بدر الدين تلجبيني – التاريخ السوري المعاصر
كان (عليٌّ) شابا في الخامسة والعشرين من عمره، طموحٌ منفتحُ الأفكار، يعيش في بلدةٍ نائمةٍ تحتاج إلى الكثير من العناية والتطوير، ليس فيها نادٍ رياضي ولا دارٌ للسينما ولا مركز ثقافي، فكان عليٌّ يبحث عن مناسبةٍ يخدم فيها بلدته ويسهم بالنهوض بها ودفعها إلى الأمام.
في إحدى ليالي أوائل السبعينات من القرن الماضي كان عليٌّ يجلس في سهرة من السَّهرات مع أصدقائه، وكانوا يتحدثون عن فيلمٍ سينمائي هندي إسمه (جانكلي) ظلَّ يُعرض في دور السينما في مدينة حلب لمرّات ومرّات، فيتحدثون عن بطل الفيلم (شامي كابور) وغرامُهُ بالجميلة واسعة العينين الممثلة (سايرا بانو) والتي غنى لها اغنيته الشهيرة ( ايّيّا سوكو سوكو ) ، هذه الأغنية التي انتشرت بين الناس انتشار النار في الهشيم وحفظها الكبير والصغير، حتى أن معامل النسيج أنتجت قماشاً أطلقوا عليه (سوكو سوكو) يشبه قماش الثوب الذي كانت ترتديه بطلة الفيلم.
كان علي يرى الشباب وهم يذهبون إلى مدينة حلب لمشاهدة الأفلام السينمائيةويسأل نفسه : لماذا لا يكون في البلدة صالة للسينما تلبي رغبة هؤلاء الشباب ، وتغنيهم عن السفر والجيئة والذهاب .
قام علي باستشارة أصدقائه في موضوع انشاء دار للسينما فأجمعوا على أن فكرته فكرة سديدة، فقام بإستئجار مقهى (حسن وقاص) غربي البلدة وبدأ بتجهيزه وتهيئته ليكون صالةَ للعرض، فوضع فيه كراسي خشبية وشاشة بيضاء في صدر الصالة، وقام بالإتصال بأصحاب دور السينما في مدينة حلب لتزويده بالأفلام، فأعلموه أن هناك أفلاماً شهيرةً باهظةُ الثمن مثل ( جنكلي ـ و الخطايا ـ ولحن الخلود ـ والبدوية العاشقة ـ وعنترة ) وتحتاج إلى حضورٍ جماهيريِّ كثيف لتغطية نفقاتها . ونصحوه بفيلم (رخيِّص وكويِّس وإبن ناس) يحكي عن أحداث الحرب العالمية الثانية!!
قام عليٌ بدعوة أصدقائه ومثقفي البلدة لحضور حفل الإفتتاح. فوضع مكبِّر الصوت أمام باب الصالة ليصدح بأغنية أم كلثوم (دارت الأيام).
امتلأت الصالةُ عن آخرها لأن الدخول في اليوم الأول كان مجانياً، وقامَ أصدقاؤه المقربين بمساعدته في ضَبط نظام الصّالة وتنظيم دخول المدعوّين وحتى في تشغيل الة العرض، إنتهى عرض الفيلم وخرج الناس من الصالة بآراءَ مختلفةٍ، فمنهم من أثنى على الفيلم وإعتبره فيلماً تاريخياً رائعاً ليس له نظير، و منهم من لم يجد فيه غناءً فلم يُعجبه من أوله إلى الأخير، ومنهم من ازعجته ضوضاء الطائراتٍ التي تطير، ودبّاباتٌ ذات هدير، وقذائفُ ذاتُ صفير !!
في اليوم التالي كان الدخول مأجوراً فإشترى قسم من الجمهور بطاقات ودفع كل منهم ليرة ثمن البطاقة، لكن فئةً منهم كانوا يدخلون إلى الصالة دون أن يمرّوا بقاطع التذاكر.
لم يستسغ علي سؤالهم عن البطاقة لأنه يعرِف جوابهم، وأنهم سيردون عليه : ما شاء الله !! أليس من المعيب ان تطلب منا ثمن البطاقة؟ انسيت موقف كذا ومعروف كذا الذي عملناه معك !؟ ويختمونها بعبارة (يا عَيبَ الشّوم ..حيفٌ على الخبز والملح) ويرددون بحقه موال (عاشر اصيلاً) !!
والمشكلة الأخرى التي صادفته هي الأطفال الذين كانوا يتَجَمهَرون أمام باب الصّالة ويعلو ضجيجهم، فلا هم يدفعون نصف ليرة ويدخلون، ولا هم يغادرون ويريحون، واذا ما خطر له أن يرأف بهم ويدخلّهم مجاناً تصبح الصالة حينها صفاً مدرسياً يحتاج إلى معلمٌ وعصا!!
مضّت ثلاثة اشهرٍ على إفتتاح الصالة بذل فيها جهودا جبارة فاختار افلاما جيدة واستضاف (شمشون) ذو البنية الجسدية الخارقة والذي كسروا على صدره صخرة، لكنه رغم ذلك لم يجن من المال ما يسدُّ الرمق ويطعم العيال، ويوماً بعد يوم بدأ شباب المدينة ينصرفون إلى صالات السينما في مدينة حلب مستمتعين بمكيفاتها وشاشاتها الكبيرة ومقاعدها الوثيرة، ليشاهدون أفلاماً كثيره، أمثال ( الماشسستي ( و ( فريد الاطرش وعبد الحليم ونجاة الصغيره، والبدوية ابنَةُ توفيقٍ المدعوة سميره )!!
كان علي يملكُ نظرة متأنيةً وواقعيَّة، ويدرك حجم المغامرة التي قام بها وقدر المسؤوليه، فلم يحزن لفشل المشروع وأخذ الموضوع بروحٍ رياضية، فقام بإغلاق المقهى وتسليمه إلى أصحابه، ورغم ان محاولته في سبيل خدمة بلدته قد باءت بالفشل ولم تلق النجاح المطلوب، لكن ترفَعُ له القبعة تقديرا لحماسه وحبه لبلدته ولهمَّتِهِ العليَّة، ولجهوده التي بذلها لتطويرها ودفعها الى مصاف المدن الحَضارِيَّة .
انظر:
بدر الدين تلجبيني: حلاّقون في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: رحلة الى السينما في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: دخول القوات الفرنسية إلى أعزاز عام 1920
بدر الدين تلجبيني: أيام شهر رمضان في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: نجارة المحاريث القديمة في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: حديث عن مدرسة ابن المقفع في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: السرايا الحكومية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: جولة في ليل أعزاز
بدر الدين تلجبيني: الزودة في قديم أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المولد النبوي الشريف في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: مقاهي أعزاز
بدر الدين تلجبيني: عيد الأضحى في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المصارعة الزيتية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: خان بيع الحبوب في أعزاز