من مذكرات أكرم الحوراني – انفجار الشعار الحاسم:
كان التأييد الجماهيري يتعاظم بقدر ما كان موقفنا واتجاهنا يتحدد تحديداً قاطعاً من الطبقة الإقطاعية، كان الشعب في غاية الحساسية لكل كلمة تقال أو شعار يطلق. كان منفتح الذهن والقلب. مستعداً للبذل والتضحية، لاسيما بعد أن شعر بالأموال التي بذلها الإقطاعيون لشراء الضمائر.
وفي أحد اجتماعاتنا الانتخابية في جامع سوق الشجرة كنت أول الخطباء، وليس لدي الآن نص الخطاب ولكنني بأنني بدأته بما قاله الرسول عندما دخل مكة ظافراً وبدا يحكم الأصنام حول الكعبة قائلاً: “شاهت الوجوه” فقلت شاهت الإقطاعية.. وشاهت وجوه الإقطاعيين.
واعتبرت هذه الحفلة يوماً مظفراً للقائمة الشعبية على الإقطاع والرجعى، ونددت بما يفعله الإقطاعيون من شراء ضمائر المواطنين بالأموال التي جمعوها في ظروف الحرب من قوت الشعب وكد يمينه وعرق جبينه. وكان لهذه الكلمة أثر بليغ.
وعند انتهائي قدم رئيف الملقي صهره الجديد الدكتور فايز الأسود الذي ما لبث أن خرج في خطابه عن الموضوع نهائياً، ويعود ذلك لحادثة عائلية وقعت قبل يوم الحفلة بين أخيه وبين بعض شباب آل العلواني أودت بحياته. فنفث الدكتور فايز في خطابه جميع همومه وأحزانه وصب جام غضبه بعبارات نابية وشتائم جارحه وتهديدات يمجها الذوق العام. فكادت تحدث بلبلة في صفوف المجتمعين. وكان هذا الخطاب، في اليوم الثاني، سلاحاً بيد الإقطاعية منهزين ما ورد فيه للتدليل على أخلاقية.
القيادات الشعبية وانحدار مستواها الفكري والأخلاقي. وخسرنا هذا الخطاب انصارنا من آل العلواني ولم يقبلوا لنا عذراً، حيث أملوا أن نمنع الدكتور الأسود بالقوة من متابعة خطابه، الأمر الذي كان لا يوافق عليه حموه رئيف الملقي.
فجأة .. انفجر الشعار الحاسم
كان آخر هذه الاحتفالات الانتخابية وأضخمها اجتماع ليلي حول خيمة نصبها أبناء حينا في منطقة البياض غربي المدينة. وقد هرع الناس إلى مكان الاحتفال من كل حدب وصوب وكان أبناء كل حي يصلون متجمعين في عراضة خاصة حول راية حيهم. وكانت طبول العراضات وأهازيج القوالين المنتصبين على الأكتاف تهز ليل المدينة بصخب احتفالي عظيم.. ولكن كلمات الخطباء لم تكن بمستى ضخامة هذا الاحتفال ولا بمستوى الحراراة التي كانت تغلي في الصدور. بل كان جو الكلمات بارداً باهتاً. وقد روى الملقي في خطابه إحدى قصص كليلة ودمنة. ولا أزال محتفظاً بخطابي في ذلك الاحتفال، وقد قلت فيه:
“كم يكون سروركم عظيماً لو شاهدتم أبناء حينا يؤمون عشية كل يوم هذا البيت نافضين عن نفوسهم عناء كد النهار، لأنهم من العمال الذين يعيشون بكد اليمين وعرق الجبين. ويجتمعون في الليل للسمر البرئ والإرشاد والدرس والتوعية السياسية والاجتماعية.
أبها الرفاق.. أنكم قد تألمتم في الماضي وضحيتم كثيراً، ولم تجنوا ثمرة تضحياتكم ونضالكم. لأن للظروف الدولية تأثيراً عظيماً على معارك الشعوب الوطنية.
كانت الظروف مواتية. أما الآن فقد فتحت الحرب أمامنا طريق الخلاص، فلنمض قدماً إلى أهدافنا، ولنأخذ من الشعوب الأخرى مثلاً في التضحية والفداء. إن الظروف الدولية أصبحت مواتية. فلنجعل منها نقطة الابتداء في نضالنا التحرري كما جعلنا من تراثنا نقطة الابتداء في بعثنا القومي. إن نضالنا السياسي والقومي يجب أن لا يقتصر على انتخاب النواب الصالحين المؤتمنين، إنه يجب أن يكون بدءاً لجهادنا في سبيل حريتنا واستقلالنا وتحقيق أمانينا القومية. وعلينا أن نحشد في معاركنا المقبلة جميع مواهب الأمة العربية وكفاءاتها. وعلى الواثقين بأنفسهم والمؤمنين بأمتهم أن يتقدموا. إن جنة الوطن مفتوحة أبوابها للجميع.. إنني أقول لرفاقي الفقراء والجائعين إنهم يشعرون في جهادهم بأجمل ما في الحياة، ويسعون في نضالهم لأشرف ما يسعى إليه الإنسان وهو الحرية والاستقلال.. قولوا يا رفاقي لهؤلاء الاقطاعيين بأن مقصدنا يختلف عن مقاصدهم. فلسنا نطمع بالسيارات الفخمة والثروات الضخمة، وإنما نحتقر الفخفخة ونسمو على العجرفة، ولا نعمل للمصلحة العرضية الزائلة. قولوا لهم: ليتكم تشعرون بما نشعر، إذن لاحتقرتم ما أنتم تتنعمون”…
وعندما انفض الاحتفال الكبير، في الهزيع الأخير من الليل، وبدأ أبناء كل حي يتجمعون في عراضتهم ويرددون أقوالهم الذي صعد إلى الأكتاف، واشتد الصخب والهرج والمرج، انطلق فجأة شعار كان حاسماً في تلك المعركة، وكان أبلغ من جميع خطاباتنا .
“هات القفة والكريك .. لنقش الآغا والبيك”
كان هذا هو خطاب الشعب. وهو تلخيص جامع مانع لكل ما تعبنا في شرحه وإيضاحه. وكانتشار النار في الهشيم أصبح هذا الشعار أهزوجة كل العراضات التي عادت كل منها إلى حيها وهي تردده طوال الطريق.
كان وقع هذه الأهزوجة الشعبية على الطبقة الإقطاعية كالصاعقة، كما قضى هذا الشعار على المساومات السرية التي كان يجريها رئيف الملقي معهم في اجتماعاته بهم في دار العلم والتربية، وهي اجتماعات كنت أسمع عنها من رفاقي ولكنني لم أكن متأكداً منها، وفي الوقت ذاته كانت الشبهات تحوم حول موقف الملقي بعد أن شجع عمر الترمانيني على ترشيح نفسه للنيابة وحول إخلاصه لقائمتنا الانتخابية.
وقد عاتب الملقي رفيقنا علاء الدين الحريري الذي أطلق هذا الشعار. فالتفت إليها قائلاً: إن علاء الدين لم يطلق هذا الشعار إلا بالاتفاق معنا. والحقيقة إن علاء الدين بادر من تلقاء نفسه بإطلاق هذا الشعار ليحبط المساومات الجارية مع الإقطاعيين على حسابنا، وهكذا يظهر بأن الشعب عندما يمتلك قضيته يصبح أكثر ذكاء وقدرة وامكانية للحفاظ عليها والاستماتة في سبيلها.
انظر
من مذكرات أكرم الحوراني (94) – ترشيحي للانتخابات النيابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (93) – ترشيح عثمان الحوراني لانتخابات عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (92) – جولة شكري القوتلي الانتخابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (91) – بدء النفوذ البريطاني في سوريا
من مذكرات أكرم الحوراني (90) – القوتلي ينطلق من سياسة التعاقد مع فرنسا
من مذكرات أكرم الحوراني (89) – عودة الحياة الدستورية للبلاد
من مذكرات أكرم الحوراني (88) – انهيار الكتلة الوطنية في عهد الشيخ تاج
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: