاساس فـــي كل مـــا وصلنا اليه وما نحـــن فيه :” معاهدة سايكس – بيكو معتبرا اياها السبب الاصلي , الذي بسببه قامت الصهيونية وتقسمت الامة السورية الواحدة الى دول كالعراق والشام والاردن وفلسطين ولبنان والكويت …. وبسببه ايضا سلخ لواء اسكندرون ولم نعرف كيف نطالب ونثبت حقنا بقبرص والاهواز ” .

    انه رجل المبادئ والعقيدة , واول من نادى بتوظيف ” السياسة في خدمة المصالح القوية العليا للامة “. فيعلن لحسني الزعيم ” بان مبادئ الحزب الاساسية منها والاصلاحية , كفيلة بان تنهض بالشعب ليعرف نفسه ومصالحه ويكوّن ارادته بعد درسها واقتناعه بها . 

 رحلة الـــوداع

 ” رحلة الوداع الاخير ” لم تقتصر على دمشق بل انها واحدة من ” المحرضات ” الظاهرة في التأثير على السلطة اللبنانية لتضع حدا لهذا العملاق المتعاظم خطره يوما بعد يوم على الشام كما على لبنان . فتابع الرحلة الى حمص بعد دمشق ووصلها في اجواء حزبية وشعبية حارة .

     وفي ذلك الجو الحماسي الرائع ما كان للمناسبة ان تمر من دون اجتماع حاشد القى فيه سعاده كلمة قال فيها :” انتم هذه الفئة القليلة في مدينة حمص , انتم جزء من نهضة هي اروع نهضة يراها القرن العشرون , ليس فقط في بلادنا بل في العالم اجمع . لم يقم حزب في العالم كله في هذا الزمن واجه من الصعاب ما واجهه الحزب السوري القومي الاجتماعي وقدر ان يثبت ويتغلب عليها “.

 في حماه وحلب

     وغادر الزعيم حمص في السابع عشر من تشرين الثاني الى حماه . وفي حماه وضع خاص . حيث يواجه الفرع الحزبي اوضاعا داخلية معقدة بعد طرد اكرم الحوراني وتأسيسه   ” حزب الشباب ” من بعض اعضاء الحزب القومي , مثال خليل كلاس وغيره … عدا عن الجو الديني والاقطاعي المسيطر , والتكتل السياسي الرجعي . فلم يستكمل التنظيم مداه الحقيقي بعد .

    بدأ الاستقبال عند ناحية الرستن على بعد حوالي خمسة وعشرين كيلو مترا من حماه , ليصل الزعيم الى مقر اقامته . ومن ثم الى لقاء حشد من الطلاب جاؤوا خصيصا للتعرف على الحزب .

     يبقى سعاده في حماه يومي 17 و 18 ويغادرها في التاسع عشر الى حلب ليجد في استقباله موكبا للسيارات بقضاء معرة النعمان , على بعد حوالي ثمانين كيلو مترا من حلب . فتوقف للاستراحة ولقاء الدكتور راتب حراكي , وبعض المسؤولين , متابعا طريقه مع سياراتهم الى حلب . وفي حلب يختلف الامر عن حماه , فالحزب هناك راسخ القواعد ولم يمر بازمة داخلية كما في حماه , وانتشاره واسع في مختلف الاوساط .

     بعدما يستعرض سعاده صفوف القوميين محييا عند مدخل حلب , يتابع سيره بالموكب الضخم الى قلب المدينة فقلعة حلب المشهورة , ويطوف حولها حسب البرنامج وسط ذهول المتفرجين من هذا الموكب الكبير المنظم واعلام الزوبعة الحمراء , فيما لم تشهده حلب من قبل بهذه الكثافة للحزب. 

     في اليوم السابع من زيارته لحلب يرجع الى حماه تلبية لدعوات ملحة , ويلقي فيها محاضرة شاملة عن ” القضية العربية ” وعن ” القومية السورية ” قبل ان يرجع .

     ثم يعود الى حلب ليجد بانتظاره وفودا كبيرة من محافظتي دير الزور والجزيرة في استقباله بعد الاعلان عن عدم تمكن الزعيم من زيارة المحافظتين . بسبب ضغط الوقت وبرنامج زيارة اللاذقية الحافل الحاشد بالسيارات والدارجات النارية .

 النشاط باللاذقية

 دخل سعادة اللاذقية مارا بشوارعها حتى مقر اقامته في دار عبد الغني اسرب وهو من وجهاء اللاذقية الكبار ووالد الرفيق عبد القادر اسرب .

      بدات الاستقبالات عشية ذلك اليوم من خلال مأدبة عامرة ضخمة في المنزل حضرها شخصيات سياسية وحزبية واصحاب الصحف ومراسلوها , ونشرت جريدة ” الارشاد ” تفاصيل المأدبة والشخصيات التي حضرتها وادّب كثير من الرفقاء للزعيم وفي مقدمهم فؤاد الشواف وجميل مخلوف في ” بستان الباشا ” – ( بستان سعادة ) القريبة من اللاذقية حيث القى كلمة نشرت مع بقية خطب سعادة فيما بعد .

     اثمرت زيارة سعادة للمنطقة المتأثرة بالمفاجآت العشائرية تحرر الكثير من الشبان والشابات وتضاعف عدد اعضاء الحزب عشرات المرات بعد الزيارة وغرست فيها بذورا لا تزال تتفتح حتى اليوم .

الى بانياس وطرطوس وصافيتا

     في طريق عودته الى لبنان سيقوم سعادة بزيارة كل من بانياس وطرطوس وصافيتا . وكما في كل مكان كانت الدراجات والسيارات تستقبله على مداخل ومخارج البلدات .

     غادر سعاده طرطوس في موكب كبير من السيارات باتجاه صافيتا البعيدة مدة نصف ساعة . وفي رأس ” الخشوفة ” تلاقت سيارات طرطوس المودعة مع سيارات صافيتا المستقبلة . لم يترك سعاده المناسبة تمر من دون ان يزور قرية بعمرة المجاورة وفيها الرفيق المناضل المرحوم الشيخ ابراهيم عبد الرحيم , مؤسس العائلة القومية الاجتماعية المعروفة في بعمرة .

 الطريق للمؤامرة

     يواظب سعاده على مكتب الجريدة في الجميزة , بعد عودته من الجولات ليكتب مقاله الرئيسي ويسير العمل طبيعيا في الجريدة .

    ” ولم يمض اكثر من نصف ساعة على وصول سعاده الى مكتبه بالجريدة صباح التاسع من حزيران حتى سمعنا اصواتا صاخبة مرتفعة آتية من المقهى الواقع في الزاوية المقابلة لمبنى الجريدة. ويخص احد اعضاء حزب ” الكتائب اللبنانية “. وتسارعت الاحداث بعد وصول سعاده الى بيته واخذت الاخبار ترد تباعا : اعداد من حزب “الكتائب ” تهاجم مكاتب الجريدة ” الجيل الجديد ” وتضرم النار فيها ووقوع جرحى ومعتقلين .

     عاد جبران جريج من مهمته وادلى الى سعاده بما لديه , عن خطورة الوضع فعدل عن زيارة الجرحى في المستشفى . وفي عجلة فائقة , افرغ ادارج المكتب وتمنطق بمسدسه وغادر مع ادمون طوبيا بسيارة يوسف سلامة . وبدأت الاعتقالات قبل منتصف الليل بتطويق المنطقة , من قوى

الجيش والدرك والشرطة والمصفحات والسيارات …..فاضطر سعادة الى مغادرة لبنان في غياب امكانية لجوئه الى معاقل محصنة يحرسه اعضاء الحزب ويحمونه كما في تشرين 947.

بسبب اختلاف الظروف .

     بقي سعاده في بيروت اربعة ايام وصباح الثلاثاء في الرابع عشر من حزيران 1949 وصل الى دمشق خفية . واقام في منزل نجيب شويري فـــي  ” بناء كسم وقباني ”  الكائن اليوم على امتــــداد ” مجلس الشعب ” , وبعد حديقة المجلس ,ويفصلها عنه الطريق العام الممتد مـــــن رأس شارع الحمرا ( جنوبا ) حتى ” نزلة التجهيز ” باتجاه طريق بيروت عند فندق ” الفور سيزن ” اليوم .

    في دمشق اجتمع سعاده بحسني الزعيم حوالي الساعة وحينما خرج من الاجتماع كان باسما هادئا .

كما يروي الدكتور صبري القباني الشاهد العيان معلنا ان تفاصيل اجتماع سعاده مع حسني الزعيم رواها سعاده له بنفسه وليس ذلك غريبا بعدما تبين لسعاده انه ” من الكفر ان يبقى الدكتور قباني بعيدا عن معرفة ما دار من بحث مع حسني الزعيم “. وهو الذي كان صلة الوصل والصادق المخلص بتعامله مع الحزب وزعيمه .

     وخلاصة ان سعاده طلب من حسني الزعيم التعاون المشترك فوعده حسني الزعيم انه سيوعز الى الحدود لتقديم المساعدات الممكنة الى رجال الحزب في غدوهم ورواحهم .

 الهدف رفع الضغط

     لا يدرك موقف سعاده ولا يدرك ابعاد محاولة الاستعانة بحسني الزعيم من لم يتوفر له الافق العسكري والسياسي والاستراتيجي الكافي , ليقرا التاريخ بمعانيه وقواعده معطياته وحوافيه وبطونه, لا بسطحيته وظواهر بعض الاعمال . لان كل ما قام به سعاده في ذلك الوقت ينصب في خانة رفع الضغط عن القوميين ولو كلفه ذلك حياته لينجو الحزب . وقد تمكن سعاده فعلا من تخفيف الضغط ووقف التعذيب عن القوميين بلبنان بعدما قدّم دمــه   .

     بعد ايام طرأ عامل جديد زاد في ظروف الحزب السيئة سوءا , باستقالة الوزارة في الشام , وهو ما يسميه الدكتور قباني ” توالت الحوادث سراعا ” فرجع محسن البرازي من مصر ليحل الازمة اللبنانية السورية. وبدأ المقدم الحسيني ينكمش عن زيارة سعادة في مقره يوميا خلافا لعادته.

 الثــــــــورة

     كانت شمس الاثنين الرابع من تموز 1949 تشرق والزعيم يرتجل خطابه في ذلك الركن المنعزل القريب من دير العشائر في اول نقطة التقاء عند ” الحدود ” بين الشام ولبنان . مخاطبا الرفقاء المتطوعين لتنفيذ اعلان القورة القومية الاجتماعية الاولى لتحرير رفقائهم وانقاذ عائلاتهم. ولم تكن ثورة للاستيلاء على السلطة كما تأكد ذلك في بيانات سعاده الى الشعب. 

     كنا قد  اصبحنا على بعد يومين او ثلاثة من الموعد المحدد لبدء العمليات العسكرية الهادفة الى ارغام رياض الصلح على تبديل مخططاته تجاه الحزب ولذلك سبق اعلان الثورة صدور بيان في 16 حزيران 1949 حمل عنوان ” الى القوميين الاجتماعيين والامة السورية ” وجرى توزيعه في لبنان على نطاق واسع .

     في السادس من تموز 1949 وبعد فشل ثورة الحزب السوري القومي في لبنان , طلب المقدم ابراهيم الحسيني من انطون سعاده مرافقته لمقابلة حسني الزعيم . وقبل المصنع كان الامير فريد شهاب ,مدير الامن العام اللبناني , بانتظار سعاده حيث استلمه من المقدم الحسيني واقتاده الى لبنان , ليحاكم ويحكم عليه وينفذ الحكم فيه خلال ثلاثة وثلاثين ساعة من لحظة اعتقاله في القصر الجمهوري بدمشق حتى تنفيذ الاعدام – الاغتيال – . 

     فجر اليوم الثامن من تموز 1949 نُفذ حكم الاعدام في لبنان بالزعيم انطون سعاده , بعد محاكمة صورية اقيمت على عجل واستمرت ساعات قليلة , لتبدأ مأساة الحزب السوري القومي التي دبرها الامريكان واسهم في تنفيذها حكومات لبنان والشام والسعودية ومصر وبعض الادوات الاخرى وهو ما سنزود القراء بتفاصيله في الثامن من تموز القادم في الذكرى الستين لاغتياله .

المصدر: حياة الزعيم أنطون سعادة بقلم الأمين بشير موصلي 

المصدر
بشير موصللي - موقع الحزب السوري القومي الاجتماعي



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى