عام
عمرو الملاّح : الفهم الصحيح للانتداب بوصفه مساعدة فنية اقتصادية .. الجنرال بيوت أنموذجاً
عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
“إن حاكمية الدولة أودعت لعهدتكم، وإني آمل أننا بالاتفاق والمودة لا بل بالمحبة الدائمة نجتهد لما فيه صالح الأهالي والحكومة.
وبعد الأمن أرى أن أهم شيء الزراعة. إن محيط حلب زراعي. ولقد دهشت جداً لما علمت أن “المجلس التمثيلي” [يقصد به المجلس النيابي لدولة حلب] لم يوافق على ما طلبناه من أجل تحسين الحالة الزراعية في هذه البلاد. وقد أظهر اقتصاداً في مثل هذه المصاريف المفيدة. غير أننا سنسعى بفضل خبرتكم واهتمامكم لإصلاح الحالة لأنكم على ما أعلم لديكم قرى ومزارع؛ فيهمكم أمر الزراعة باعتبار العموم والخصوص.
أما ونحن الآن في مبادئ سنة 1924 فقد توفقت المالية في بحر هذه السنة- عدا عن تسديد العجز- لتوفير سبعة ملايين، وهذا لم يحصل إلا باجتهاد أصولي جعل اعتبار الدولة المالي بدرجة جيدة. كذلك إن دوائر الأشغال العامة قد أنجزت أشغالاً مفيدة، وهي ساعية لإتمام المشاريع المقررة.
وفي الختام، أتمنى لحضرتكم نجاحاً وموفقية، ولهذه البلاد رفاهاً وسعادة.”
تلكم هي مقتطفات من الكلمة التي ألقاها الجنرال غاستون بيوت مندوب المفوض السامي بحلب أثناء حفل استلام رجل الدولة مرعي باشا الملاح (1853-1930) مقاليد حاكمية دولة حلب في مطالع العام 1924 (قارن مع حلب، الجريدة الرسمية، س 6، ع 323، تا 31 يناير/ كانون الثاني 1924، ص 2).
كان الجنرال غاستون بيوت (1875-1940) من خيرة رجالات الانتداب الفرنسي الذي عملوا في سوريا. ومما امتاز به مرونته ومقدرته على معالجة الأمور بحنكة وروية، وانتهاجه سياسة رشيدة تتسق مع الفهم” الصحيح” للانتداب باعتباره مساعدة فنية تنموية سيطبقها بيوت عبر شراكته مع مرعي باشا الملاح حاكم دولة حلب العام، واللذين ربطت بينهما صداقة نادرة (قارن مع محمد جمال باروت، “التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية: أسئلة وإشكاليات التحوّل من البدونة إلى العمران الحضري”، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، ص 157-159، 375).
وكان الوطنيون من ذوي النزعة الراديكالية يرون أن الجنرال بيوت من العسكريين الفرنسيين المعتدلين في سياستهم، وذلكم هو تقويم زعيم ثورة الشمال إبراهيم هنانو له (قارن منير الريس، ثورة فلسطين عام 1936، دمشق: مطابع ألف باء، 1976، ص188).
وقد عد تجار حلب الجنرال بيوت حتى بعد عودته إلى فرنسا أنموذجًا للمندوب الفرنسي الذي يخدم المدينة.
وما انفكوا بعد مغادرته منصبه بحلب عن الإشادة به؛ فوصفوه بـ”صديق الحلبيين الحميم لماله من التنظيم العظيم، والإرشاد الثمين مع جهوده المبذولة لتوسيع نطاق تجارتنا، وإجابة شكاوينا، وتمنياتنا؛ فقد عرف لأول وهلة ما للتجارة والزراعة من الأهمية لسعادة البلاد، وازدياد ثروتها” (قارن مع خطاب رئيس غرفة تجارة حلب في 8 تشرين الأول 1926، في حفل استقبال الوزير المفوض ريفي الوكيل المعتمد عن دو جوفينيل، مجموعة غرفة التجارة بحلب، س8، 1926، ص36).
والواقع إن الوضع المالي المتعثر لدولة حلب، الخارجة لتوها من سنوات الحرب العالمية الأولى العجاف التي أهلكت الزرع والضرع، لم يجر تقويمه وتصويبه إلا بعد تسلم الجنرال بيوت منصب مندوب المفوض السامي لدى دولة حلب ابتداء من تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1922، حينئذ، شرعت حكومة دولة حلب بإشرافه في انتهاج سياسة مالية “رشيدة” قامت على ضغط النفقات الإدارية، وإلغاء المديريات العامة، وتقليص حجم الموظفين، وتخصيص قسم كبير من الفائض المالي الذي حققته الميزانية العامة للدولة والذي بلغ ذروته في العام 1924، بعدما كانت تعاني من العجز، لتمويل الكثير من المشروعات العمرانية والتنموية التي شهدتها حلب إبان عهد الانتداب.
ويظهر جدول يوضح الميزانيات العامة لدى دولة حلب للأعوام 1920 و1921 و1922 أنها كانت واقعة في عجز مالي كبير بلغ مجموعه 263955 ليرة سورية، في حين بلغ مجموع الأموال المخصصة للأشغال العامة طوال الأعوام تلك 92212 ليرة سورية، فضلاً عن اضطراب الأوضاع الأمنية إبان ثورة الشمال، وكلها عوامل حالت دون تنفيذ أي من الأعمال العمرانية والتنموية الجديرة بالذكر في أنحاء دولة حلب كافة.
بهذا الصدد، لا يملك الباحث إلا أن يلحظ أن العجز في الميزانية العامة للدولة لم تبدأ حكومة حلب بتلافيه إلا في العام 1923. ولكن في حين بلغ حجم المبالغ المخصصة للأعمال العمرانية والتنموية في العام 1923 مبلغ 106044 ليرة سورية، نجد أن المبالغ ذاتها قد تضاعفت ثلاث مرات في العام 1924؛ فبلغت 323064 ليرة سورية.
ويشير الجنرال بيوت في الكلمة التي ألقاها في حفل تأبين جان بك مراد مدير مالية دولة حلب إلى مسألة تخصيص قسم كبير من الفائض المالي الذي حققته الميزانية العامة للدولة في العام 1924، بعدما كانت تعاني من العجز، لتمويل معظم المشروعات العمرانية والتنموية التي شهدتها حلب إبان عهد الانتداب، منوهاً بالجهود التي بذلها مراد في تحقيق فائض في ميزانية دولة حلب للعام 1924 بلغ اثني عشر مليون فرنكاً فرنسياً.
ومما قاله الجنرال بيوت بهذا الصدد: “وبفضل هذه المبالغ المقتصدة.. تمكنت حكومة حلب أن تقوم بكثير من الأشغال العامة.. وأن توسع نطاق تجهيزاتها الاقتصادية، وأن تؤسس مستقبلها التجاري”. (قارن مع “جان بك مراد: حياته وأعماله”، حلب، 1927، ص 6).
وكان في مقدمة المشروعات التنموية تلك تدشين طرق دولية معبدة بالاسفلت تربط حلب بكل من دمشق واللاذقية والاسكندرونة التي هي مرفأ حلب الحيوي بالنسبة إلى تجارتها الخارجية، وبناء عدد من المنشآت الصحية (مستوصف مرعي باشا الملاح، ومشفى الرازي، ومشفى دير الزور الأمريكي)، والمدارس (الكلية العلمانية – اللاييك، وتجهيز دير الزور، وكلية حلب الأمريكية)، وشق طرق جديدة، وإقامة الرئات الندية التي كان يتنفس منها أهل الشهباء (حديقة مرعي باشا الملاح، وحديقة الجنرال بيوت)، والتوسع العمراني، وبناء مسلخ حديث، ومستودعات للمواد النفطية والمشتعلة، والشروع في تمديد خطوط الترامواي والكهرباء، وتشييد أبنية فخمة كقصر الناعورة (المتحف القديم) الذي كان من المقرر اتخاذه مقراً لأول كلية للهندسة بحلب، ومبنى قيادة موقع حلب بالجميلية، ومنها أيضاً إحداث الدائرة البيطرية، ومصلحة الغرسيات التي أُوكلت إليها مهمة صيانة الحدائق العامة وغرس الأشجار، وبناء المدارس والمستوصفات ودور الحكومة والجسور في الكثير من المدن والأقضية والنواحي التابعة لدولة حلب، وتحضير العشائر، وتشجيع زراعة القطن، وجر المياه إلى إدلب. كما جرى تنفيذ مشروعات كثيرة أخرى يطول حصرها.
وقد جرى إنجاز كل المشروعات الحيوية تلك في فترة قياسية لم تتجاوز عاماً واحد، ودشنت في نهاية العام 1924 قبيل مغادرة الجنرال بيوت عمله بحلب وعودته إلى باريس. مع الإشارة هنا إلى اشتراك الفرقة الثانية من الجيش الفرنسي للشرق في تنفيذ أعمال البناء، مما ساهم في توفير أجور العمال، وساعد على سرعة إنجازها وبمواصفات فنية عالية أفادت مما يتوافر عليه الجيش الفرنسي من إمكانات ضخمة ومعرفة تقنية وتجهيزات ومعدات وآلات (قارن مع صحيفة “الترقي السوري”، حلب، ع 101 (15/11/1924)، وفيها ثبت بالمشاريع العمرانية المنفذة إبان توليه حاكمية دولة حلب).
ولقد أعيد بيوت إلى حلب في نيسان/ أبريل من العام 1926 معيناً المندوب فوق العادة والقائد العام للمنطقة الشمالية؛ وذلك لفترة قصيرة بهدف معالجة تداعيات الأزمة التي شهدتها حلب على أثر مقاطعة الانتخابات التي دعا إليها المفوض السامي الكونت دو جوفنيل، واعتقال الزعماء الوطنيين الداعين للمقاطعة ومن بينهم النجل الأكبر لوالي حلب الملاح عبدالقادر ناصح بك الملاح، ووقوع مصادمات دامية مع القوات الفرنسية، واستقالة مرعي باشا الملاح من الولاية احتجاجاً على ذلك، وبقاء حلب بدون وال محلي بالأصالة، وإخفاق معاون مندوب المفوض السامي بحلب المسيو ريكلو في إدارة تلك الأزمة (قارن مع “الجنرال بيوت”، حلب، الجريدة الرسمية، س8، ع432، 19 نيسان/ أبريل 1926، ص2).
وتقديراً لما قدمه لحلب وأهلها أطلقت حكومة حلب اسم الجنرال بيوت على الحديقة العامة المقامة ببرية المسلخ بعدما جرى تنظيمها. كما أقامت نصباً تذكارياً مبنياً بالحجارة بشكل مسلة أمام مدخل مبنى قصر الناعورة؛ وذلك إحياء لذكراه.
وما زالت حديقة الجنرال بيوت قائمة إلى يومنا هذا مع إزالة الاسم الفرنسي الذي استبدل باسم حديقة جب القبة، بينما أزيلت المسلة المقامة إحياء لذكرى الجنرال بيوت أمام مبنى قصر الناعورة (المتحف القديم) قبل إزالة المبنى ذاته لاحقاً.
وهكذا، وكما أزيل اسم الجنرال بيوت عن المشيدات العمرانية التي تُذكر به سيزال اسم صديقه وشريكه في الحكم مرعي باشا الملاح عن كل من مستوصفه الخيري بحي جب القبة وحديقته العامة الكائنة بالعزيزية مع ما أزيل من نصب ولوحات تذكارية تحمل اسميهما معاً على أيدي القائمين على بلدية حلب في بدايات دولة الاستقلال الثاني أو ما اصطلح على تسميته “العهد الوطني” باعتبارها تذكر بحقبة “المستعمر” الفرنسي وبعض رموز مدينة حلب وقاماتها الوطنية المتهمة زوراً بالعمالة للمستعمر الفرنسي، بينما جرى بالمقابل تضخيم منجزات هؤلاء، وإطلاق أسمائهم على غير معلم من معالم المدينة وشوارعها وساحاتها العامة، وهو فصل محزن من تاريخ بلادنا القريب كان يستسهل فيه القابضون على السلطة منح صكوك الوطنية إلى أنفسهم وأنصارهم ومحازبيهم ومنعها عن سواهم ممن كانوا لا يشاطرونهم رؤاهم ونزعاتهم وتوجهاتهم ولديهم مآخذهم عليها بل وطمس منجزاتهم وإخماد ذكرهم، مما لا يتسع المجال للخوض فيه أكثر من ذلك.
ولا يسعنا – ختاماً- إلا أن نستشهد بقول ساطع الحصري في إحدى محاضراته أنه لم يبقى من دولة حلب بعد انتهائها سنة 1925 سوى “علم محفوظ في متحف وبضع ألواح رخامية حفر عليها اسم مرعي باشا رئيس دولة حلب”.