وثائق سوريا
كلمة عبد السلام العجيلي في حفل تكريم ألفة الأدلبي عام 1993
كلمة الدكتور عبد السلام العجيلي في حفل التكريم الذي أقامته مجلة الثقافة للأديبة ألفة الأدلبي تحت رعاية نجاح العطار وزيرة الثقافة في مكتبة الأسد في يوم الأربعاء السابع والعشرين من تشرين الأول عام 1993م.
نص الكلمة:
سيدتي الوزيرة راعية الحفل، سيداتي وساتي
على الرغم من محبتي للزهور، لابد لي من الإقرار بأن معرفتي بأنواعها وصنوفها وبأسمائها معرفة ضعيفة ومحدودة، يرجع ذلك إلى أني أبن بادية لم أعرف في صغري غير الورود البرية التي ما تطلعها أمطار الشتاء القصيرة أياماً حتى تجور عليها الشمس المحرقة وتهب عليها ريح السموم في القيظ فتذبل وريقاتها الناعمة وتتهافت متساقطة بأسرع مما طلعت وتفتحت.
وحين تفضلت عليّ اديبتنا الكبيرة التي نحتفل بتكريمها في هذه الأمسية وأهدتني، منذ سنوات عديدة، مجموعة محاضراتها، “المنوليا في دمشق” رجعت إلى قواميسي لأتعرف على المنوليا، هذه الزهرة الغريبة عني، ولأرى لماذا آثرت المؤلفة أن تسمي الليدي جين ديكبي، الشخصية الرئيسية في المحاضرة الأولى من تلك المجموعة، باسم هذه الزهرة، وجدت المراجع التي عدت إليها تقول عن شجرة المنوليا وأزهارها ما يلي:
“المنوليا نباتات رائعة، منظرها الأنيق وأوراقها اللامعة البراقة المتينة في نسجها، المتقابلة بانتظام على جانبي كل غصن منها، وأزهارها الكبيرة الناصعة البياض ذات الرائحة العطرة، تجعلها مرغوبة بكثرة كنبات زينة في الحدائق والمنتزهات”.
اذا فهذه هي المنوليا وهذه زهرتها، جاءت الليدي جين ديكبي بهذه النبتة من بلدها انكلترا، فغرستها في دار بنَتها لنفسها في حي مسجد الأقصاب من هذه المدينة في منتصف الخمسينيات من القرن الفائت، القرن التاسع عشر نَمت شجرة المنوليا في صحن تلك الدار وترعرعت وعاشت عشرات السنين حتى شهدتها السيدة إلفة بعينيها وملأت يديها من أزهارها العطرة في سنين متعدة. وانتهت بأن أوحت لأديبتنا بمحاضرتها لنا عن تلك السيدة الانكليزية الليدي جين ديكبي، هذه السيدة سليلة الأسرة البريطانية العريقة أصبح اسمها، بزواجها من اللورد النبرو، ليدي آلنبرو. ثم صار اسمها البارونة فينيغين، باسم زوجها الثاني النبيل الألماني البافاري، البارون فينيغن. وتغير اسمها مرة أخرى فأصبح الكونتيس ثيوتوكي بزواجها الثالث بالكونت اليوناني ثيوتوكي. تعددت أسماؤها، كما تعددت ألقابها، بتعدد الأزواج وبتبدل العشاق. وكأن السيدة إلفة أرادت أن تخرج ببطلة المنوليا.. محاضرتها من هذه البلبلة في التسميات فآثرت أن تطلق عليها اسم الزهرة التي غرست شجرتها في تلك الدار من حي مسجد الأقصاب فسمتها المنوليا، المنوليا في دمشق.
من يقرأ منكم محاضرة السيدة إلفة الأدلبي عن المنوليا في دمشق لابد أن يلفت نظره ما لفت نظري من التسامح والعطف اللذين تحدثت بهما عن تلك الانكليزية الغريبة في نشأتها وطباعها وأسلوب عيشها غرابة أوصلتها إلى الشذوذ. كانت الليدي جين امرأة بارعة الجمال فائقة الذكاء واسعة الثقافة، حادة النزوات، مغامرة حتى المخاطرة، ومعشاقة حتى التهتك، تحدّت قيم مجتمعها وأعرافه، وجهرت بالتحدي غير مصغية إلى عاذل أو لائم أو مستنكر، ومع ذلك فإن السيدة إلفة روت سيرة هذه المرأة بطريقة جعلتنا نرق بها ونعجب بها ونلتمس لها الاعذار في سقطاتها. لقد تساءلت، بيني وبين نفسي، عما دعا أديبتنا إلى أن توحي إلينا بالتغاضي عن أخطاء الليدي جين وآثامها وهي لم تقصر في تعدادها لنا. أتراها عصبية الجنس هي التي ساقتها إلى محاولة إقناعنا بأن المسؤولية في انحراف المرأة، في كل الظروف والأزمان، تقع على الرجل الذي يدفعها بسوء فهمه أو بسوء تصرفه إلى ذلك الانحراف؟ أم ترى أن قاصتنا الكبيرة، مدفوعة بمزاجها الأدبي وروحها الفنية، وجدت في الليدي ديكبي نموذجاً إنسانياً متميزاً فاستهوتها شخصية هذه الامرأة الجميلة والذكية وساقها ذلك إلى أن تسرد علينا أخبار مغامراتها وساقها ذلك إلى أن تسرد علينا أخبار مغامراتها ورحلاتها وزيجاتها بهذه الروح المتسامحة والنظرة المتعاطفة؟ أم أن دافع هذه التسامح كان التطور الذي لحق سلوك هذه السيطة النبيلة في مولدها الأفاقة في حياتها ، في الشطر الأخير من عمرها، حين هجرت موطنها أوربا تاركة ورائها ما اقترفت فيها من أخطاء، وجاءت إلى دمشق فسكنتها وأصبحت لنا “كنة ” فيها؟
ذلك أن الليدي آلنبرو، البارونة فينيغن، الكونتيس ثيوتوكي، آثرت بعد أن ملت حياتها العاصفة، وكانت لا تزال في زهوة عمرها في الخامسة والأربعين أو السادسة والأربعين، آثر أن تعجر السكن في قصور لندن وباريس وميونيخ وفينا وآثينا، وأن تجعل مسكنها الأخير عندنا في سورية. كما آثرت على الزواج من ذوي الدم الأزرق، لوردات وبارونات وكونتات، وعلى العشاق من ملوك وأولياء عهد، آثرت على كل أولئك فارساً عربياً جميلاً في خلقه نبيلاً في خُلقه، هو الشيخ مجول المسرب من عشيرة السبعة العنزية. تزوجت هذا الفارس الجميل والنبيل، وطلقت أوربا وحياة الطيش والترف فيها إلى حياة طاهرة نقية بين مضرب بدوي في بادية الشام ودار عربية في حي مسجد الأقصاب في دمشق.
قد يكون هذا أو ذاك أو السبب الآخر هو ما دفع السيدة إلفة إلى أن تعطف على الليدي جين ديكبي، وأن تقنعنا نحن بالعطف على هذه الإنكليزية المغامرة، وبالتغاضي عن كل ما اقترفته قبل زواجها بمجول المسرب، وهذا هو اسمه الصحيح وليس كما تسميه بعض المصادر الأجنبية عبد المتجول المسراب. نعم، لقد أصبحت الليدي جين زوجة وفية قانعة في كنف فارسها العربي، تشاركه في غزوات قبيلته للقبائل المعادية وتعود إلى مضربها فتطهو له بيدها الطعام وتمسح عن وجهه الغبار وتغسل له قدميه قبل أن ينام.
وحين يؤوب معها إلى دمشق كانت تعيش معه حياة حضرية كحياة سكان هذه المدينة العربية المسلمة في الدار التي بنتها وزرعت فيها شجرة المنوليا. ولهذا أطلقت أديبتنا على الليدي جين اسم زهرتها المحبوبة: زهرة المنوليا.
المنوليا.. أعود إلى تذكر مازودتني به مراجعي عن هذه الزهرة وعن شجرتها: هي نبتة رائعة، منظرها الأنبيق وأوراقها المتينة في قوامها، البراقة اللامعة، وأزهارها الكبيرة الناصعة البياض ذات الرائحة العطرة، تجعلها مرغوبة بكثرة كنبات زينة في الحدائق والمنتزهات.. تريدين الصحيح يا سيدتي؟ على الرغم من كل ما تحدثت به لنا عن الليدي جين ديكبي بعطف ومحبة، وما أوحيت به إلينا عن تسامح عنها، جدك قد أخطأت في تسميتها باسم زهرتها البرئية الطاهرة، الناصعة البياض، العطرة البعق جدار بهذا الأسم أن يطلق عليك أنت يا سيدتي الكريمة. أنت النبة الرائعة، النبيلة المنظر والمخبر، والزهرة الناصعة البياض التي تفعمنا نحن أصداقءها ومعارفها وقراءها بعطر الفن العبق والتي تزيدن بإبداعها حدائق فكرنا ومنتزهات ثقافاتنا، تحياتنا إليك يا منوليا دمشقية أصيلة غير مجتلبة ولا مهجنة، وكل تمنياتنا بأن يمتعك الله بالصحة ويمنحك القوة، وبأن يديم لك التفوق في الابداع والعطاء، والشكر بعد ذلك كل الشكر إلى الصديق الكريم عميد دار الثقافة الأستاذ مدحت عكاش الذي أتاح لنا هذه المناسبة لنقول فيها كلماتنا البسيطة عنك، متضمنة قناعات تفكيرنا وعاطفة قلوبنا.
والسلام عليكم.
د. عبد السلام العجيلي