مقالات
عمرو الملاّح : أحمد جمال باشا وإعداماته لنخبة من المفكرين العرب.. القصة التي لم ترو بعد
عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
“أنا لا أعتقد أن أحداً دفع أحمد جمال باشا إلى قتل أو نفي أحد، حتى إن رفقاءه في الآستانة لم يدفعوه إلى ذلك، وهذا أمر تحققته قبل نهاية الحرب، وبعد نهاية الحرب.. فأمّا من أهل سورية فلست أنسب إلى أحد حتى ولا للشيخ الشقيري أنه هو السبب في خطة جمال باشا هذه.. ولكن الشقيري كان يحاول تغطية أعمال جمال وابتغاء العذر عنه، لتكون له خدمة عنده”.
تلكم كانت مقتطفات من الرسالة التي وجهها الأمير شكيب أرسلان النائب في مجلس المبعوثان العثماني إبان الحرب العالمية الأولى والعارف بخفايا السياسة العثمانية إلى فخامة الرئيس السوري الشيخ تاج الدين أفندي الحسني من مرسين والمؤرخة في 13 حزيران/ يونيو من العام 1924، ويحمل فيها المسؤولية عن إعدام نخبة من المفكرين العرب في عامي 1915 و 1916 بدمشق وبيروت لأحمد جمال باشا الملقب في الحوليات التاريخية السورية بـ”السفاح”.
وفي ضوء نص الرسالة هذه التي تعد وثيقة تاريخية بالغة الأهمية يتبين لنا أن إعدام نخبة من المفكرين العرب في عام 1915 و1916 إنما كان بتدبير من أحمد جمال باشا وحده دون سواه متوسلاً بالصلاحيات شبه المطلقة الممنوحة له بحكم إشغاله مناصب ناظر (وزير) البحرية العثمانية، وقائد الجيش الرابع العثماني، والحاكم العسكري على ولايات بلاد الشام (سورية-دمشق، وحلب، وبيروت) ومتصرفيتيها (القدس ودير الزور) مجتمعة، وكذلك بموجب حالة الطوارئ والأحكام العرفية المعلنة في البلاد بسبب الحرب العالمية الأولى التي كانت دائرة آنذاك.
والثابت تاريخياً أن قرارات الإعدام تلك التي أصدرها “ديوان الحرب العرفي” في عاليه، وكان بمثابة محكمة عسكرية استثنائية، لم تقترن بالإرادة السنية، أي أنها لم تخضع لمصادقة السلطان العثماني محمد الخامس رشاد في العاصمة استانبول، وهو ما يؤكده المفكر القومي العربي عزة دروزة الذي كتب قائلاً: “لقد أخبرني المرحوم أمين التميمي إنه كان قد عُين في سنة 1917 مفتشاً على بعض المناطق التي جرت فيها حوادث الأمن. وأخذ يتردد على دوائر الباب العالي للاطلاع على بعض الأمور والملفات. وبينما هو في سبيل ذلك همس له مدير الأرشيف قائلاً: “لعل الأفضل لك أن تقرأ هذا الملف”. وكان ملف قضية أحرار العرب. وأنه قرأ في هذا الملف برقيتين متبادلتين بين أنور وجمال، حيث كتب الأول للثاني بما ترجمته “أن خليل بك، وكان هذا وزيراً للعدلية في الحكومة العثمانية، مستاء ويقول إن جمال شنق رجال العرب بدون أن يقترن ذلك بالإرادة السنية”. وحيث أجاب جمال بما ترجمته “إنك تعرف كم أن خليل بك (مزمزا)”، والكلمة تعني متحذلق، متعب، متعنت، “أمّا الإرادة السنية ففي إمكانكم استصدارها في أربع وعشرين ساعة. وهذا يبين أن جمال باشا نفذ الحكم بإرادته.”
ويبين العلامة القانوني الجليل الأستاذ أسعد الكوراني- المعاصر لتلك الأحداث- في مذكراته الذرائع القانونية التي ساقها جمال باشا تبريراً لتعجيله تنفيذ أحكام الإعدام من دون إقرارها من المرجع الأعلى في العاصمة استانبول بقوله: “لا شبهة في أن جمال باشا أخطأ أشد الخطأ في سياسة الإرهاب التي اتبعها في سورية ولبنان وفلسطين، وكان الخطأ بمنتهى الشدة في تنفيذ أحكام الإعدام من دون إقرارها من المرجع الأعلى في الآستانة كما يقضي القانون. ولما تلقى الأمر بإرسال أوراق الدعاوى إلى ذاك المرجع عمد إلى استغلال قانون يبرر لقائد الجبهة تصديق وتنفيذ حكم الإعدام على فاعل جرم ارتكبه في ساحة الحرب لضرورة حماية سيرها من دون انتظار التصديق من المرجع الأعلى البعيد الذي يتطلب وقتأ طويلأ بطبيعة الحال.”
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن أحمد جمال باشا ومنذ تعيينه في بلاد الشام أواخر العام 1914 راح يجري عبر وسطاء من الأرمن اتصالات سرية مع دول الحلفاء الذين كانوا في حالة حرب مع السلطنة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، وهي مرحلة كانت ترسم فيها الخرائط لاقتسام تركة السلطنة العثمانية، التي كانت على وشك التفكك والانهيار.
ولم تقتصر اتصالات جمال باشا على الروس فحسب، وإنما شملت أيضاً كلاً من الفرنسيين والبريطانيين؛ وذلك بهدف إقناعهم بالموافقة على إعلانه الاستقلال عن الدولة العثمانية وتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً على بلاد الشام بأكملها، مقابل أن يرضى جمال باشا بأن تترك المضائق واستانبول للحلفاء، ويتعهد أن يترك الطريق حرة لمساعدة الأرمن.
والواقع إن وضع مساعي جمال باشا للاتفاق مع الحلفاء في سياقها التاريخي هو ما يفسر السياسة التي انتهجها إزاء “المسألة الأرمنية”، وما تسمت به من المرونة في محاولة منه للحصول على موافقة الحلفاء على تحقيق أهدافه، على نحو ما ذهب إليه المؤرخ الفرنسي الأرمني ريمون هـ. كيفوركيان، وهو موضوع كنا قد تناولناه في مقالة سابقة؛ بينما نجد أن السياسة التي انتهجها جمال باشا تجاه “المسألة العربية” اتسمت بطابع أكثر تشدداً وعنفاً.
ولعلنا نشير هنا إلى أن تنفيذ جمال باشا لما سمي بـ “حملة ترعة السويس” في العام 1915 والتي منيت فيها القوات العثمانية بهزيمة مدوية إنما يندرج في سياق محاولته التغطية على اتصالاته السرية تلك.
ولئن دأبت الرواية الرسمية للتاريخ السوري على تصوير أن الإعدامات التي نفذها أحمد جمال باشا (السفاح) كانت تندرج في سياق الصراع العربي- التركي/ العثماني أو النزعة القومية العربية مقابل النزعة الطورانية التركية، الذي كان السمة الغالبة على التاريخ العثماني المتأخر بعد الإطاحة بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني بالعصيان ثم الانقلاب العسكري على مرحلتين في عامي 1908 و1909، وطبعها بطابعه حينما تسلط على الدولة ومقدراتها “ثالوث الباشوات الأتراك” (طلعت وجمال وأنور) ممن كانت لهم الهيمنة على “جمعية الاتحاد والترقي”، التي باتت بمثابة الحزب الحاكم في الدولة من وراء ستار أو ما يعرف بـ “نظام الازدواجية”، فراحوا ينتهجون سياسة “التتريك”، التي سببت نفور المكون العربي في الدولة، وكانت من الأسباب التي عجلت بانهيار الدولة العثمانية.
إلا أن حقيقة أمر هذه الإعدامات أنها أتت في سياق إبعاد أحمد جمال باشا لهؤلاء المفكرين العرب من مختلف مدن سوريا ولبنان عن المشهد السياسي تحت ذريعة اتصالهم ببعض العواصم الأوروبية ومن بينها باريس ولندن في الفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، واتهامه لهم باستمرار تخابرهم معها حتى بعد إعلان الدولة العثمانية حالة الحرب عليها سعياً للانفصال عن الدولة العثمانية؛ وذلك للحيلولة دون وقوفهم عقبة كأداء أمام تحقيق طموحاته في حكم بلاد الشام.
غير أنه سرعان ما تلاشت آمال جمال باشا العريضة تلك بعدما جاءه الرفض الفرنسي، لأن فرنسا كانت ترى نفسها صاحبة الكلمة في مستقبل سورية، التي لا يمكن لأحد من أتباع العثمانيين أن يتحكم بمصيرها على نحو ما يذكر المؤرخ العراقي الدكتور فاضل بيات نقلاُ عن مذكرات سليمان شفيق باشا وزير الحربية العثماني في العام 1919. بينما اتسم الموقف البريطاني إزاء مخططات جمال باشا بالتحفظ، نظراً لانهماك البريطانيين في مفاوضات أكثر أهمية كانوا يجرونها آنذاك مع الشريف حسين، وإبرام الطرفين اتفاقاً للتعاون المتبادل في مقابل الدعم البريطاني “للمطالب العربية”.
وهكذا نرى أن مسألة إعدام نخبة من المفكرين العرب على يد أحمد جمال باشا لم تأت ضمن سياق الصراع التركي – العربي ولا النزعة القومية العربية مقابل النزعة الطورانية التركية، وإنما كانت القضية برمتها محض سياسية وتتصل بالحلم الذي كان يراود أحمد جمال باشا بتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً، ولهاثه وراء سراب كان يرسمه الغرب.
ولن يطول بجمال باشا المقام في سوريا، إذ سيجري التعجيل بإبعاده عنها والقضاء على حلمه بتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً عليها بعد عزله من مناصبه كافة وتجريده من جميع صلاحياته الاستثنائية والاكتفاء بتسميته عضواً في هيئة الإدارة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي؛ وذلك على خلفية افتضاح أمر مخططاته واتصالاته السرية بعد الثورة البلشفية في أواخر العام 1917 وتسرب الوثائق والمراسلات التي تدينه إلى القابضين على السلطة الفعلية في العاصمة اسطنبول ممثلين بقرينيه المنافسين له الباشوان أنور وطلعت.
مراجع
– أسعد الكوراني، ذكريات وخواطر مما رأيت وسمعت وفعلت، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2000؛
– أمين سعيد. الثورة العربية الكبرى: تاريخ مفصل وجامع للقضية العربية في ربع قرن. المجلد الأول. مكتبة مدبولي. القاهرة، لا تا؛
– د. فاضل بيات، “جمال باشا السفاح وهوس الاعتلاء على عرش سوريا”، جريدة السفير” (بيروت)، تا 02/10/2001؛
– مجلة “الأسبوع العربي” اللبنانية، ع 624، تا أيار 1971، عدد خاص حول قضية إعدام أحرار العرب؛
– Raymond Kévorkian. The Armenian Genocide: A Complete History. London and New York: I.B. Taurus, 2011.
اقرأ :