بدر الدين تلجبيني – التاريخ السوري المعاصر
في أعوام الخمسينات و الستينات من القرن الماضي كان في مدينة أعزاز الكثير من الباعة الجوالين ، يجوبون الشوارع لا يسأمون ، يبحثون عن لقمة عيشهم بتعب الأجساد وعرق الجبين ، فيعودون إلى بيوتهم عند المساء والنقود في جيوبهم لها رنين ، فينعمون باللقمة الحلال وينامون ليلهم هانئين .
1 – الحاج عمر حواره :
رجل قوي الشخصية ، خفيف الظل لطيف المعشر ، يعتمر عمامة بيضاء ويتمركز في مدخل السوق الشمالي على زاوية دكان ( عبد الله الشوا ) فيبيع في فصل الصيف ( شراب التمر الهندي وشراب الليمون) وفي فصل الشتاء يبيع الحلويات ( الشعيبيات ) فينادي على بضاعته باسلوب منغّم وحنون ، ففي فصل الصيف ينادي : (تمر هندي بارد) (سلطان الشرابات التمر هندي) (انا بيّاع العسل يا وليد) (للشوبه دواا التمر هندي للشوبه دوا) وينادي على شراب الليمون : (قرّب علينا هلّق عبّينا من جبل المعمل) ( يا ليمون بارد) ، وبين الحين والآخر كان يقوم بجولة في شارع السراي حيث يبيع للعطشانين من مرتادي السراي الحكومية وطلاب مدرسة ابن المقفع وركاب الكراج .
أما في فصل الشتاء فيبيع الحلويات ( الشعيبيات ) وينادي على المحشوة ( باللبه ) : ( شرمه وكرمه طيبات يابو . !! ) و على المحشوات بالجوز : ( امهات الجوز جوزيات ) فيبيع القطعة الكبيرة بخمسة وعشرون قرشا ( ربع الليرة ) والقطعة الصغيرة بعشرة قروش ( فرنكين )
وقد خلفه في المصلحة صهره ( الحاج زكور ناصر ) في نفس الاختصاص ونفس المكان .
2 ـ الحاج حماده الياسرجي ( حماده القوج ) :
رجلٌ نحيف البنية نشيط الحركة ، يطوف شوارع المدينة كل يوم حاملاً إبريقا كبيراً مليئاً بالسحلب الذي كان يصنعه بنفسه في المنزل من الحليب والنشاء وماء الزهر ومواد اخرى منكهة ، فينادي بصوته المعروف ( سحلب سخن سحلب) (كريم المولى كريم ) وكان السحلب ساخناً بالفعل ، وذلك بفضل جمرات الفحم الموضوعة في حجرة أسفل الإبريق ، فيهرع الأطفال إليه حاملين الطاسات النحاسية ليشتروا (بفرنك وبفرنكين) فيرش على وجه الطاسة مسحوق القرفة فتفوح رائحة زكية ، وطالما حاولت الأمهات طبخ السحلب في المنزل لكنه لم يكن يرقى إلى سحلب (الحاج حماده) الذي يتميز بنكهته اللذيذة التي هي (سر المهنة) ويعود الرجل من جولته ظهراً بعد أن يبيع كل ما لديه من (سحلبات) وتمتليء جيوبه بالنقود المعدنية من الليرات والفرنكات .
3 ـ السواس ( ابو صباح) :
كان يتميز ببشاشة الوجه وبالإبتسامة الدائمة ، فيخرج من منزله كل صباح حاملاً على خصره خزان السوس المعدني الذي ( تقرقع ) داخله قطع الجليد ، ويرن بطاساته النحاسية التي تعلن عن قدومه ، فيطوف شوارع المدينة ويتوقف للحظة أمام باب كل الدكان من دكاكين السوق ، فاذا ما طلب منه ربّ العمل سوساً سقاه ، وان ( طنّش ) ولم يطلب ولاحظ ابو صباح أحد الأطفال ينظر إليه ناداه : ( تاااع ) !! وسكب له في الطاسة النحاسية قليلاً من السوس ( مجانا ) فيطير الصبي فرحاً ، وتطير اسنانه أيضاً من شدة برودة السوس ، ويلاحظ أبو صباح ذلك فيقول له : ( عمهلك ابني ..اشربها على مهلك روحي ..!! )
4 ـ الحاج محمود ياسرجي الملقب ( القوج ) :
رجل متّزن يتميز بالمرح والجدية معاً ، كان يحمل قفتين كبيرتين .مليئتان بالإكسسوارات النسائية من أساور وأقراط وعقود من الخرز اللماع وحباسات ، وشكلات الشعر والمكياجات ومختلف انواع الإيشاربات) ،يطوف بهما شوارع البلدة منادياً : ( فتّح زهور …صلوا على الرسول ) ، كان ( الحاج محمود ) محبوباً من الجميع بسبب سماحة وجهه وتحمّله وصبره ، وعندما كان يأتيه صوت من أحد المنازل : ( عمهلك عمو .. !! ) يتوقف فتخرج مجموعة من النساء والفتيات اليافعات ، ويتحلقن حول سلال الحاج محمود ، وتمد إحدى الفتيات يدها داخل السلة فيقول لها : (عمهلك بنتي !! لا تمدي ايدك انا بعطيكي …بدك حلق ..؟؟ هادا الحلق بنص ليره ، و هاد بليره ..أغلى شوي ) ،فمن النسوة من كنّ يدفعن له نقداً ، ومنهن من كنّ يدفعن قسماً ويتركن الباقي ديناً عليهن إلى الغد ريثما يأتي الزوج ، فيقبل الحاج محمود ويسجل ذلك في الدفتر بطيب خاطر !!، ويعود لينادي ثانية وما أحلاها من مناداة ( فتح زهووور صلوا على الرسول !!)
وعند المساء يخفّ حمل السلات وتمتليء جيوب الحاج محمود بالرباع والنصاص والليرات ، رحم الله ايام البساطة والمتعة ، وطاسة السحلب الشهية ، وكأس السوس وطعم الشعيبية
انظر:
بدر الدين تلجبيني: رحلة الى السينما في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: دخول القوات الفرنسية إلى أعزاز عام 1920
بدر الدين تلجبيني: أيام شهر رمضان في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: نجارة المحاريث القديمة في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: حديث عن مدرسة ابن المقفع في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: السرايا الحكومية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: جولة في ليل أعزاز
بدر الدين تلجبيني: الزودة في قديم أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المولد النبوي الشريف في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: مقاهي أعزاز
بدر الدين تلجبيني: عيد الأضحى في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المصارعة الزيتية في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: خان بيع الحبوب في أعزاز