بقلم عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
لعل من أشهر الصور الضوئية القديمة لساحة باب الفرج المتداولة على الشابكة، تلك الملتقطة لها من سطح مبنى كائن غربها، ويقع عند نقطة التقائها بشارعين يؤدي أحدهما إلى جسر الناعورة (المتحف)، والآخر إلى باب جنان (الصورة 1).
وتظهر في الصورة الساحة، وقد توسطها برج الساعة الشهير المدشن في العام 1899. بينما يبدو إلى اليمين من الصورة جزء من مخفر باب الفرج. وفي حين تظهر محلة بحسيتا خلف برج الساعة، نجد فندق الخديوية يبدو إلى اليسار من البرج.
أما في مقدمة الصورة وأسفل البناء الذي يعلو سطحه المصور فنرى سياجاً معدنياً مرتفعاً يحيط بما يُعتقد أنه بركة دائرية الشكل ذات نافورة مرتفعة، مما جعل بعض الباحثين المهتمين بعمارة حلب وعمرانها يذهبون إلى القول إنها “حوض ماء عين التل” المدشن في شهر شعبان من العام 1335 هــ الموافق للفترة الممتدة من 23 أيار/ مايو ولغاية 21 حزيران/ يونيو من العام 1917 م- كما يذكر مؤرخ حلب الغزي في كتابه المرجعي “نهر الذهب”- على يد أحمد جمال باشا الملقب في الحوليات التاريخية السورية بـ”السفاح”، الذي كان يشغل آنذاك منصب ناظر البحرية العثمانية وقائد الجيش العثماني الرابع.
ولعلهم استندوا في قولهم هذا إلى معطيين فحسب ذكرهما الغزي في معرض وصفه لحوض ماء عين التل، يتعلق أحدهما بوقوعه في “رحبة باب الفرج” أي في ساحة باب الفرج ومتسعها، ويتصل الآخر بقوله إنه كان “يصب فيه الماء فينفر إلى العلاء قدر رمح”.
بيد أن النص الذي أورده الغزي في سياق استعراضه لحوادث سنة 1335 هـ/ 1917 م، ويتناول فيه حوض ماء عين التل يتضمن معطيات أخرى جديرة بالتوقف عندها أثناء تحليلنا للصورة موضوع البحث، ومحاولتنا الاستفادة منها، وربطها بالسياق التاريخي المناسب.
الغزي يصف حوض عين التل:
كتب الغزي يصف حوض ماء عين التل قائلاً: “عمر في رحبة باب الفرج حوض جميل بديع الصنعة- لو تمّ عمله- يصب فيه الماء فينفر إلى العلاء قدر رمح، ثم يصب في حويض مستور، له مباذل مغروسة بدائره” (قارن مع: الغزي، نهر الذهب، طـ دار القلم، ج3، ص 476).
والواقع إن وصف الغزي لحوض ماء عين التل بـالـ”مستور” في دلالة على أن تصميمه كان أقرب للخزان الذي تجمع فيه المياه منه للبركة، وبأنه “جميل بديع الصنعة” في إشارة جلية إلى أهميته المعمارية، واحتواءه على (مباذل) وصوابها مبازل ويقصد بها “حنفيات” أو “صنابير” مغروسة بمحيطه، لا يتطابق مع أي من الصور الملتقطة لساحة باب الفرج التي يظهر فيها هذا السياج المعدني المرتفع، الذي يحيط بما يُعتقد أنه بركة دائرية الشكل ذات نافورة مرتفعة، فضلاً عن أن السياج المعدني المرتفع ذاته كان قائماً بهذا الشكل الظاهر في الصورة قبل تعمير “حوض ماء عين التل” وتشييده بما يزيد على عقد من الزمان، وهو ما سنبينه أدناه.
مقهى الريجي الصيفي غرب ساحة باب الفرج:
ربما كان من نافلة القول أن نذكر بأن السياج المعدني الدائري المرتفع ذاته يظهر في العديد من البطاقات البريدية التذكارية، التي تحمل صوراً ملتقطة لنفس المكان في ساحة باب الفرج، ومن الزاوية ذاتها ترقى بتاريخها إلى العقد الأول من القرن العشرين، ومن بينها البطاقة البريدية المرفقة التي تتضمن الصورة موضوع البحث ذاتها وقد لونت تلويناً يدوياً، والمرسلة من حلب إلى مدينة بروكسل بتاريخ 30 تموز/ يوليو 1906، أي قبل تشييد “حوض ماء عين التل” بما يزيد على عقد من الزمان (الصورة 2).
وأشير، ضمن هذا السياق، إلى أنني ظفرت بصورة نادرة أخرى ملتقطة للمكان ذاته في ساحة باب الفرج ومن الزاوية نفسها نقلاً عن بعض المواقع التركية (الصورة 3)، تعود لمطالع العام 1916 ومؤرخة في 10 ربيع الأول 1334 هــ الموافق 16 كانون الثاني/ يناير 1916م، أي قبل جر ماء عين التل إلى حلب، وإقامة حوض لها في ساحة باب الفرج بنحو عام ونصف العام.
ومما تمتاز به الصورة النادرة هذه أنها تتضمن توثيقاً لبعض المشيدات التي كانت قائمة في الساحة وتطل على برج الساعة الشهير، وتحديداً لمسمياتها على النحو الذي كانت تُعرف به إبان الحرب العالمية الأولى في أواخر العهد العثماني، مع الإشارة إلى أنها مدونة بقلم التاجر الحلبي المعروف صبحي أفندي الجزماتي وتحمل توقيعه (ص. جزماتي).
أما المسميات المرقمة التي تحتوي عليها الصورة نقلاً عن الأصل التركي العثماني؛ فهي كما يلي:
1- مقر قيادة موقع حلب العسكري؛
2- بيت ضيافة معد لضباط الجيش العثماني؛
3- مخفر باب الفرج؛
4- المقهى الصيفي الذي أنشأته رئاسة إدارة الريجي (حصر التبغ والتنباك)؛
5- مستودعات ومخازن تابعة لمفتشية خطوط الاتصالات العسكرية.
ومما يسترعي الانتباه أننا نرى في مقدمة الصورة السياج المعدني الدائري المرتفع ذاته، الذي يحمل الرقم (4)، وكان جزءً من المقهى الصيفي (قمريه بالعثمانية)، الذي أنشأته رئاسة إدارة الريجي (حصر التبغ والتنباك)، على نحو ما يشير شرح الصورة باللغة التركية العثمانية.
وتطالعنا صورة قديمة أخرى ملتقطة من أمام ساعة باب الفرج باتجاه الغرب، وتبدو إلى يسارها واجهة مخفر باب الفرج، بينما يظهر في عمق الصورة المقهى الصيفي ذا الأشجار الكثيفة الذي أنشأته رئاسة إدارة الريجي (حصر التبغ والتنباك)، ويبدو خلف أسواره السياج المعدني الدائري المرتفع ذاته (الصورة 4).
والواقع إن المقهى الصيفي ذا الأشجار الكثيفة والسياج المعدني الدائري الذي يحتوي عليه كانا أسفل بل وملحقين بالمبنى الكائن غرب ساحة باب الفرج، والمطل على برج ساعتها الشهير عند نقطة التقاء الساحة بالشارعين المؤديين إلى جسر الناعورة (المتحف) وباب جنان، وكانا يشكلان الجزء الخارجي “الصيفي” من مقهى كان يعرف تاريخياً باسم “مقهى الريجي”، الذي كان الجزء الداخلي منه يشغل الطبقة الثانية من البناء ذاته أيضاً.
ومما هو جدير بالذكر أن الجزء الخارجي “الصيفي” من “مقهى الريجي” المقام أسفل هذا البناء المكون من طبقتين والكائن غرب ساحة باب الفرج عند نقطة التقاء الساحة بالشارعين المؤديين إلى جسر الناعورة (المتحف) وباب جنان، والمطل على ساعة باب الفرج ظل قائماً و يفتح أبوابه لاستقبال مرتاديه صيفاً وحسب (الصورة 5 و6)؛ وذلك حتى السبعينيات من القرن العشرين حينما جرت إقامة كتلة بناء حديث في مكانه مكون من طبقتين حجبتا- مع الأسف- الواجهة الجميلة للمبنى القديم التي تمتاز باحتوائها على قنطرتين معقودتين محمولتين على عمود، وعندئذ، تبدل اسم المقهى إلى “مقهى الساحل”، وهو الاسم الجديد الذي بات يُعرف به حالياً (الصورة 7).
كلمة أخيرة!
في ضوء استبعادنا أن يكون “حوض ماء عين التل” مقاماً غرب ساحة باب الفرج، ومكان ما يُعرف باسم “مقهى الريجي الصيفي” السابق له بما يزيد على عقد من الزمان، والذي أنشأته في مطالع القرن العشرين إدارة الريجي، وأُزيل في السبعينيات لتقوم مكانه كتلة بناء حديث يشغله “مقهى الساحل” حالياً، يبقى السؤال مطروحاً: أين كان “حوض ماء عين التل” مقاماً في ساحة باب الفرج؟ وهل ثمة صور تظهر “حوض ماء عين التل”، الذي أقامه أحمد جمال باشا في ساحة باب الفرج في صيف العام 1917؟