شهادات ومذكرات
سلامة عبيد: أسباب الثورة السورية الكبرى .. عدم الاستقرار وحياة القلق
من كتاب الثورة السورية الكبرى 1925-1927 (13)
سلامة عبيد: العزلة الجغرافية والمذهبية
القسم الأول : الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى 1925 –عدم الاستقرار وحياة القلق
إلا أن هذه الإعتزاز بالديرة لا يجعلهم عبيداً لها مسمرين فيها، فهم يدافعون عنها، أو بالأحرى، عن حريتهم فيها، حتى إذا لم يعد من هذا الدفاع جدوى، رحلوا عنها بعيالهم ومواشيهم وما يستطيعون نقله من أثاثهم إذ “ليس في بلاد الشام اليوم 1927 حضر يغزون ويغزون، وأعدوا بيوت الشعر إلى جانب بيوت الحجر، وضمروا المطهمات بالجياد في بساتين الزرع والحصاد غير الدروز”.
ويمثل هذا ما يثبته القس بوتصر في كتابة “مدن العمالقة في باشان” على لسان “نحن كلنا رحالة نزالة اليوم هنا وغداً هناك”.
دار يحوقه ذل ما إلنا بها عوز نبدله بديار خضرا مراعيه
وإن ما صرت يا حوران بالطيب معزوز يحرم علينا مسكنه مع براريه
وهم يفضلون البراري على هذا الجبل الذي يتغنون به، إذا هددت حريتهم فيه ويكتفون بأوراق الشجيرات القطف والقيصوم، وهي في نظرهم أحسن من المذلة وعسلها ولكن هذا لا يعني أنهم إن نزحوا عنه، مضطرين إلى اللجاة أو البادية، أنه يتناسونه فهم يعتبرونه وطناً لا يرضون بديلاً عنه ولو أن المواطن كثيرة.
رأينا الدروز يستقرون في حوران بشكل احتلال فيعرضون أنفسهم لنقمة جيرانهم الحضر الذين اقتطع منهم الدروز بعض السهول والقرى، ولنقمة البدو الذين حرموا المراعي والخطب. هكذا رأى الرحالون البندقية والسيف يرافقان السكة التي تشق الأرض والماشية التي تطلب المرعى لحراستها جميعاً من التعديات. فهم يحملون سلاحهم في كل مكان وزمان. ينادقهم على أكتافهم وسيوفهم إلى جوانبهم ومسدساتهم في مناطقهم.
وهذك رأيناهم في رحلتنا الأخيرة إلى الجبل عام 1948 أب بعد قرن ونيف من رحلة القس بورتر، مع فراق واحد هو ندرة حملة السيوف.
إن حياة القلق هذه، وعدم الاستقرار التي تشبه إلى حد كبير الحياة التي أنذر بها إسماعيل بأن .. يكون إنساناً وحشياً يده ضد الجميع ويد الجميع صده.. اثرت تأثيراً سيئاً في حياة الجبلين الاقتصادية فهم لا يطمئنون على مزروعاتهم، خصوصاً الطويلة الأمد ولا على مواشيهم، أو أنفسهم وهم دائماً في حالة الطوارئ. السيف لا يفارق الوسادة. ولم تكن هناك حكومة تستطيع أن تضمن لهم سلامة الاستقرار الضرورية للنشاط الاقتصادي بل إنها على العكس منعت كل ازدهار عمراني أو زراعي، بالضرائب غير العادلة التي تفرضها والمدافع “الأطواب” المستعدة لتحصيل الضرائب فقط. فماذا الزرع والضرع وهما مجلبة للدمار وسلب الحريات.
أضف إلى ذلك عامل الزهد في هذه الدنيا الفانية التي أشرفت على النهاية ومحاربة كل ما يغري بالتمسك بحطامها. وهذا الزهد إن لم يكن عاماً شاملاً، فهو بارز لهذا ظل الجبل رغم إمكانياته الكبيرة فقيراً. ولا يعوض هذه الخسارة وما ينجم عنها من فقر اقتصادي، يرافقه أحياناً بعض الطمع في المال إلا الإعتزاز بالكرم. والفخر بأنهم يكرمون الخطاطير “الضيوف” ويتعبون المعاميل. وبأن تعرف أرضهم بأرض الضيافة يفتحون أبوابها لكل لاجئ إليهم دون النظر إلى معتقده أو مذهبه. وبأن عشيرتهم هي عشيرة بني معروف أي الباذلة للمعروف، هم يفضلون هذا اللقب على أي لقب آخر.
لم يعتبر الدرو زمقاومة الدول والقبائل شيئاً حديثاً في تاريخهم فهم الذين يرجعون أنسابهم إلى قبائل عربية عريقة، ويفخرون بأنهم حافظوا على هذا النسب صافياً، وإذ منعوا بكل شدة مصاهرة غير الدروز، يرون أن صفة النضال فيهم عريقة وطبيعية، وكأنما هي وظيفتهم في الحياة، اختارهم لهم الله.
وتبرز هذه الصفة أيضاً بروزاً أقوى في دروز حوران، وحياتهم سلسلة من المعارك المستمرة. وهم يؤرخون بطريقة عفوية لمواليدهم وموتاهم وأحداثهم الهامة بسنوات هذه الوقائع فيقولوا فلان ولد سنة ممدوح أو سامي باشا أو حرب قراصة ويسمون مواليدهم تسميات تذكرهم بهذه الأحداث. فجهاد ولد في الجهاد وفرنجية ولدت عهد الفرنج “الافرنسيين” وهجيجة في وقت الهجيج “أي الرحيل من وجه الجيش” . ودروز حوران يبالغون في وظيفة النضال هذه حتى أنهم ليتباهون بالسلاح لا بكروم العنب ويعتبرون ذبح الأعادي كاراً أي مهنة. ويفخرون بأن المرجلة من دور آدم لهم ساس “عادة” وهم ذباحة الدول وشرابة الدماء “مجازاً” لم يكن صيدهم طيور الحجل بل لابسي التيجان. وهم إلى جانب اعتزازهم بنسبهم العريق الرفيع ونضالهم السالف عن الجار والكرامة يغالون بذكر انتصارهم على إبراهيم باشا والعثمانيين حتى إذ كادت جذوة النخوة أن تنظفئ في نفوس الدروز قبيل الثورة، أذكاها الشعراء والقادة بإثارة ذكريات النصر، وتهديد الفرنسيين بمصير ممدوح باشا الذي أبيد جيشه في خراب عرمان أو غيره من الباشاوات.
انظر:
سلامة عبيد: فرنسا تفرض نفسها.. (1)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. مغامز صك الانتداب (2)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. مخالفة فرنسا لصك الانتداب (3)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. سلطات المفوض السامي (4)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. تغيير المفوضين (5)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. التجزئة (6)
سلامة عبيد: الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى عام 1925 (7)
سلامة عبيد: الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى 1925 – حب الاستقلال والحرية (8)
سلامة عبيد: الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للثورة السورية الكبرى- العوامل الاقتصادية – التجارة (9)
سلامة عبيد: جبل حوران – المنطقة والسكان .. لمحة جغرافية (10)
سلامة عبيد: جبل حوران – السكان (11)
سلامة عبيد: أسباب الثورة السورية الكبرى .. العزلة الجغرافية والمذهبية (12)