مقالات
فيضي الأتاسي عام 1950 : الأحزاب السياسية
نشر فيضي الأتاسي مقالاً بعنوان :”الأحزاب السياسية” في صحيفة النقاد التي أدرجت مقدمة مختصرة للمقالة، ثم قامت صحيفة السوري الجديد التي أسسها فيضي الأتاسي في عام 1948 واستمرت حتى إنقلاب إديب الأتاسي عام 1951م، قامت بإعادة نشر المقالة في العدد الصادر في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من آب عام 1950م.
مقدمة صحيفة النقاد:
صحيفة السورية – العدد 29 آب عام 1950
معالي الأستاذ فيضي الأتاسي نائب حمص المحترم علم بارز بين أعلام النهضة الفكرية والأدبية والسياسية في بلاد الشام، وكاتب ممتاز وخطيب ممتاز وأخلاقي ممتاز، رجوناه أن يكتب في “النقاد” عن “الأحزاب السياسية بمناسبة” بحث المواد المتعلقة بالحريات السياسية وبالأحزاب ومشروعية غايتها، وسلمية رسائلها في جلسة الجمعية التأسيسية يوم الأربعاء الماضي، فتفضل معاليه، وكتب هذا المقال الماتع البارع:
“النقاد”
نص المقال:
(للأحزاب السياسية دور هام كمثله في كل بلد مهما يكن نظام الحكم القائم فيه، وخاصة في البلاد التي يسودها حكم ديمقراطي. كيف لا والسيادة فيها تقوم على مبدأ “حكم الشعب بالشعب وللشعب” على ما قبسه دستورنا العتيد، من دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة، العتيد هو أيضاً.
وفي الواقع، مادام كل فرد في النظام الديمقراطي يملك ذرة أو جزءاً من السيادة المشاعة، فإن أصحاب الوعي القادرين على تكوين رأى في مختلف قضايا بلادهم، قليل ما هم.
فالأحزاب تفسح إذا لهؤلاء مجال الإلمام وتعينهم على فهمها وتدبرها. ولولاها لكانت الأفكار مشتتة والآراء مضيعة لا يهتدي بعضها إلى بعض، ولا يلتقي بعضها ببعض، فالأحزاب تجمعها وتلقحها ببعضها وتؤلف بينها حول مبادئ رئيسية أولاً، ثم حول ما يتفرع عن تلك المبادئ لذلك كانت الأحزاب من آلات الحكم الديمقراطي، أولاها وأهمها.
وللأحزاب السياسية في النظام الديمقراطية شأن مزودج: فهي ترصد اهتمامها لكسب أصوات الناخبين، وفي سبيل ذلك تنظم وتمول الدعاية الانتخابية التي تزود مرشيحها بأسباب النجاح، وهي تنشر مبادئ الحزب وتعممها وتدعو إليها. وتوفر وسائل الدعاية عن طريق الصحف والمنشورات وبواسطة منابر الخطابة في الاجتماعات الشعبية والمؤتمرات الحافلة.
ولكن هذه الدعاية قد تخيب وتفشل إذا هي جاءت إبان المعارك الانتخابية أو قبيلها. لذا فإن الأحزاب الواعية تفطن إلى أن هذا الأمر يفتقر إلى إعداد طويل فيما بين المعارك، وتشعر بأن واجبها هو واجب “تهذيبي” دائم وشامل ثم هي تسعى إلى كسب أنصار مؤمنين قبل أن تسعى إلى كسب الأصوات إبان المعرك، وهؤلاء المؤمنون يمدون نفوذ الحزب بنفوذهم الشخصي وإشعاعهم الأدبي والروحي، كل في وسطه وفي دائرة اختصاصه.
وكما أن أفراد الجيش يجدون “ملاكاً” فيمن حولهم من صف الضباط والضباط، فكذا الناخبون، فإنهم، يجدون في الأحزاب السياسية ملاكاً ينير بصائرهم ويرشدهم ويسدد خطاهم.
وكما يجد الناخبون في الأحزاب ملاكاً مرشداً وقائداً، فكذلك المنخوبون، فإن نظام الحزب يحدو نوابه إلى التكتل لخدمة المبادئ والأهداف.
وهذا التكتل يعمل في الحالتين: في حال توفر الكثيرة المساندة للحكومة القائمة، أو في حال القلة التي ليس معها سوى التزام جانب المعارضة.
والأحزاب صلة دائمة وقوية بين الشعب ونوابه. فما من شأن يتم على يد الحكم القائم إلا وتريق عليه أشعة النور بالشرح والتفصيل، أو النقد والتجريح، مؤيدة له أو معارضة.
وكما أن الأحزاب الديمقراطية تمحص الأمور الواقعة وتنقدها وتكشف للشعب حسنات الإجراءات الحكومية أو سيئاتها، كذلك هي- بما تقيمه من إجتماعات ومؤتمرات- تجعل الحاكمين على بينه مما يرياه الرأي العام.
وهل يمكن تعريف الأحزاب بعبارة جامعة مانعة؟ أنه من السهل أن يطلق فيقال: إن كل جماعة منظمة ترمي إلى كسب أصوات الناخبين هي حزب سياسي. ولكن إذا استقام هذا مع الأحزاب الديمقراطية، فما كذلك مع غيرها مما يقوم في البلاد ذات النظام الاجتماعية “توتاليتير”.
ففي هذه أيضاً أحزاب أو حزب واحد كما هو الأعم الأغلب. ولكن البون شاسع بينها وبين الأحزاب الديمقراطية، سواء أكان من حيث القواعد والضوابط التي تخضع لها أمر تأليفها، أو من حيث نظمها الداخلية، أو من حيث أهدافها ومراميها.
فالأحزاب الديمقراطية تقابلها الأحزاب الأوتوقراطية والأحزاب الديمقراطية نفسها، منها من يقوم على حركة شعبية شاملة كالحزب الاشتراكي الفرنسي” الفرع الفرنسي للأممية العمالية” ومنها من يعتمد على هيئات أو وحدات من خاصة الناس ومن ذوي النفوذ الانتخابي الشخصي، كالحزب الراديكالي الفرنسي.
وفي الأحزاب الديمقراطية يجري بحث المناهج وإقرار الخطط في مؤتمرات عامة وبعد مناقشات حرة. كما أن رؤساء الحزب وأركانه على اختلاف درجاتهم ينتخبهم جمهور المنتسبين للحزب انتخاباً حراً، بينما في الأحزاب الأوتوقراطية يفرض موجهو الحزب فرضاً من قبل رؤسائه الأعلين، وهؤلاء الأعلون تحيط بهم هالة من وقار وقدسية حتى كأنهم أنصاف آلهة وأما الوسط التي تقوم فيه هذه الأحزاب فحيث تسود النظم الاجتماعية، كالفاشية والشيوعية.
والحياة السياسية في بلد ما قد تقوم على أحزاب متعددة، أو حزبين اثنين أو حزب واحد.
ولتعدد الأحزاب علاقة بنفسية الشعوب كما لها علاقة بقانون الانتخابات. فالتمثيل النسبي مثلاً يفضي افضاء مباشراً إلى التعدد، كما هي الحال في فرنسا وقيل أن من زائنات التعدد أنه يعطي صورة صادقة عن التيارات الفكرية القائمة. وقيل أن من شأئناته شيوع الغموض وانتقاء الوضوح وعدم استقرار الوضع الحكومي، لأنه تبعاً لتعدد الأحزاب تؤلف الوزارات من أناس يصبحون شركاء في الحكم، بينما هم خصوم في النزاعات.
وأبرز مثال لقيام الحياة السياسية على حزبين اثنين، ما في بريطانيا. وإذا كانت الديمقراطية البريطانية التي عليها جلال العتق والقدم قد اهتدت إلى هذا الشكل المثالي في تطبيق النظام البرلماني فمرد ذلك إلى طبائع الإنكليز وتراثهم السياسي وخلقهم الرياضة.
يقول الكاتب الفرنسي أندره موروا في مطلع كتابه “الكولونيل برامبل” :”إذا شئت أن يتحمس الإنكليزي للحرب، فقل له أنها مباراة كرة قدم” وحياة البريطانيين السياسية القائمة على حزبين صورة عن مباراة تقوم بين فريقين، ومرد هذا أيضاً وأيضاً إلى قانون الانتخابات عندهم حيث لا تمثيل نسي. وهكذا ما أن يبرز حزب ثالث حتى يضمحل إذ يهضمه ويمثله أحد الحزبين الضخمين.
وتبعاً لقيام حزبين فقط في بريطانيا، فإن أمر الحكم فيها مستقر. إذ أن أحدهما الناجح يحكم مدة الدور الاشتراعي بكامله، بينما صاحبه الآخر يقوم بدور المعارضة التي يعتبرونها متتمة للحكم: فالحكومة حكومة جلالة الملك، والمعارضة معارضة جلالة الملك. فإذا انقضى الدور الاشتراعي وجاء دور انتخابات جديدة، كان الشعب على بينه مما كان من كل منهما: فاما أن يبقى الوضع كما كان، أو يخفض أحدهما ويرفع الآخر.
وأما الحزب الواحد أو الوحيد فدوره يكاد يكون رسمياً، أو هو رسمي فعلاً، وهو يجمع الموالين للحكم بينما لا تقوم بين غيرهم من أفراد الشعب أية رابطة. والانتساب للحزب في مثل هذا شرف لا يناله كائن من كان، ولا يتم لأحد مالم يمرر بدور التجريب والاختبار.
ومهمة الحزب الوحيد أن يفسر تدابير الحكام “لتنشرح لها الصدور لا لتنقبض” وأن يطلع الحاكمين على رغبات الشعب “بقدر الإمكان”.
ومع الحزب الوحيد تفقد الانتخابات السياسية كل معنى، إذ أن وحدانية الحزب يلازمها كون المرشحين جميعهم من جانب واحد.
وكان على البلاد التي يقوم فيها حزب واحد أن تتدبر أمر المعارضة التي فيها السلامة من الزلل، والتي لا يتصور وجودها في مثل هذه الحال.
ولهذا الغرض أبدعوا في روسيا السوفياتية ما أسموه الانتقاد الذاتي “اوتو كريتيك” ومقتضاه أن يباح النقد لطائفة من الحزب نفسه. يقول الكاتب الفرنسي أندريه جيد: للأقلام في روسيا أن تكتب: هذا موافق للمذهب الشيوعي أو غير موافق، وموافق لتعاليم ماركس ولينين أو غير موافق. ولكن ليس لها أن تتعرض للمذهب ولا للتعاليم والا أصابها أصحابها شر ماحق.
بقي أن نقول كلمة حول اتصال الأحزاب بمثيلاتها في بلاد أخرى أجنبية، فهل ينكر عليها هذا الاتصال، وهل هو مخل بالقومية؟
المسألة تحتاج إلى شيئ من التفاصيل : لا حرج في اتصال الأحزاب الديمقراطية ببعضها لأن وسائلها سلمية ومشروعة، فالزمن زمن تعاون بين الأمم. وقد يكون التعاون بين الحكومات كما يكون بين البرلمانات، أو المنظمات، ولكن الحرج في الاتصال بأحزاب إجماعية تحميها حكومات إجماعية “توتاليتير” لأن هذه الأخيرة تعتمد الفتن والثورات تقيمها في البلاد الأخرى لترويج نظامها الاجتماعي، ولأنها تشعر بكونها مهددة في كيانها وسلامتها لمجرد قيام الحريات الديمقراطية في أي بلد آخر.