You dont have javascript enabled! Please enable it!
سلايدمقالات

حسن الشامي : شكيب أرسلان.. مثقف جبلي بين “العثمانية” والعروبة..

حسن الشامي – صحيفة الحياة العدد 13192 تاريخ 21 /4 / 1999

نجد في تعليلات شكيب أرسلان، الدائرة على النسب والجماعة الأصلية والأمة والدين، صدى لتقليد خطابي أرساه جمال الدين الأفعاني ومحمد عبده، وهو تقليد ينطوي على قدر كبير من النفاح ومن السجالية اللذين يبدوان بمثابة تعويض Compensation عن اللبس والتردد في معالجة مسائل شائكة. وقد تكون هذه الأمور من سمات الاضطراب الذي يشوب المعرفة والسلوك المثقف في مجتمعات انتقالية يزداد شعورها بأن مصائرها السياسية والتاريخية آخذة في الإفلات من يديها. ومع أن تكوين أرسلان الذهني، ومعرفته الجيدة للغة الفرنسية وبعض الألمانية والإنكليزية والتركية، كان يسمح له بتوسيع نطاق معارفه، فإنه بقي مشدوداً الى عبارات وتمثيلات المصلحين الإسلاميين في النصف الثاني من القرن الفائت. إلا أننا نلمس لديه، وبسبب مقاومته لسياسات الإنكليز والفرنسيين، نوعاً من الميل الى المثال الألماني germanophilie، المشفوع بتبرير التقارب والتحالف بين قادة “جمعية الاتحاد والترقي” وبين المانيا. وقد أدى موقفه هذا الى انقطاع الصلة بينه وبين عدد من اصدقائه الناقمين على سياسة “الاتحاديين” النازعة في صورة لجوجة الى المركزية والتتريك. فصداقته مع رشيد رضا التي بدأت منذ عام 1895 واستمرت اربعين عاماً، الى حين وفاة رشيد رضا عام 1935، انقطعت مدة تسع سنوات تقريباً، بسبب الموقف من الدولة العثمانية وتحالفها مع ألمانيا. وقد روى شكيب ارسلان وقائع الخلاف المذكور، وروايته تعكس الى حد بعيد مناخ الاتهامات والارتيابات “المشخصنة” في ما يتعلق بمصير الدولة العثمانية. فهو يخبرنا بانه جاء الى مصر عام 1912، ثم ذهب الى ادارة جريدة “المؤيد” “فوجدت فيها الشيخ علي يوسف صاحب الجريدة وعنده السيد رشيد رضا والسيد عبدالحميد الزهراوي وحنفي بك ناجي، فبينما نحن نتحدث اذ وردت برقية معناها ان ألمانيا خصصت ثلاثة مليارات لأجل النفقات الحربية، فقال الشيخ علي يوسف: انني أشم رائحة الحرب.

وخرجنا من هذا البحث الى قضية الجهة التي ينبغي ان تكون فيها الدولة العثمانية فيما اذا نشبت الحرب، فقلت انا: ان الدول التي غلبت على العالم الاسلامي وأخنت على استقلال اكثره هنّ الدول المعاديات لألمانيا. فقال الزهراوي: اذاً يجب ان نكون تحت حكم ألمانيا… فسادتني هذه الكلمة التي فيها تعريض بأني سائر على مشرب الإتحاديين الذين كانت سياستهم اتباع ألمانيا. فقلت له: بل يجب ان نكون تحت حكم انكلترا… اشارة الى ان ذلك الحزب من العرب جعلوا هذه قاعدة سياستهم. فوقع حينئذ الجدال ووصل الى ان الزهراوي عفا الله عنه قال: اين هي الدولة؟ فقد ذهبت. فقلت له: انها لم تذهب وأحد رجال انكلترا نفسها صرّح اخيراً بأن امامها مستقبلاً عظيماً، ولكنكم انتم لا تزالون ترجفون بها وتتفاءلون بسقوطها وتقولون هذا امام الاجانب والحال انكم تعلمون انه ليس لنا مئة دولة وأنها اذا سقطت لا نجد من يسد سدها. فقال الزهراوي: هبنا كتمنا هذا القول عن الأجانب أفلا يعرف هؤلاء الحقيقة؟ ثم اخذت الحدة السيد رشيداً رضا وكان رحمه الله سريع البادرة فقال لي: انت دائماً تقول اننا نرجف بالدولة وتفتري علينا. وأراد ان يكمل فرددت تلك الكلمة عليه …. وهذه هي اول مرة اختلفت فيها مع المترجم رشيد رضا”.

هذا المقطع ينقل في صورة نموذجية حالة التخبط التي كانت تعيشها النخبة العربية والمسلمة التي كانت تطمح الى دور سياسي منذ مطلع الحرب الاولى وفي اثنائها وبعدها. وقد بقي شكيب ارسلان ثابتاً على موقفه المناوئ للفرنسيين والإنكليز والقريب من الثلاثي طلعت وأنور وجمال الذي أمسك عملياً بزمام الدولة منذ عام 1909 حتى نهاية الحرب وفرار القادة السبعة لجمعية الاتحاد والترقي. وقد يكون الفصل الأكثر اثارة للجدل في حياة ارسلان هو الفصل المتعلق بطبيعة العلاقة القائمة بين شكيب وبين القائد العسكري احمد جمال باشا الذي حكم سورية منذ آخر عام 1914 الى آخر عام 1916 وأشاع فيها مناخاً من الارهاب والخوف والتسلط. ونحن نجد ان قسماً مهماً من كتاب ارسلان “سيرة ذاتية” مكرّس لتبديد وجوه اللبس وسوء الفهم حول حقيقة علاقته بجمال باشا. فنراه يعرض الشهادات والوقائع والأقاويل التي تؤكد اعتراضه على سياسة جمال باشا القائمة على البطش والقسوة، بما في ذلك إبعاده ونفيه لعدد لا بأس به من الوجهاء والأعيان وإقدامه على شنق عدد منهم، وسعيه الى عملية تبادل سكاني تقوم على نقل عائلات سورية بكاملها الى تركيا وإحلال عائلات تركية محلها. ويعتبر ارسلان ان جمال باشا كان الاكثر نزوعاً، من بين قادة الاتحاد والترقي، الى سياسة التتريك مع علمه بان ذلك يؤدي الى تفاقم المشاكل بين العرب والترك. ويسعنا ان نصدق ارسلان حين يقول بان توسطاته لدى جمال باشا وغيره لم يكتب لها دائماً النجاح، وبأن الوهم هو الذي يجعل الناس يظنون بأن كلمته كانت مسموعة لدى القادة الأتراك. ومن خلال رواية ارسلان تتكشف لنا بعض ملامح “السياسات” العثمانية في تلك الفترة، وهي تقوم على طراز جديد من الولاء والزبانة والمحاباة وما يقابلها من الحسد والغيرة والأنانيات الضيقة. فقد نجح ارسلان في ردع العسكر التركي عن جمع سلاح المسيحيين، كما نجح الى حد ما في انقاذ البطريرك الماروني الياس الحويك من المهانة عندما طلب جمال باشا قدوم البطريرك الى دمشق لتقديم الطاعة والولاء. ونجح كذلك في ارجاع بعض اعيان الجبل لدى صدور قرار بنفيهم الى القدس، ومن بينهم الشيخ خليل الخوري، والد الشيخ بشارة الذي اصبح في ما بعد رئيساً للجمهورية، فتدخل بدوره لدى السلطات الاوروبية كي يعود ارسلان من منفاه في سويسرا الى بلده عام 1946.

ويبدو ان ارسلان، على رغم تأييده الثابت والمبدئي للدولة العثمانية، وعلى رغم حملاته على النزعات العربية للإنفصال عن تركيا خصوصاً الأسرة الهاشمية في الحجاز، فاننا نراه متمسكاً بانتمائه العربي. فقد قرأ شكيب قصيدة عام 1916 امام وفد من اعيان الأتراك ارسلتهم الدولة لزيارة سورية “وتطييب خواطر العرب على اثر ما وقع من جمال باشا من القتل والنفي”. وتحدث ارسلان في قصيدته عن ارتباط العرب الترك بالرابطة الاسلامية، ولخص في بيتين ولاءه المزدوج للدولة العثمانية وللعروبة:

كفى الشهادة فيما بيننا نسباً / إن لم تكن جمعتنا وحدة النسب

مجدي بعثمان حامي ملّتي وأنا / لم أنس قحطان اصلي في الورى وأبي

وقد صفّق الجمهور تصفيقاً شديداً “عند ذكر قحطان وافتخاري بالإنتساب الى العروبة”، الأمر الذي اثار استياء جمال باشا الذي كان حاضراً.

وبقي ارسلان في الآستانة عامي 1917 و1918 شاغلاً منصبه في مجلس الأمة العثماني، لكنه ذهب الى ألمانيا في مطلع صيف عام 1917 بناء على طلب من أنور باشا، وفي ألمانيا التقى بالعديد من الموظفين الكبار في وزارة الخارجية كما زار بيت الشاعر غوته، ثم ألقى في ميونيخ محاضرة حول المجاعة في سورية ومسؤولية الحلفاء عنها. وبقي ارسلان في برلين الى اواخر عام 1918 ثم انتقل الى سويسرا حتى مطلع عام 1920، ثم عاد والتقى بأنور في برلين وذهب الى موسكو تلبية لطلب انور ومكث شهراً في موسكو: “وكان مرادي مشاهدة حالة الحمر بنفسي والفحص عما اذا كان يصح الاعتماد عليهم في المسائل التي نحن فيها ام لا؟ وعما اذا كان هناك من امل بأن تستفيد منهم البلاد الشرقية والأمم المستضعفة ام لا؟”. وفي اوائل تموز يوليو 1921 غادر ارسلان موسكو وودّع انور وكان هذا آخر لقاء بينهما.

في العشرينات اخذ ارسلان ينتقل من وضعية المثقف والسياسي العثماني الى داعية للوحدة العربية، وكان هذا الانتقال يحصل على ايقاع تعاظم النزعة العلمانية في تركيا الكمالية وإلغائها للخلافة الإسلامية، من جهة، والسعي الى دور ناشط في مصير المشرق العربي حيث تجددت صداقته مع رشيد رضا. فقد حضر المؤتمر السوري – الفلسطيني الذي انعقد في جنيف من 25 آب اغسطس الى 21 ايلول سبتمبر 1921 وانتخب سكرتيراً عاماً فيما انتخب ميشال لطف الله رئيساً ورشيد رضا نائباً للرئيس. كما تشكلت لجنة تنفيذية موقتة من عشرة اشخاص، وكان شكيب ارسلان من بينهم. وفي عام 1922 ذهب الى لندن للتباحث بشأن الإنتداب على سورية ولبنان وفلسطين. كما حضر مؤتمراً في جنوى في ايطاليا في السنة ذاتها. ثم اقام سنة ونصف السنة في مرسين تركيا بين عامي 1924 و1925 كي يتسنى لوالدته ان تزوره. وقد بادر عام 1923 الى الدعوة الى “حلف عربي” وأذاع بياناً للأمة العربية وزّع بآلاف النسخ وتضمن اقتراحات تشبه بنود ميثاق “جامعة الدول العربية” التي تأسست عام 1945. وكان المؤتمر السوري – الفلسطيني المنعقد عام 1922 في القاهرة قد انتدب ارسلان مع آخرين لمتابعة القضية السورية لدى عصبة الأمم في جنيف. وهذا ما فعله ارسلان، خصوصاً لدى استقراره عام 1925 في سويسرا وإلى عام 1946. بل جعل من جنيف ولوزان مركز نشاط دائم من اجل القضية العربية والتقى هناك بعدد من الزعماء والشخصيات كما نسج علاقات متينة مع حركات سياسية ناشطة في افريقيا الشمالية خصوصاً مع “جميع العلماء الجزائريين” و”نجمة شمال افريقيا” برئاسة معالي الحاج و”حزب الدستور” في تونس وكانت علاقته متينة بالحبيب بورقيبه.

من خلال نشاطه الحافل واتصالاته الواسعة والمتنوعة، وحرصه على المراسلة بحيث تعدّ رسائله بالآلاف، من خلال ذلك كان شكيب ارسلان يسعى الى تقديم مثال وقدوة “مشخصنين” للسلوك الوحدوي العروبي والإسلامي. وكان يغلب عليه الظن بأنه يكفي تثبيت المعايير الأخلاقية للوفاء والكرامة الذاتيين كي تتحصل الأمة على قوامها السياسي وعلى صورة عن وحدة عناصرها وتاريخها، وكان يعلم في الوقت ذاته ان السياسة مسرح للقوة والسيطرة والإستمالة والتغلب، فكان يرى لعبة الأمم ونزاعاتها على صورة السياسات “الأرستقراطية” المعهودة في اوساط الأعيان والأسر المدينية النافذة في العهد العثماني. وهذا الإلتباس، إن لم يكن مفارقة، هو ما جعل سيرة ارسلان السياسية مدار جدل وخصومات متجددة.

فقد اندلع نقاش حافل بالإتهامات المتبادلة عن صلة ارسلان بزعيم ايطاليا موسوليني. ففي عام 1934 قابل شكيب ارسلان ومعه احسان الجابري موسوليني، ويبدو ان الامير نجح في اقناع الدولة الايطالية بإعادة 80 الف عربي ليبي الى وطنهم في برقة وطرابلس الغرب مع اعادة اراضيهم اليهم. وقد برر ارسلان الامر بمقتضيات “السياسة العملية”، فكتب في مجلة “الفتح” عام 1934: “صرحنا بأننا من قديم الزمان اصحاب سياسة عملية، لا يهمنا الشهرة، ولا نقصد التهويش ليقال عنا اننا مخلصون، فالسياسة العربية العملية التي هي رائدنا قضت علينا بأن نتفاهم مع زعيم دولة عظمى كموسوليني له ما له من النفوذ في العالم … وأية دولة من الدول مدّت الينا يد المساعدة، او عاملتنا نحن العرب وعامة المسلمين بالإنصاف والمساواة، وكفت عما تسلكه نحونا من الشطط والاعتساف، فاننا حاضرون للتفاهم معها، والتجاوز عما سلف منها، لأن السياسة كلها هي عبارة عن تبادل المنافع بين الأمم. وقام خصوم ارسلان واتهموه سنة 1935، هو والمفتي محمد امين الحسيني، بأنهما متواطئان مع الايطاليين وبأنهما حصلا على اموال منهم، ونشرت صحيفة عربية في القدس نص رسالة زعمت ان الأمير شكيب كتبها الى المفتي، وثبت في ما بعد انها مزوّرة وملفّقة، وقد اشترك في وضعها البريطانيون والصهاينة وبعض خصوم المفتي من العرب في القدس.

نشاط ارسلان الحافل في منفاه السويسري، لم يكن يقتصر على مقابلة الوفود العربية القادمة للمطالبة بحقوقها لدى عصبة الأمم، وعلى مرافعاته وبياناته الكثيرة للدفاع عن استقلال سورية وهذه النصوص قدمها ارسلان عام 1937 الى وزارة الخارجية السورية فإذا هي تغطي نحو 28 مجلداً، فإلى ذلك كان ارسلان يكتب ويؤلف في ميادين عدة، وكان يكتب كثيراً جداً بحيث كان يمضي ثلاثة عشرة ساعة في اليوم في القراءة والكتابة. وقد اخبر صديقه هاشم الأتاسي بأنه في عام 1935، على سبيل المثال، كتب 1781 رسالة و176 مقالة صحفية و1100 صفحة لكتاب تم طبعه. مع هذا كان شكيب يسافر وكانت اسفاره تحمل في آن معاً معنى سياسياً وتاريخياً. فقد زار الولايات المتحدة عام 1927 وحضر المؤتمر السوري المنعقد في ديترويت. وفي تشرين الثاني نوفمبر من العام ذاته سافر الى موسكو تلبية لدعوة رسمية لحضور الاحتفالات بالذكرى العاشرة لثورة اوكتوبر. وحضر المؤتمر الاسلامي في القدس عام 1930. كما زار اسبانيا، خصوصاً الأندلس في صيف 1930، وزار تطوان في المغرب الأقصى. وشارك عام 1934 في وفد السلام من اجل حل النزاع بين المملكة العربية السعودية واليمن، وقد نجحت هذه الوساطة بعد أربعة اشهر من المحادثات والتوسطات لدى الطرفين، وزار البوسنة والهرسك مرات عدة بين عام 1926 وعام 1935. وإثر عقد المعاهدة الفرنسية – السورية عام 1936، سمحت له السلطات الفرنسية بالعودة الى لبنان فجاء في حزيران يونيو 1937 ولكنه عاد بعد بضعة اشهر الى جنيف بسبب الخلافات حول تطبيق المعاهدة. وفي آخر عام 1938 صدر مرسوم بتعيينه رئيساً للمجمع العلمي العربي في دمشق لكنه رفض احتلال منصبه الأكاديمي هذا لإعتبارات سياسية.

وكان ارسلان يواصل في الوقت ذاته اصدار مجلته الشهرية بالفرنسية La Nation Arabe في جنيف والتي استمرت من عام 1930 الى عام 1939 وكان هو يكتب معظم مقالاتها. لكن هذه الغزارة المدهشة في الكتابة والسفر والعمل السياسي لا يبدو انها كانت تنطوي على تحولات جوهرية في الطابع “العثماني” و”الجبلي” لسلوك المثقف والداعية السياسي شكيب ارسلان. فقد بقيت شخصية الأمير وتمثيلاته للأمة وثقافتها وتاريخها خليطاً انتقائياً من المرجعيات التقليدية ومن بعض وجوه التجديد. وليست مصادفة أن تأتي كتاباته التاريخية والثقافية في اعقاب رحلاته الى هذا المكان او ذاك. فنحن نعلم ان زيارته عام 1929 الى الحجاز للحج دفعته الى كتابة “الارتسامات اللطاف” وتنقلاته في سويسرا وفرنسا وإيطاليا دفعته الى كتابة “غزوات العرب” ورحلته الى إسبانيا دفعته الى كتابة “الحلل السندسية” إلخ. ذلك ان التاريخ، شأنه شأن وحدة الأمة وسير الرجال، يقوم، لدى ارسلان، على التذكر والتنبّه وتخليد الأثر لتثبيته وقفاً يسهل توارثه. وهذا التاريخ الذي يكتشفه ويحققه ارسلان بمقدار ما يحلم به ويتشوق اليه، مصنوع كله تقريباً من المآثر والبطولات والأعمال العظيمة. انه تاريخ أمراء وفاتحين. ولا يبقى على الأمة سوى ان تتذكر وتتوارث هذه الأمجاد كي تعثر على أصالتها وعلى وحدة أصلها. يتمثل ارسلان التاريخ في صورة الذاكرة التي لا يسعها ان تكون إلا إنتقائية وماضوية بعض الشيء. وعلى هذا النحو كان “أمير البيان” يتصوّر الأمة العربية والإسلامية على حدّ سواء، مدعوة إلى الإنصهار والوحدة عند نقطة الذروة فيما عادة حياتها وحاضرها التاريخي متروكة لمنطق العصبيات التي ما ان تتطاحن وتتصارع بحيث لا يجد الداعية العثماني مخرجاً سوى المزيد من التذكر والإنتقاء. ولقد أوصى شكيب ارسلان قبل وفاته بعدم نسيان فلسطين قبل ولادة الدولة العبرية بسنتين مدركاً على طريقة الرائي المعهودة لديه بأن موضوع فلسطين بات مركزياً في مشروع الوحدة العربية. لكن هذه الوحدة التي تتجلى فيها صورة الأمة ليست شيئاً يبنى على تعهد الإنقسامات والتباينات وإخضاعها لقواعد ومبادئ مشتركة، بل هي شيء قائم في كينونة أوهنها التاريخ وطمسها ويكفي إيقاظها كي تتحقق.

وهذه اليقظة كانت تستدعي، في عرف أرسلان، بذل الأموال والأنفس والتمسك بالفضائل والأخلاق العالية، بحسب ما رأى في كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”. وشغف الأمير بكتابة الحواشي والتعليقات وتحقيق نصوص قديمة ونشرها، محمول هو أيضاً على التنبّه والتذكر مع السعي الى تنميط وأسلبة الذاكرة في منظار كلاسيكي.

يبقى ان الفكرة القومية، الإسلامية والعربية، على ترادف معناهما تقريباً لدى شكيب ارسلان، والتي استحوذت على الأساسي من نشاطه كأديب وشاعر وصحافي ومؤرخ وأمير وداعية وسياسي ومترجم، هذه الفكرة كانت وبقيت مشدودة الى مذهب إنسانوي يذكّرنا في بعض وجوهه بإنسانوية أمراء البلاط في العهود الذهبية للخلافة الإسلامية. وقد ذكر ارسلان في مقالة له صدرت عام 1929 بأن أحد الإخوان أخبره بأنه تحادث مع لورنس، وظهر من المحادثة ان لورنس يعرف الكثير عن ارسلان وأنه “لم يقل إلا خيراً”، ولكنه لاحظ ان سياستي “دينية” بزعمه. فجاوبت الذي كتب لي هذه الجملة: قل للكولونيل لورانس ان سياستي في الحقيقة مبنية على الإنسانية لا غير، وعندي أن الإنسانية هي رأس السياسة، وأن الذي يأخذ بسياستها لا يعثر، وأنه، إذا عثر مرة، تسددت خطواته مراراً، وإذا وافقت الإنسانية الدين فالدين، وإذا وافقت الدنيا فالدنيا، هذا هو مشربي الحقيقي. وإنما يراني الناس مؤيداً للدين لأني ارى الدين ركناً للإنسانية، ولست اعتقد مجيء الأديان إلا خدمة للإنسانية وتقديساً لها، وإلاّ فإن الله غني عن العالمين”.

هذا المذهب الإنسانوي، في نسخته القومية العربية – الإسلامية هو ما دفع ارسلان الى شن حملته على “الظهير البربري” في المغرب الأقصى عندما حاول الفرنسيون في الثلاثينات وضع تشريعات خاصة بالبربر لفصلهم عن العرب المسلمين، فكتب ارسلان مئات الرئاسل، حول هذه القضية وغيرها، الى زعماء المغرب هلال الفاسي وعبدالسلام بنونة والملك محمد الخامس. لكنه في ما يتعلق بالغذاء كان إنسانوياً في المعنى الثقافي العريض للكلمة. فقد روت زوجته بأنه لم يكن يهمه الأكل، “فما يقدّم إليه يأكل منه، وإن كان يحب ألواناً خاصة كالشكشوكة، والكسكس، والكبسة، وكانت خادمته “خضرة” تصنعها له في جنيف. وكان يحب الحلوى والفاكهة والرائحة الطيبة، ولا يتعاطى المخدرات ولا المسكرات، ولا يدخّن، ولكنه يشرب القهوة المرّة التي تصنع مع حب الهال”.



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى