قراءة في كتاب
قراءة في كتاب (التأثيرات الإجتماعية والسياسية للعائلات في سورية العثمانية – آل الأتاسي في العهد العثماني)
يلمس الباحث في الأرشيف العثماني أن الدولة العثمانية كانت دولة أرشيف لم تترك أي تفصيل في إداراتها وولاياتها دون توثيق وأرشفه، وبالتالي تكمن أهمية هذا الأرشيف في أنه يعكس لنا الصورة الحقيقية للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مختلف المدن والولايات العثمانية بما فيها ولايتي سورية وحلب.
كثيرون ينتقدون العودة إلى هذا الأرشيف والغوص فيه يدفعهم على ذلك قناعات قامت بعض السلطات السياسية في بلدانهم بتكريسها وهي أن العودة إلى الأرشيف العثماني عودة إلى العهد العثماني. ولكن سرعان ما تتغير قناعاتهم عندما يجدون أن الأرشيف العثماني يضم أرشيفهم الوطني، فهو يوثق حياتهم الإجتماعية ويذكر بالتفصيل حوادث وأخبار لم تدون حتى يومنا هذا. وربما يصل المرء إلى قناعة بأن الكثير من وثائق الأرشيف العثماني في حال تمت ترجمتها وصارت متاحة للإطلاع والنشر لشكلت عاملاً مهماً في تخفيف حدة الصراعات الداخلية والبينية.
ضمن هذا الإطار أصدر الباحث والصديق فارس الأتاسي مؤخراً كتاب التأثيرات الإجتماعية والسياسية للعائلات في سورية العثمانية – آل الأتاسي في العهد العثماني- دراسة إجتماعية سياسية من الأرشيف العثماني الذي يعد من أهم المبادرات في ترجمة ونشر تلك الوثائق.
لم تكن الغاية من هذا الكتاب إظهار أهمية عائلة الأتاسي إلا ان دراسة هذه أحوال ومعاش هذه العائلة يقدم تصوراً يساهم في كتابة تاريخ حمص، ولاسيما أن الأرشيف المحلي الرسمي والأهلي للمدينة قد تعرض للكثير من الإهمال وعدم التوثيق، وبالتالي موضوعات الكتاب لا تعتبر محصورة في تاريخ عائلة بل تعكس الحالة الإجتماعية الاقتصادية والسياسية لمدينة حمص في العهد العثماني.
أستند الباحث فارس الأتاسي في كتابه على أسس نظرية تختلف باختلاف مجالات البحث وفتراته، ففي مجال دراسة المدينة؛ بدأ في كل فترة من فترات البحث بسرد السياق التاريخي العام في السلطنة العثمانية والأحداث في العاصمة اسطنبول والجبهات العسكرية النشطة، لرصد تأثير الظروف التاريخية على مناطق السلطنة. وأخذ بتضييق النطاق المكاني للبحث شيئًا فشيئًا، بدءًا من الوضع العام للدولة، ثم أوضاع المنطقة السورية، فأوضاع مدينة حمص. محاولاً تقدير تصور حول انعكاسات الأحداث في العاصمة والجبهات العسكرية على حمص ونسيجها الإجتماعي الذي أعمل ايضا على تحليله ورصد التغيرات فيه بشكل مفصّل مع كل حقبة جديدة، وما حملته تلك التغيّرات الاجتماعية والعائلية، التنافس على المناصب، الصراع على النفوذ، وتكوّن مفهوم “العائلة” في حمص وتطوّره المستمر حتى نهايات العهد العثماني، ومظاهر ذلك التطور كالأوقاف الذرية والزواج العائلي وتراكم الثروات والأملاك.
كما خصص الكاتب حيزاً لمحاولة تقييم وتأثير دور بعض الشخصيات المشهورة من عائلة الأتاسي في النسيج الإجتماعي للمدينة، رافق هذا التقييم دراسة مفصلة لمدينة حمص لفهم طبيعة هذا التأثير وقياسه.
ثم انتقل الكاتب إلى دراسة عائلة الأتاسي في حمص، وتحليل جذورها التاريخية، وهنا نجد أنه أطلق ما يسمى فكرة “الإرث العلمي” على أهم محاور الكتاب وهو “منصب الإفتاء”، الذي تميّز بإمكانية توريثه ضمن العائلة في تلك الظروف وما جاء بعدها.
هذا الكتاب الوثائقي جاء بـ 455 صفحة من القطع الكبير، وصدر عن دار نشر الأصالة باسطنبول، تحت رعاية جمعية الأتاسي في تركيا للتعليم والثقافة والدعم الاجتماعي.
ضم الكتاب خمسة فصول، يبحث أولها في جذور عائلة الأتاسي في سورية عمومًا وحمص خصوصًا. وخصّص الفصل الثاني للحديث عن أول مفتي في تاريخ حمص الشهاب شمس الدين أحمد الأتاسي ولقائه بالسلطان سليمان القانوني في حلب.
أما الفصل الثالث فتناول دراسة دقيقة ومفصّلة لأهم مصدر تاريخي محلّي في حمص وهو مذكرات محمد مكي السيد، حيث عمل الكاتب على تفنيد وتحليل متقن لمضمون الكتاب، كما قاطع بعض المعطيات الواردة في اليوميات مع ما ورد في دفاتر الأحكام السلطانية (دفاتر المهمة) المحفوظة في الأرشيف العثماني، والتي تمثل منظور الإدارة المركزية في العاصمة اسطنبول.
تناول الفصل الرابع أوضاع حمص في أواخر العهد العثماني عندما بدأت الدولة تعتمد على الولاة المحليين ذوي النفوذ الواسع والصلاحيات المطلقة، مثل آل العظم، ويسرد تفاصيل وتطور عدة شخصيات بارزة من عائلة الأتاسي مثل مفتي حمص وطرابلس الشام ابراهيم الأتاسي، وابنيه؛ ياسين الأتاسي مفتي طرابلس، وعبد الستار الأتاسي مفتي حمص.
أما الفصل الأخير؛ فيرصد التغيرات في هيكل الدولة العثمانية عقب إقرار فرمان التنظيمات (1839) الذي أعلن مرحلة جديدة في الدولة بما تضمنّه من إصلاحات وتحديثات في النظام السياسي والإداري، والذي انعكس بشكل مباشر على ولاية سورية ومدينة حمص، فتناولنا الكاتب فيه تأثيرات ذلك على النسيج المجتمعي الحمصي وتعامل النخب المدينية مع المجالس والدوائر المحلية التي تم استحداثها، وما جلبته من مفاهيم حديثة على المجتمعات السورية الداخلية كالإنتخاب والمساواة.
من خلال هذه الفصول يستطيع القارئ أن يلمس المقدار الهائل الذي اعتمد الكاتب عليه من وثائق الأرشيف العثماني الرسمي (BOA) التابع لرئاسة وزراء الجمهورية التركية، وما يحتويه على تصنيفات مختلفة. ففي دراسة الفترة الأولى من العهد العثماني اعتمد بشكل كلّي على دفاتر التحرير العثمانية ودفاتر الطابو والمفصّل المحرّرة بخطّ المالية (السياقات)، وتمكّن بحكم الخبرة الأرشيفية التراكمية من فك خط المالية ورموزه التي تستعصي على أغلب الباحثين. أما بالنسبة للفترة التالية (1650-1750م) فقد كانت دفاتر الأحكام السلطانية (دفاتر المهمة) المرجع الأهم، حيث تمكن من خلالها من مقاطعة المعلومات في المصادر المحلية بالمعلومات الواردة ضمن الأحكام والأوامر السلطانية الصادرة من الإدارة المركزية. وفي الفترة الثالثة (1750-1830) التي ضعفت بها القبضة المركزية للدولة، تداركنا المعلومات من خلال وثائق الإقطاع والمبايعة والمقبوضات التي لا يتجاوز بعضها حجم الكف، بالإضافة إلى وثائق الخط السلطاني (خط همايون) المُرسلة من السلاطين إلى الوزراء والولاة ذوي الصلاحية الواسعة. أما في فترة التنظيمات العثمانية وما بعدها (1839-1918م) فقد اعتمد على كافة التصنيفات الموجودة في الأرشيف العثماني، وكانت معلومات تلك الفترة هي الأكثف، لأنه اعتمد في تلك الفترة كذلك على أرشيف المشيخة التابع لمديرية الإفتاء في اسطنبول (Meşihat Arşivi)، بالإضافة إلى ما توفّره لنا مكتبة أتاتورك ( İBB Atatürk Kitaplığı) التابعة لبلدية اسطنبول الكبرى من مراجع نادرة.
ومن الأهمية بمكان القول أن هذا الكتاب يعتبر أول كتاب تاريخي من الأرشيف العثماني عن مدينة حمص، وكذلك يعد المساهمة الأولى في دراسة البنية المجتمعية في حمص علميًا ووثائقيًا بالمنطق السوسيولوجي، وهذا ما يدفعنا إلى أن نتمنى أن نرى ونقرأ دراسات مشابهة عن بقية المدن والمحافظات الأخرى في سورية.