شهادات ومذكرات
سلامة عبيد: أسباب الثورة السورية الكبرى .. العزلة الجغرافية والمذهبية
من كتاب الثورة السورية الكبرى 1925-1927 (12)
سلامة عبيد: العزلة الجغرافية والمذهبية
القسم الأول : الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى 1925 – العزلة الجغرافية والمذهبية
العزلة الجغرافية
إن العامل الجغرافي والتاريخي والمذهبي، كوّن عند الدروز الحورانيين عقلية متميزة إلى حد ما، إن لم نقل خاصة.
فالمنطقة كما مر بنا، جبلية، نجدية، منعزلة، تحيط بها القفار والسهول الشاسعة فكأنما هي أشبه جزيرة في بحار من الرمال، والأتربة الدكناء. والدروز الحورانيين وإن كان عهدهم بجبل حوران حديثاً، إلا أن حياتهم الجبلية ليست حديثة فسواء أكانوا قادمين من فلسطين أو لبنان أو حلب، فإنهم حتماً قادمون من جبال هذه المناطق. لذلك كانوا جبليين أصليين منذ كانوا دروزاً، متمتعين بصفات الجبليين الأشداء، ألخشني المعيشة وإذا أضفنا إلى ذلك انعدام العناية الصحية، والاقتناع الأصيل بأن “ابن عشرة لا يموت ابن تسعة” أدركنا أن الأطفال الأشداء والمرضى المحظوظين هم وحدهم الذين تكتب لهم الحياة في محيط كهذا.
العزلة المذهبيتة
اقترنت إلى انعزالية الجبل الجغرافية انعزالية تكاد تكون أشد خطراً وأعمق أثراً وفي الانعزالية المذهبية، التي غذت المحافظة على التقاليد، والاتحاد الذي أصبح مضرب المثل، فلا تنوب أحدهم نائبة إلا ويهتم فيها القاصي والداني، حتى لتشبههم بعض القبائل البدوية بطبق النحاس، إن ضربته من جهة رنّت جهاته جميعاً.
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات، على ما جاء برهاناً
الاستخفاف بالحكم:
وقد عودتهم هذه العزلة أن يستخفوا بالحكم، فكأن دروز النصف الأول من القرن العشرين لم يختلفوا كثيراً عن دروز القرن التاسع عشر، الذين يقول عنهم حكمدار بلاد الشام إنهم لا يقاسون إلى سواهم من الناس فإنهم يفعلون ما يريدون ولا يعبأون بوجود المتسلم بينهم.
ورأى فيريه فيهم لا يختلف كثيراً عما جاء في رسالة “الحكمدار” إذ أنه يرى فيهم “القوم الأعرق بداوة بين جميع حضر الشرق”.
عرف الدروز، إجمالاً بالإباء وحب الحرية، وأقل إهانة يمحى عارها بالخنجر أو البندقية إلا أن دروز حوران عرفوا بالحلم “طول البال” أكثر من أخوانهم اللبنانيين، إلا أنهم لا يقلون عنهم اندفاعاً عندما تقع الواقعة، ومحبة الحرية هذه التي لم تستطع الدولة العثمانية على اختلاف ولاتها ولا الدولة الفرنسية خنقها واستئصال جذورها من صدورهم، أثرت في حياتهم وشعرهم تأثيراً عميقاً:
حنا أحرار وما منغدي مماليك النمر ما يوفي وظيفة سلوقي
صعبا علينا نشاهد العسف والميل ونبقى قبالو مكتفين الأيادي
والله ما أرضى عيشة بالندالة لو أن أتهذب بالسيوف المشاطير
وهم يعتبرون جارهم، أو اللاجئ إليهم، واحداً منهم، وحاجاته مقدمة على حاجاتهم، ويرون في الحيف والأذى اللاحقين به عاراً يلحق بالجبل كله، ومن ثم بالطائفة كلها. وقد أطرى الرحالة الذين زاروا جبل لبنان في القرن التاسع عشر هذه الميزة وأثبتوا بعض شواهدها. إلا أن هذه الميزة برزت بروزاً أقوى في دروز حوران لاتحادهم المتين، ولبعد جبلهم عن متناول يد الطالب، سواء أكان دولة أو عشيرة، خصوصاً إذا أخذنا بعين الإعتبار أن أكثر سكان الجبل هم “لاجئون” أيضاً وجيران لمن سبقهم إليه.
فإذى “المفزع” “طالب النجدة” أو أضرمت النار في رؤوس الجبال فسرعان ما تتحّول المنطقة كلها إلى ساحة حرب، قبل أن يسألوا عن الأسباب والوجهة، وقد يسيرون على وجوههم مسرعين، كعاصفة هوجاء نحو الجهة التي يهب منها الخطر بلا مشورة أو خطّه معينة. كل قرية يتقدمها بيرقها وخيالتها ولاعبو المجوز يثيرون الحماسة. وقد يحدث أن يسبق المشاة الخيل في الإنقضاض على العدو، كما يحدث في موقعة الكفر “21 تموز 1925” نظراً لصعوبة المسالك وخفة الرجال وحميتهم.
وأهل القرية إذا سمعوا صوت المفزع لا ينتظر بعضهم بعضاً فهم يعرفون جيداً أن أحداً منهم لن يتخلف. ويعرفون ذلك منذ كانوا صغاراً يرددون من على النورج:
وإن فزعنا تكامل فزعنا.. وسرعة الحشد، هذه مزية من مزايا الدروز عامة، توارثها الخلف عن السلف غير أنها ازدادت في دروز حوران لكثرة تعرضهم لغزو الغزاة واعتيادهم ردّ الغارات وإذا أقبلت “صربة” “جماعة ، سرب” منهم على “صربة” أو لحقت بها، ثارت النخوات وخرس البارود، وتعالت الأصوات: النشاما بني معروف، بيعوا “أي بيعوا أرواحكم” ولهم في ذلك ترتيب خاص، وهتافات خاصة، تلهب الصدور حماسة”.
وهذه الانعزالية والتعرض الدائم للغارة ورد الغارة، جعلاهم يصادقون السيف صداقة فيها الكثير من الإعجاب والإعتزاز، فيقول شبلي الأطرش من قصيدة حكمية، يتبع فيها ترتيب حروف المعجم:
عالسين، سيفك لا يفارق وسادتك… ويردد هذا القول جماعة من زعماء الثورة في أواخر 1925، في قصيدة مشتركة:
من خبرة بين الملا والتجاريب ما إلنا صديق يا رفاقي سوى السيف
وإذا رجعت إلى صور وجهائهم في كتاب أبي راشد، جبل الدروز مثلاً، رأيت هذا السيف ملازماً لأكثريتهم الساحقة، حتى أن بعضهم قد يأخذ لنفسه صورة ويده على مقبض السيف إذ “من كان أعزل من سلاحه فريسة”.
ومع ذلك اعتاد دروز جبل حوران أن يقاتلوا متساندين، الأسلوب العربي التقليدي، فلا يقاتل المحارب تحت بيرق غير بيرق بلده فإذا سقط بيرق بلده أو تراجع فإنه يتراجع معه، غالباً، ولو كانت المعركة لا تزال مستعرة.
انظر:
سلامة عبيد: فرنسا تفرض نفسها.. (1)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. مغامز صك الانتداب (2)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. مخالفة فرنسا لصك الانتداب (3)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. سلطات المفوض السامي (4)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. تغيير المفوضين (5)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. التجزئة (6)
سلامة عبيد: الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى عام 1925 (7)
سلامة عبيد: الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى 1925 – حب الاستقلال والحرية (8)
سلامة عبيد: الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للثورة السورية الكبرى- العوامل الاقتصادية – التجارة (9)
سلامة عبيد: جبل حوران – المنطقة والسكان .. لمحة جغرافية (10)
سلامة عبيد: جبل حوران – السكان (11)