مقالات
غيث عمار مكتبي: صناعة حلب.. إرث عريق من الإبداع
غيث عمار مكتبي- التاريخ السوري المعاصر
لمدينة حلب شهرة تاريخية ببعض الصناعات وفي مقدمتها الغزل والنسيج وحلج القطن والأصبغة، والمواد الغذائية والأواني النحاسية واليّ والصابون الذي ما زال الحلبيون محافظين على إتقانه. وقد نقبل الأوروبيون معظم هذه الصناعات المتطورة آنذاك إلى أوروبا، وقبلهم نقل كل من هولاكو وتيمورلنك إلى سمرقند، والعثمانيون إلى إستانبول، نقلوا معهم إلى بلادهم مهرة الصناعيين من حلب، وسميت حلب بمانشستر الشرق، وقد تأثرت صناعتها بزوال الإمبراطورية العثمانية حيث فقدت حلب أسواقها التقليدية.
كانت الصفة الغالبة على مجتمع حلب أنه مجتمع صناعي – تجاري، وقد تركزت الثقافة المهنية في بيوت عريقة على إمتداد أجيال، وتفرعت الصناعات إلى اختصاصات متعددة تكمّل بعضها البعض، مما جعل هذا المجتمع متعاوناً ومتضامناً، ورغم تنوعه الإثني والديني فقد تمسك الحلبيون بالعلم العملي التطبيقي أكثر من العلم النظري والمدرسي، وساد نظام الحرف بحيث كان لكل حرفة رئيسها أو معلمها أو شيخ الكار فيها الذي يمارس صلاحياته على أبناء حرفته.
قطعة نسيج رائعة من الحرير وخيوط الفضة تزينها بفخر عبارة “شِغل حلب” بمعنى صُنع في حلب، كناية عن صنعها وإبداعها بأيدي حلبية في حلب المحروسة، القرن التاسع عشر.
نوجز أهم الصناعات الحلبية العريقة بما يلي:
1- الصناعات النسيجية (الغزل والنسيج): تعود لأوائل الألف الثالثة ق.م، ووصل عدد الأنوال اليدوية في حلب خمسة عشر ألفاً، ولقد أخذت مدينة ليون الفرنسية الكثير عن صناعة النسيج الحلبية فمن الحقائق الثابتة أن معامل مدينة ليون الفرنسية أكملت صناعاتها الحريرية الثمينة بتقليد الأنسجة الحلبية التي كانت تصدّر إلى أوروبا. إشتهرت حلب بصناعة الصايا وألاجه (وهو قماش قطني وجهه وظهره سواء في الحياكة والمظهر) والأغباني (وهو قماش مطرز يدوياً وحديثاً صار يطرز بآلات التطريز، والأغباني كان يسمى الزنانير الهندية وأول ما ظهرت صناعته بحلب على يد امرأة نصرانية أسلمت على يد الشيخ طه الكيالي، وكانت رأت عنده زناراً من صنع الهند فالتقطت منه الصنعة وأنتجت أول أغباني حلبي الصنع عام 1282 هـ – 1865 م)، ومن الصناعات النسيجية أيضاً نذكر؛ الشالات والعباءات والحطات والمقصبات والبسط والسجاد، وكان السجاد الحلبي واسع الشهرة والذي تطور بدخول السلاجقة العجم القادمين من الشرق واصبح مثل السجاد القاشاني. ولقد اقتنته العائلات الأوروبية منذ القرن الـ 16 وكانت تفتخر به لكونه من الصوف الخالص الدقيق الحبك.
2- الصناعات الخشبية: كالموزاييك وتطعيم الخشب بالصدف والعظم والنحاس لصنع المفروشات.
3- الصناعات الزجاجية: خاصة الزجاج المنفوخ، وقد تطورت عملية طلاء الأواني الزجاجية بالمينا وتمويهها بالذهب في عصر السلاجقة وأصبحت اعتباراً من القرن 12 م صناعة محلية في شمال بلاد الشام لا سيما حلب.1
4- الصناعات الجلدية: خصوصاً لصنع الحقائب والأحذية والصرامي الحمراء التي تتماثل فردتيها فلا يمين ولا يسار، وجهها من جلد الماعز، وبطانتها من جلد الغنم، ونعلها من جلد الجمل.
5- الصناعات المعدنية: فولاذية كالسيوف والتروس والخناجر المزخرفة وقد إنقرضت هذه الصناعة من حلب ومات صناعها ويحكى أنه يوجد لها في حلب صناع ماهرون أسر أكثرهم تيمورلنك حين إستيلائه على حلب، وكانوا يصنعون السيوف من الفولاذ الخالص المستورد من الهند.2 والثانية نحاسية كالأواني النحاسية والقدور والفوانيس، زقد كانت صنعة الأواني النحاسية من أهم الصناعات في حلب ولها سوق يمتد من بانقوسا حتى باب النصر حيث يستورد التجار صفائح النحاس من أوروبا، ثم يطرقها النحاسون فيجعلونها أواني مختلفة الأشكال حسب الحاجة، ويؤم سوق النحاسين عدا أهل المدينة سكان الضواحي والبدو ليبتاعوا منه حوائجهم من القدور للحلب والتجبين ودلات القهوة، وفي عام 1927 م فقدت هذه الصنعة مزاياها بسبب إستيراد ماكينات صنع الأواني النحاسية فترك الكثيرون هذه الصنعة وعلى الأخص عندما بدأت أوروبا تصدر لبلادنا أواني الألمنيوم والتوتياء الدمهون (جينكو).. ثم إنقرضت هذه الصنعة تماماً بظهور البلاستيك ولم يبقى من أربابها إلى القليل.3
6- صناعة السيراميك والخزف: تعود صناعتها للألف السابع قبل الميلاد، ومنها القاشاني وهو نوع من السيراميك المزخرف كان يستعمل في تزيين المباني الفاخرة وقد إنقرضت صناعته، ولم يزل يوجد منه على بعض جدران البيوت والمساجد القديمة.
7- صناعة الفسيفساء: قطع من الأحجار أو الزجاج الملون أو الرخام، تصف وتلصق جانب بعضها على شكل رسوم جميلة تستعمل كبلاط للأرض أو تزيين القبب والجدران.
8- صابون الغار: اعتبر الأقدمون صابون حلب الغار المطيب أفضل صابون في العالم خاصة وأن مواده القلوية لا تتجاوز 15% منه، بينما هي فيغيره تتجاوز 25% إذ أنه نباتي وليس كالصابون الأجنبي مصنوع من الشحوم والدهون الحيوانية. كما تتدنى رطوبته مع الزمن، ونسبة الغار فيه 25%.4 ولصابون غار حلب دمغة وخاتم محلي تعرف به حلب.
9- العطور: كانت صناعتها تتمركز في سوق العطارين، وكانت تستخرج من الورد والأزهار الطبيعية كالياسمين والزنبق، حيث كانت الزهور تنقع ثم تضغط وتعصر وترشح وتمزج ليستخرج منها العطر.
10- الصياغة وصناعة الحلي: ما تزال حلب تتميز بها.
11- الصناعات الغذائية وخصوصاً الحلويات بأنواعها.
تأثرت صناعة وتجارة حلب بإنحسار الإزدهار الاقتصادي عن المدينة وأهلها الذين أصيبوا بالفقر والعوز وبخاصة بعد الزلزال المدمر عام 1822 م الذي خرب ثلثي دورها وقتل ثلاثين ألفاً من أهلها ولكن ما إن أطل القرن التاسع عشر حتى عادت حلب إلى مزاولة نشاطها التجاري وكان نطاقه أوسع، وكان للثورة الصناعية أثر كبير في تطور الصناعة فيها، فحلت الآلة محل النول اليدوي لتطل الصناعة النسيجية التي عرفت واشتهرت بها في مقدمة منتوجاتها الأخرى التي غزت العالم.
وتطورت صناعات المحافظة بعد الحرب العالمية الثانية تطوراً ملحوظاً، وتميزت حلب بصناعة المصابيح الكهربائية وشاشات التلفاز، والإسمنت والعوارض الإسمنتية المسبقة الصنع للسكك الحديدية، والأعمدة الإسمنتية المسبقة الصنع لنقل التيار الكهربائي، إضافة لصناعة النايلون واللدائن والبطاريات، والكابلات والغاز السائل والصابون والمنظفات الكيميائية وهياكل السيارات وتركيب الجرارات والمعجنات وطحن القمح، وعصر الزيوت والمياه الغازية، إضافة للصناعات التقليدية المذكورة آنفاً والتي تطورت لتواكب حداثة العصر. تأسست غرفة صناعة حلب عام 1935 م ومن بين الذين تعاقبوا على رئاسة مجلس إدارتها سامي صائم الدهر وعبد العزيز فنصة.
المصادر والمراجع:
– أحمد علي إسماعيل، تاريخ السلاجقة في بلاد الشام بالقرن 5 – 6.
– كامل الغزي، نهر الذهب، ص99.
– حلب بـ 100 عام، جزء 3، ص83.
– هلال وفقش، دليل حلب السياحي، ص283، الإصدار الرابع، 1997.