مقالات
أحمد رمزي: هاشم الأتاسي في عام 1939 وعام 1943 (1)
هاشم الأتاسي في عام 1939 وعام 1943 (1)
بقلم الأستاذ أحمد رمزي بك
القنصل العام السابق لمصر بفلسطين وشرق الأردن بين 1935 و1937م
نشر سلسلة مقالات في مجلة الرسالة الصادرة في القاهرة بعنوان: (صحائف مطوية في السياسة العربية)، في بعض تلك المقالات تناول فيها موضوعات سورية، مثل مقالة الذي نشر في تشرين الأول بعنوان: (هاشم الأتاسي في عام 1939 وعام 1943).
نص المقال:
إن الإنقلاب الذي قام به المندوب السامي الفرنسي المسيو جبريل بيو عند تعيينه مندوباً سامياً لفرنسا في أوائل سنة 1939 كان يرمي إلى إيقاف العمل بالمعاهدتين اللتين عقدتهما بلاده والعودة إلى النظام السابق.
وترتب على هذا إبطال الدستور في سوريا ولبنان والعودة إلى تأكيد الاستقلال الذاتي أو الإداري الذي كان يتمتع به كل من جبل الدروز وإقليم العلويين.
وبتت فرنسا الأسباب المبررة لاتخاذ هذه الخطوة على تطرق الفساد إلى الأنظمة البرلمانية القائمة وتدهور الحكم الوطني في كل من البلدين وما سببه من انتشار الرشوة والتغاضى عن تنفيذ العدالة، والأسراف في إنفاق الأموال العامة وإضاعتها على الأقارب والمحاسيب، ثم فيما أصاب الأقليات من ظلم واضطهاد جعل رجالها يستصرخون بممثلي فرنسا ويطلبون إغاثتهم مما هم فيه. وكانت هذه الحملات المغرضة موجهة بالذات إلى سوريا وإن كان أصاب لبنان رذاذ منها بحكم اشتراكه مع جارته في إمضاء معاهدة تشبه أو تقارب المعاهدة التي أمضتها فرنسا مع سوريا. ولقد قام الحكم الوطني في سوريا على أساس دستوري سليم وخيل إلى القائمين بالأمر أنه يكفى إضماء المعاهدة ثم التصديق عليها لكف اليد الفرنسية عن التدخل في أمرهم والسيطرة على الشؤون الداخلية التي أصبحت من اختصاص الحكومة السورية، وحدها ولا شأن لفرنسا فيها بعد أن سلمت السلطات إلى الرجال الذين جاءوا إلى الحكم بمقتضى قواعد الدستور الذي وضعته فرنسا أو وافقت عليه، ولم يتبادر إلى ذهن الوطنيين خطر الرجوع في هذه الاتفاقات بعد إمضائها إذ كانوا على يقين من أن أغلبية الشعب السوري تؤازرهم وإن البلاد تؤيد بإجماع الاستقلال التام وتأكيد الحياة الدستورية.
وكان جيش الدولة المنتدبة يحتل البلاد وتخضع قوات الأمن العام وغيرها من القوات المسلحة لضباط من الفرنسيين، وكان أعظم ما تظهر قوة العسكريين في الأماكن المتطرفة على الحدود أو في المقاطعات التي تتمتع بإدارة ذاتية، وكان ضباط الارتباط الفرنسيون يمثلون قوة الدولة المنتدبة الحاكمة. ولما كان أغلبهم تأتي به فرنسا من المناطق الخاصة للحكم العرفي من مستعمراتها في شمال أفريقيا فقد جاءوا ومعهم عقلية وأساليب فرنسا في مستعمراتها، فتمادى بعضهم في الاستهانة بممثلى الحكم الوطني وظن أن من اختصاصه إقامة العدالة – كما يفهمها – وإيقاف تنفيذ الأحكام وإعفاء المحظوظين من دفع الضرائب.
وهكذا برهنت الحوادث على تعذر قيام السلطتين معاً وأن هذه الحالة لابد أن تؤول إلى تغلب السلطة الأجنبية المنتدبة التي يدعمها جيش الاحتلال. فهل تعجلت الحكومة الوطنية في تعيين ممثليها في أماكن بعيدة اعتادت تجاهل وجود حكومة دمشق منذ قيام الانتداب؟
وهل أحسنت صنعاً في تسلم السلطات المباشرة في المقاطعات التي كانت تتمتع باستقلالها؟ هذه أسئلة من الصعب الإجابة عنها، ولكن الذي ظهر من أثر هذه السياسة أن رجال الحكومة المركزية تعرضوا للاهانات في بعض الجهات خصوصاً بعد حادث اختطاف محافظ الجزيرة الوطني في داخل حدود المقاطعة التي جاء ليحكمها وصعب على الحكومة الوطنية حمايتهم.
وهكذا ضج السوريون جمعياً من تدخل سلطات الانتداب ومن سكوتها على هذه الأعمال ومن تشجيع بعض ممثليها واشتراكهم في تدبيرها، وألقيت في البرلمان خطب حماسية شديدة اللهجة، ولكن صداها لم يتعمد الأماكن التي ألقيت فيها، وكتبت مقالات قوية الحجة ولكن أثرها لم يتعمد أعمدة الجرائد التي نشرتها.
وفي وسط هذه الظروف القائمة والهجمات المتتالية وجد رئيس الجمهورية هاشم بك الأتاسي بين قوتين لاقبل له بأن يوفق بينهما.
ولما كانت آمال الشعب السوري وحرياته أمانة في عنقه وكان يعتقد أن التساهل مع الفرنسيين ولو مرة واحدة سيؤدي إلى سلسلة لا نهاية لها من التفريط في حقوق الوطن، فضل الاحتفاظ بكرامة البلاد واستقلالها كاملين وبادر بتقديم استقالته إلى مجلس النواب الممثل للأمة السورية. وسجل في هذه الاستقالة احتجاجه على فرنسا التي بعد أن قبلت التعاون مع سوريا عادت إلى أساليبها القديمة ورجعت تطبق تجارب جديدة تناقض الانفاقات التي وقعها ممثلوها وتعهدوا بتنفيذها.
وهكذا جاء عمله هذا دليلاً على وطنيته وإخلاصه وشجاعته، ويندران نجد الكثير من أمثال هاشم بك الأتاسي في تاريخ الأمم الشرقية في القرن العشرين.
ثم قامت الحرب العالمية الثانية وجاء الجنرال فيجان وغيره من قواد فرنسا، وسادت البلاد فترة هدوء وتعرضت سوريا ولبنان، كما تعرض غيرهما لما مر ببقية بلدان الشرق الأوسط من متاعب حتى عقدت الهدنة فازدادت هذه المتاعب الاقتصادية والتموية، ثم اشتبكت قوات الحلفاء مع قوات فيشي وانتهى الأمر بدخول الحلفاء وخروج فرنسا المهزومة ودخول ممثل فرنسا الحرة أو المقاتلة.
وقد قضى هاشم الأتاسي هذه المدة بأكملها معتكفاً بمدينة حمص لا يقوم بأي نشاط سياسي ولا يزوره أحد. وأذكر أنني مررت مراراً بهذه المدينة ولم أنسى أن أترك له بطاقتي في كل مرة، إذ لم يكن في هذا العمل ما يمكن المؤاخذة عليه، ولكن موظفي إدارة الأمن العام الفرنسية ومن بينهم بالذات من أصبح موضع ثقة الحكم الوطني بعد ذلك، لم يتركوا هذه الفرصة تفلت من أيديهم دون أن يبنوا عليها من خيالهم الكثير من الظنون التي ضمنوها تقاريرهم السرية، وهي التي طالما ضللت السلطات وأفقدتها الكثير من هيبتها في كثير من بلاد الشرق الأوسط.
لابد أن القارئ يعرف ما حدث بعد دخول الحلفاء سوريا ولبنان، وكيف أعلن استقلال البلد السورية، وكيف نودي بالشيخ تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية، ثم اعترف مصر بهذا الاستقلال، ثم ما أعقب ذلك الاعتراف من اتصالات ومفاوضات كانت ترمي إلى دعم هذا الاستقلال وجعله متمشياً مع الأغراض العالمية الكبرى التي رسمها ميثاق الأطلنطي ونادى بها كل من روزفلت وتشرشل لكسب الحرب. ولو أن الكثير من مذكرات رجال السياسة والحكم قد نشر بمختلف اللغات واصبح متداولاً بين أيدي الجمهور وفيه إشارات معينة إلى ما تم في هذه الحقبة الدقيقة من حياة الأمم العربية والشرقية، إلا أن موقف مصر الحاسم وأثرها الفعال وما قامت به من أعمال وما كان لوجهة نظرها وسياستها من احترام في المحافل الدولية، لا تزال حلقة مجهولة غير معروفة للناس ولا للمصريين خاصة، وليس في نيتي أن أسردها في هذه العجالة، وإنما اكتفى بأن أقول إنني وجدت نفسي مجنداً في هذه الناحية وعرضة لأحاديث ومفاوضات مع أصحاب الشأن من السوريين واللبنانيين ومع ممثلي فرنسا وبريطانيا وأمريكا ثم مع السلطات القائمة حينئذ في سوريا وفي مقدمتهم المغفور له الشيخ تاج الدين الحسني و غيره من الوزراء وأهل الرأي.
في تلك الأثناء دار مقابلات بمصر حضرها الجنرال كاترو وزعماء من السوريين واللبنانيين وعند نهايتها عدت إلى بيروت وكان من المفروض أن تبقى المباحثات تحت طي الكتمام، ولكنى فوجئت في ويم من الأيام بزيارة نجل هاشم بك الأتاسي الذي نقل إلي رغبة والده في مقابلتي مفضلاً أن يتم ذلك في فندق معين بمدينة بعلبك. وقد قمت بهذه الزيارة فعلاً في اليوم الذي حدده الرئيس هاشم بك الأتاسي فجاءت كأنها مقابلة عرضية في أحد صالونات الفندق المذكور. وفي أثنائها تحادثنا عما تم في القاهرة من اتفاق على النقط الأساسية التي تعهد الفرنسيون الأحرار بإتمامها والتي ستككل بعودة هاشم بك الأتاسي رئيساً للجمهورية السورية ليتولى إجراء الانتخابات الجديدة. وقد أبدى هاشم بك الأتاسي لي ارتياحه لهذه الفكرة ولم يعترض عليها وقتئذ.
وبعد يومين تلقيت دعوة من وزير العراق المفوض تحسين بك قدري للغذاء بفندق صوفر، وهناك وجدت دولة رياض بك الصلح الذي كان مدعواً معي فأخذ دولته أثناء الطعام يتحدث بلباقته المعروفة وذكائه الفائق عن اهتمام الرأي العام الوطني بالمفاوضات التي تولتها مصر وما يجري لها من خير وعند نهاية تناول الطعام أبلغني أن الكتلة الوطنية بالشام ترتب الآن شؤونها وتجمع شملها كحزب منظم، وأنها قررت ألا ترتبط بشي لا يأتي عن طريق رئيسها فخامة هاشم الأتاسي، وطلب إلي وإلى وزير العراق المفوض أن يبلغ كل منا حكومته هذا الإجراء الذي يتفق مع مصلحة البلاد القومية والاستقلالية.
ولا أدرى لماذا مر بخاطري في تلك اللحطة الكثير من الحوادث التي قرأت عنها طويلاً، إذ عدت بمخيلتي إلى أعوام 1910 حينما كانت البلاد العربية جزءاً من الإمبراطورية العثمانية في الأعوام التي قام خديو مصر برحلته إلى الأقطار الحجازية وما أحيطت به رحلته في مختلف البلاد الأوربية من تأويلات ثم مجئ كتشنر إلى القاهرة ووضعه حداً لسياسة الوفاق التي رسمها غورست وما تبع ذلك من مقابلات تمت في دار العميد البريطاني مع بعض زعماء العرب سنة 1913م، ثم برز أمامي النزاع القائم بين وزارة الخارجية البريطانية وحكومة الهند البريطانية في قيادة السياسة العربية وما تمخضت عنه سنة 1916 من قيام الملك حسين بن علي وحروب لورنس المعروفة والمناداة بفيصل الأول ملكاً في دمشق، ثم تمثلت اتفاقات سيكس – بيكو والتفاهم الذي تم على حصص البترول العراقي ومجيئ وعد بلفور وإنشاء الوطن القومي الصهيوني ومفاوضات الوسطاء بين فيصل الأول والدكتور وايزمن العميد الصهيوني، واستجمعت ذكرى الليالي الطويلة التي أمضيتها في فندق الملك داود بمدينة القدس استمع فيها إلى أحاديث رجال من البريطانيين واليهود وأنصت إلى أنصار الهاشميين وأنصار الحاج أمين الحسيني.
لقد أمضيت سنتين بفلسطين تمر أمام ناظري الحوادث والمقابلات بين مختلف الرجال الذين يضعون الخطط ويجتمعون ثم ينفضون إذ كانت توضع أسس دولة إسرائيل.. على احتمالات الأخطاء التي سوف يرتكبها رجال السياسة من العرب – لقد مر كل هذا أمامي عند تناولي الطعام – ولقد نزلت من صوفر إلى بيروت وأنا غير مرتاح لمقابلتي هذه إذ كنت أشعر بأننا على أبواب مفاجئات جديدة، وفعلاً تحقق هذا الشعور الذي قلما أخطئ فيه، إذ أطل علينا شهر مارس سنة 1943 وهو الشهر المملوء بالحوادث التي جاءت متتابعة متلاحقة، فبدأ الجنرال كاترو يجد في تنفيذ ما اتفق عليه بالقاهرة فكثرت تنقلاته بين بيروت وحلب وحمص، وكان يؤكد في أحاديثه أنه ينفذ قرارات حكومة فرنسا المقاتلة الممثلة في اللجنة الفرنسية بالجزائر، وأن التعليمات التي لديه من شرائطها قيام معاهدة بين فرنسا ودولتي سوريا ولبنان.
وكان يبدو لي من حديثي من أغلب الزعماء الذين قابلتهم أنهم يرحبون بعودة معاهدة سنة 1936 بل قال بعضهم إن هذه المعاهدة أوسع نطاقاً من المعاهدتين اللتين عقدتهما بريطانيا مع مصر والعراق، وأنه لو كانت بريطانيا في مكان فرنسا لاستفادت سوريا كثيراً من تطبيق هذه المعاهدة.
كنت أقابل هذه التصريحات بالصمت المؤذن بأن صاحبه لا يهتم بهذه الناحية.. ولا يود الخوض في موضوعها بالذات.
ومادامت مفاوضات القاهرة لم تتعرض لموضوع المعاهدة لم يكن من المصلحة إثارة شيئ عن ذلك، ما يبقى اسم مصر بعيداً عن هذه الدعاية القائمة. والحقيقة أن الفرنسيين أثاروا الموضوع حينما وجدوا شبه إجماع على العودة إلى إحياء المعاهدة السورية الفرنسية، لم يبدأ الزعماء في التحرر من أفوالهم إلا عندما ظهرت في الأفق اتجاهات سياسية معينة، ولكن الذي أعلمه تماماً أن هاشم بك الأتاسي كان أول من هاجم المعاهدة أمام الجنرال كاترو.
وقد أبلغني الجنرال أن هاشم بك لم يستطع شرح وجهة نظره وتقديم ادلة كافية على اقتناعه شخصياً بهذه الفكرة.. ونظراً إلي مبتسماً.
وقد كنت على حق في أن موضوع المعاهدة سوف يتخذ دعاية ضد مصر، مع أن المراجع المصرية لم تتعرض بتاتاً لمسألة عقد معاهدة جديدة بين سورية وفرنسا أو إعادة المعاهدة السابقة.
ولذلك دهشت حين سمعت شكري بك القوتلي يصرح في منزله “أن مفاوضات القاهرة لم تعد أساساً يصلح للسير عليه” فهل كان يقصد بذلك عودة هاشم الأتاسي للرئاسة أم موضوع المعاهدة؟
لم يترك لي الحاضرون الوقت الكافي لقراءة ما يجول بخاطره، فقد تدخل بسرعة سعد الله الجابري، فاعتذر شكري بك بأنه لم يطلع الاطلاع الكافي على تفاصيل هذه المفاوضات وأسرارها.
ولما توجهت بنظري نحو جميل مردم بك قال إنه سيتولى تفصيلها وشرحها لشكري بك. أما أنا فانتهزت الفرصة وأكدت أمام الحاضرين أن موضوع المعاهدة لم يكن محل بحث في القاهرة.
ولست مكلفاً بالدخول في أي شأن يخص العلاقات بين سوريا وفرنسا من هذه الناحية، وقد استشهدت بجميل بك فأقرني على ذلك.
ولما عدت إلى بيروت علمت من المصادر المختصة أن الإنجليز المحليين لا يوافقهم إبرام أي معاهدة بين الفرنسيين وسوريا ولبنان، وأن رأيهم فيما يخص معاهدة 1936 هو أنها تؤيد سيطرة فرنسا.






المراجع والهوامش:
(1). مجلة الرسالة - القاهرة، العدد رقم 849، الصادر في 10 تشرين الأول عام 1949م
غرفة تجارة وصناعة دير الزور
اتحاد الغرف الزراعية في سورية