شهادات ومذكرات
من مذكرات أكرم الحوراني – كيف كانت بنية المجتمع وشكل الاقتصاد في حماه عام 1943؟
من مذكرات أكرم الحوراني (11 /102)
من مذكرات أكرم الحوراني – كيف كانت بنية المجتمع وشكل الاقتصاد في حماه عام 1943؟
أولاً: قبل الحرب العالمية الأولى، وفي أواخر العهد العثماني كان في حماه أكثر من خمسمائة محترف للنسيج وكان للنسيج الحموي شهرة واسعة لاسيما في صناعة الشراشف والمناشف وصايات الحرير، ولا يزال البعض يقصدون حماه إلى يومنا هذا للحصول على مناشف من المصنوعات اليدوية..
وكان لحماه، بالإضافة إلى الحركة الصناعية، تجارة مزدهرة مع الأناضول. كما ذكرت ذلك في الفصول السابقة، وبعد الانتداب توقفت تلك الحركة الصناعية والتجارية وأصبحت حماه تعيش على الزراعة وتربية الأغنام، أي ما يسمى بالاقتصاد البدوي الريفي القلق المضطرب المستند على زراعة بعلية مهددة بالقحط لأي عامل طبيعي، وعلى تربية الأغنام المهددة بالهلاك في سني الجدب لفقدان الكلأ والماء وفي سني الخصب عند تراكم الثلوج في الشتاء.. ولقد عرضت لمحة عن مدى بؤس المدينة لاعتمادها على هذا النمط من الاقتصاد.
فقد كانت حماه، شأنها شأن دير الزور وبعض المدن السورية الأخرى التي تعيش على حافة الرمق الأخير.. وما بين عامي 1920 – 1940 هاجر من حماه إلى حمص أكثر من عشرين ألفاً. أما المدن السورية الأخرى فكانت أحسن حالاً إلى حد ما. فدمشق هي العاصمة، واقتصادها الزراعي مستقر ثابت بفضل الزراعة المسقوية في الغوطة. وحلب لم تتأثر اقتصادياً إلا بعد ضياع لواء الاسكندرون وانغلاق طريق تجارتها على البحر، فتوجهت إلى العراق، وحمص عقدة مواصلات، وفيها مركز لشركة نفط العراق، وأبناؤها المغتربون في المهجر يرسلون إلى ذويهم بعض الأموال.. وإنما كان يتمثل البؤس والتناقص الاقتصادي بأجلى مظاهرة في مدينة حماه.
ثانياً: كان ثمة تناقض حاد بين المدينة والريف، على الرغم من اعتماد اقتصاد المدينة على الريف وعلى الرغم من أن الكادحين في المدينة كانوا يمتازون بالجرأة والطهارة والاستبسال. وهذا التناقض يتجلى في استعلاء أبناء المدينة، بمن فيهم الكادحين، على أبناء الريف الفلاحين.
كان الفلاحون جميعاً – بلا استثناء- كالأغنام وراء إرادة الإقطاعية، لا يجرؤ أي إنسان في المدينة أن يذهب إليهم ويبشر في صفوفهم. وحتى المخاتير ووجهاء الفلاحين في القرى التي يملكها الفلاحون كانوا تبعاً وأزلاماً للإقطاعيين، وكان بعضهم أشد شراسة في مقاومة الحركة الشعبية من أسيادهم إقطاعيي المدينة، لذا كانت أصوات الفلاحين “تصب” في صناديق الاقتراع لصالح الإرادة الإقطاعية، وهي أصوات لا تقل كثيراً عن أصوات المدينة. هذا مع العلم بأن الأسر الأقطاعية في حماه (آل البرازي، الكيلاني، العظم، طيفور، العاشق، وعدد آخر من الأسر والعصبيات الملكة الأخرى) تمتلك أكثر من ثلاثة أرباع الريف في قرى مدينة حماه.
كان تيار الفكرة الشعبية، منذ جهود الدكتور صالح قنباز الذي استشهد في ثورة 1925 ورفيقه الدكتور توفيق الشيشكلي يضم كل الفقراء الكادحين والضعفاء والطلاب وقسماً من البورجوازية الصغيرة الضعيفة النفوذ والجرأة، والمتدينين غير المحترفين من أبناء الشعب، لاسيما الذين تأثروا بدروس الشيخ سعيد الجابي في الثلاثينيات الذي كان حرباً على الخرافات الدينية وأصحاب الطرق. وقد توفي بعد ذلك وهو على أشد الخلاف مع معظم المشايخ الذين تألبوا عليه وناهضوا دعوته، وكان تيار الفكرة الشعبية يضم أيضاً صغار التجار الطيبين المحترمين، والحرفيين والباعة الصغار، وأبناء الأسر العريقة التي يرجع تاريخ بعضها لأكثر من أربعمائة عام. وكانت هذه الأسر المحترمة والمتحضرة والمعروفة بأخلاقيتها تشكل ركائز الحركة الشعبية في الأحياء، وبالمقابل كان يدعم الحركة الإقطاعية ويؤازرها الأسر ذات الملكيات الكبيرة، ممن كان معظمهم تجاراً في الأساس، وأبناء الأسر التي تملك عقارات أو بساتين في المدينة وضواحيها،ومعظم رجال الدين والمشايخ بسائق المنفعة والمصلحة. كما كان يؤيدهم أرباب العصبيات العائلية الكبيرة وهؤلاء رغم فقرهم كانوا يتقربون من الإقطاعيين لتحقيق بعض المنافع وليستمدوا من نفوذهم ما يجعلهم متسلطين على الشعب، وكانت هذه العصبيات تمارس طغياناً وعدواناً واستعلاء على الفقراء بشكل أقبح مما كانت تمارسه الطبقة الإقطاعية.
تلك كانت صورة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في حماه سنة 1943.. فما هي “الفكرة الشعبية” في أذهان الجمهوري ووعيه، وماذا كانت تعني الإقطاعية في نظره؟
كانت الفكرة الشعبية تعني، بنظر الجماهير الفقيرة البائسة، قيماً وطنية وسياسية وأخلاقية ودينية أكثر مما تعني قيماً مادية.
كان القضاء على الإقطاعية يعني، بنظر ابن المدينة، أن يصبح حراً محافظاً على كرامته مساوياً للآخرين في الاعتبار، كان إلغاء الإقطاعية في نظره يعني إلغاء الاعتداءات والجرائم والنهب والسرقات والارتكابات، وكان يبني موقفه هذا على قيم دينية راسخة.
كان إلغاء الإقطاع في نظره يعني إلغاء النفوذ غير المشروع والسيطرة غير المبررة، لإيجاد مجتمع نظيف يكون فيه المواطن حراً بانتقاء قياداته وممثليه السياسسن. لأن الإقطاعية تستند في نفوذها إلى ممالأة الأجنبي والسير بركابه، إن وجودالإقطاعية يتنافى مع القيم الدينية التي تدعو للجهاد في سبيل التحرر من الأجنبي . كما أن سيرة الرسول والخلفاء وأبطال الإسلام تمد المواطن بنموذج حي للقيم السياسية والأخلاقية والدينية التي تتنافى كلياً مع الوضع الذي كان يعيشه هذا المواطن الفقير أو الطالب أو المثقف الذي اتصل إلى حد ما بحضارة العصر وبقيمه.
لكن لم يكن واضحاً في أذهان الشعبيين آنذاك دور الإقطاع المادي بالريف في خلق الإقطاع السياسي بالمدينة. ولم يكن يخطر في بال أحد من الشعبين أن زوال الإقطاع السياسي في البلاد، لتحقيق ما تطمح إليه الجماهير من استقلال وديمقراطية وما تصبوا إليه من قيم أخلاقية وسياسية وكرامة إنسانية، لا يمكن أن يتحقق طالما أن هذا الإقطاع السياسي يسند إلى الإقطاع المادي في الريف وما لم يتحرر الفلاحون من نيره، وطالما أن الجماهير البائسة في المدينة – والتي كانت تمارس استعلاء على الفلاحين – لا تنظر إلى هؤلاء الفلاحين على أنهم حلفاؤها في معركة تحطيم كابوس الإقطاع الجاثم على رقاب الفريقين معاً.. لم تكن هذه المعادلة واضحة في أذهان الناس.
من هذه المنطلق بدأ نضال حزب الشباب. وفي هذا العمل الثوري تتجلى المعجزة التي حققها خلال ست سنوات بتفجير بركان ثورة الفلاحين في سورية مما سترد تفاصيله في وقائع سنة 1949 وما تلاها.
لقد كان نضال حزب الشباب مستنداً على هذه القاعدة الواضحة والمعادلة الصحيحة: لا يمكن للمجتمع العربي الزراعي المتخلف أن يتحرر من الاستعمار الخارجي إلا بالقضاء على الإقطاعية السياسية إلا بتحالف الفقراء الكادحين في المدينة مع الفلاحين في الريف في حركة نضالية واحد باسلة لبناء المجتمع الجديد.
انظر :
من مذكرات أكرم الحوراني (101) – منعطف حاسم في مسيرة حياتي
من مذكرات أكرم الحوراني (100) – على هامش معركة الانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (99) – شكري القوتلي يوافق ويبارك
من مذكرات أكرم الحوراني (98) – لجنة الإصلاح في حماة 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (97) – موقف الكتلة الوطنية من انتخابات حماة عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (96) – طبول فتنة دامية
من مذكرات أكرم الحوراني (95) – انفجار الشعار الحاسم
من مذكرات أكرم الحوراني (94) – ترشيحي للانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (93) – ترشيح عثمان الحوراني لانتخابات عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (92) – جولة شكري القوتلي الانتخابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (91) – بدء النفوذ البريطاني في سوريا
من مذكرات أكرم الحوراني (90) – القوتلي ينطلق من سياسة التعاقد مع فرنسا
من مذكرات أكرم الحوراني (89) – عودة الحياة الدستورية للبلاد
من مذكرات أكرم الحوراني (88) – انهيار الكتلة الوطنية في عهد الشيخ تاج
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: