مقالات
شمس الدين العجلاني : فيرناندو دي أراندا.. لغز من ألغاز دمشق 1 من 2
شمس الدين العجلاني – الأزمنة
لكل مدينه أسرارُها.. ولكل مدينة تاريخُها وبطولاتها.. ولدمشق سر وأسرار.. قصص وحكايات.. بطولات لا تنتهي، وحكايات تناقلها الأبناءُ عن الآباء والأجداد، إنها أول مدينة مأهولة على وجه الأرض ورد ذكرها في الديانات الثلاث، وأنها المدينة العريقة الطيبة التي تصنع الحضارة وتسطر التاريخ.. إنها دمشق؛ سر
الكون والتكوين، لم تزل باقية حتى الآن ترد الأذى عن العرب والعروبة، وتنبئ عن النصر القادم.
إنها دمشق التي تختزن التاريخ، وتحكي أحجارها وسماؤها عن أسرارها..
فيرناندو دي أراندا:
هو فيرناندو دي أراندا سمي على اسم والده الموسيقار الذي ولد في العاصمة الإسبانية مدريد وكان أستاذاً في الكونسرفاتوار، وفي عام 1886 وافق فيرناندو الأب على العرض الذي قدمه سفير السلطان التركي للانتقال إلى استنبول والعمل في القصر العثماني غادر فيرناندو بلاده إلى استنبول مع عائلته وعيّن هناك قائداً للفرقة الموسيقية العسكرية ومدرساً خاصاً للموسيقا لابن السلطان ولعدد من أفراد السلطة الحاكمة، ومكث في تركيا طوال 23 عاماً، حيث عاد إلى إسبانيا عام 1909م وترك ابنه المهندس فيرناندو دي أراندا الذي رفض العودة إلى بلاده وآثر الإقامة في الشرق الأوسط. لكنه لم يمكث طويلاً في استنبول فغادرها إلى ألمانيا ثم فرنسا، وتشير بعض المصادر أنه درس في استنبول هندسة العمارة كما درس التصميم في مدرسة الفنون الجميلة وساهم في تصميم وتنفيذ بعض أبنية استنبول. ولكن هنالك من يقول إنه لم يدرس الهندسة وإنما كل إبداعاته كانت نتيجة عبقريته وخبرته!؟
ولد فيرناندو دي أراندا غوميث الابن، في مدريد بتاريخ 31 كانون الأول عام 1878م، والدته أليسا غونثاليث غوميث توفيت بعد ولادته بفترة وجيزة، تمتع فيرناندو بحياة مليئة بوسائل الراحة والرفاهية نتيجة عمل والده لدى السلطان العثماني، وكان ميالاً منذ صغره إلى فن التصميم والهندسة، تزوج مرتين بدمشق الأولى من سيدة من أصول يونانية من مدينة أثينا تدعى زنوبيا سيريكاريس وتعرف عليها بفندق فكتوريا ولديه منها ولدان الأول مانويل مواليد عام 1911م وكارلوس مواليد عام 1912، والثاني من سيدة سورية اسمها صبرية حلمي.
في عام 1902م أو عام 1905م استدعي إلى دمشق من قبل رئيس معماريّي الخط الحجازي للعمل في إنشاء محطة الخط الحجازي في القنوات، أو حضر إلى دمشق بمبادرة منه.
أقام فيرناندو حين قدومه لدمشق لأول مرة بفندق فكتوريا في ساحة المرجة، ومن ثم انتقل مع عائلته إلى حي ساروجا في منزل يملكه شخص اسمه توفيق، ثم انتقل بعد ذلك إلى شارع فؤاد الأول وأقام مع أسرته في الطابق الأول الذي يعلو المكتبة العمومية التي كان يملكها أديب خير، ومن ثم انتقل إلى بناء في منطقة الحلبوني، وخلال إقامته بدمشق تعرف على العديد من أعيان ومثقفي البلد منهم سلطان باشا الأطرش، ومحمد كرد علي، ونوري الشعلان، والمهندس الشهير آنذاك سليمان أبو شعر، والموظف في وزارة المواصلات سهيل شباط..
عمل فيرناندو بدمشق بمجال التصميم المعماري والشأن الدبلوماسي حيث كان نائباً للقنصل الفخري الإسباني في دمشق بين عامي 1912م- 1936م.
وخلال الحرب العالمية الأولى غادر دمشق العديد من قناصل الدول الأوربية وعهدوا لفيرناندو بمسؤولية رعاياهم.
شغل فيرناندو وظيفة الإشراف المعماري على مخططات الأبنية الرسمية بدمشق في وزارتي المواصلات والأوقاف إضافة للعديد من الأبنية الأخرى الخاصة والرسمية، وأتقن أربع لغات الألمانية والفرنسية والتركية والعربية إضافة للغته الأم الإسبانية.
زواجه:
لم تكن علاقة فيرناندو بزوجته الأولى اليونانية زنوبيا على ما يرام وكانت حياته الزوجية تسوء يوماً بعد يوم والنزاعات بينهما تزداد وتتكرر باستمرار، وشاءت الظروف أن تطلب عائلة ” حلمي ” الدمشقية الثرية من جذور تركية، من فيرناندو أن يبني لهم منزلاً بدمشق، ومن خلال تردد فيرناندو على هذه العائلة تعرف على ابنتهم صبرية وكان عمرها آنذاك ثلاثين عاماً فهي من مواليد 1897م وتصغره بعشرين عاماً، وفي عام 1927م تزوج صبرية زوجته الثانية.
في عام 1936م حدث انفصال نهائي بين فيرناندو وزوجته زنوبيا التي غادرت دمشق مع أولاده إلى بيروت وبقي فيرناندو بدمشق، وفي عام 1936 سافر مع زوجته صبرية إلى حيفا واعتنق الدين الإسلامي هناك وسمى نفسه محمد دي أراندا.
وفي عام 1952م توفيت زوجته زنوبيا في بيروت، وبتاريخ 8 آذار من عام 1954م ثبت فيرناندو زواجه من صبرية في السفارة الإسبانية وكان فيرناندو وصبرية يعيشان آنذاك في منزل ملك لصبرية كان قائماً في شارع ناظم باشا بالقرب من جامع المرابط، كما كانت عائلتها تملك فندق فكتوريا الشهير بساحة المرجة والذي هدم في القرن الماضي.
من أعماله:
من الصعوبة بمكان أن نتحدث عن أوابد دمشق العريقة وعماراتها الرائعة دون الحديث عن فيرناندو دي أراندا الذي كان له الأثر الكبير في عملية تطوير العمارة والعمران في دمشق وبعض المدن السورية الأخرى خلال النصف الأول من القرن العشرين.
خلال أكثر من خمسين عاماً أنجز المهندس فيرناندو عدداً من الأبنية المميزة الرائعة بدمشق والتي لم يزل أغلبها قائماً حتى الآن شاهداً على عظمة أعمال فيرناندو، فقد صمم بناء البسام مقابل بناء مجلس الشعب ويمتاز هذا البناء على بساطته باستعمال الموزاييك الإسمنتي الملون كإطارات للنوافذ والأبواب. كما أنجز عدداً من البيوت الفخمة مثل منزل عطا الأيوبي عام 1928 م، ومنزل جميل مردم بك في حي نوري باشا، واستعمل لأول مرة بدمشق الاسمنت المسلح بين عامي 1925 – 1927 في بيتين مازالا قائمين حتى الآن في حي السنجقدار، ومبنى جامعة دمشق الذي شيد ما بين عامي 1922 – 1923م، وبناء في حي الحلبوني مؤلف من ثلاثة طوابق، وبناء العابد الشهير في ساحة المرجة وهو بناء ضخم نمطه ألماني أنشئ عام 1906م فندقاً ثم حول إلى ثكنة عسكرية خلال الحرب العالمية الأولى، 1910، ويعتقد أن تصميمه منقول وأن دراسته مستوردة، قدمها المعمار الألماني ماينسر، وقام بتنفيذها فيرناندو، مبنى الأوقاف “المصرف التجاري السوري” الذي شيد عام 1930م في شارع النصر وكان مقراً للعديد من المراكز الحكومية زمن الاحتلال الفرنسي، بناء المكتبة العمومية “لم يعد موجوداً” وهو من أوائل الأبنية التي بناها فيرناندو بدمشق وعاش فيه مع عائلته حتى عام 1922م وكان أيضاً مقراً للقنصلية الإسبانية.
عام 1940م صمم بناء وزارة المواصلات الحالي، وصادق على بناء الجناح الغربي في المتحف الوطني والذي صممه المهندس الفرنسي ميشيل إيكوشار، كما صادق على بناء قصر العدل الذي صممه عبد الرزاق ملص، ومسجد المرابط في المهاجرين، وصمم فيرناندو أبنية وقف جامع الطاووسية، ومنزل خالد العظم الواقع بين الربوة ودمر، ومنزل حقي العظم، ومنزل منيف اليوسف اللذين كانا في حي الأكراد.
كما قام فيرناندو ببناء فندق زنوبيا الشهير في مدينة تدمر عام 1924.
ويبقى من أهم أعمال فيرناندو محطة الحجاز الشهيرة والمعروفة حتى الآن، وبناء العابد الشهير أيضاً في ساحة المرجة.