You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

ميشيل عفلق: في القومية العربية

في القومية العربية .. من مقالات ميشيل عفلق عام 1941


إذا كان في اهتمام الشباب ببحث القومية ما يدعو إلى الاستبشار فان في طريقة بحثهم لها ما يدعو إلى كثير من الحذر والقلق. فلقد أصبحت القومية عندهم نظرية من النظريات، يمكن الأخذ بها كما يمكن رفضها، إن لم أقل موضوعا من موضوعات الإنشاء وبابا من أبواب الصحف والمجلات.

إن إقبالا شديدا كالذي نراه على هذا الموضوع ليخيف أكثر مما يطمئن، لأنه كثير الشبه بالإقبال على زي جديد من أزياء اللباس واللهو. والزي الجديد سرعان ما يصبح قديما ويهجر بمثل الشدة التي قبل بها.

كل ذلك لأن “قوميتنا” أيضا تأتينا من الخارج بدلا من ان تنبعث من أعماقنا. إن الشجرة التي تفصل عن الأرض -مهما عظم حجمها- لا تلبث أن تجف وتخف حتى تبددها الرياح وتستحيل هباء.. بينما البذرة التي تولد في الخفاء، ما تزال تنمو وتشتد حتى تزدهر ويملأ أريجها الفضاء… أنجعل قوميتنا وهي أساس حياتنا نظرية من النظريات فنتركها عرضة لتقلبات المنطق والذوق والهوى فننادي بها اليوم ونؤثر عليها الأممية والشيوعية غدا، ونعتنق الدعوة الدينية بعد غد؟ أنفهمها فهما ضيقا فنساويها بأجزائها وعناصرها ونخير بين أن نسخر لها الفكر والفن ونضحي من أجلها بالحرية وبين أن نستعظم التضحية فنقدمها ذبيحة لكل هذه الأشياء ؟.

أنحصرها في ساحة محدودة من الوعي ونسجنها في تعريف كما فعل علماء الكلام بالدين قديما، فنحكم عليها بالهزال والفقر، والنضوب والعقم، ونقضي على جذورها المستترة في ظلام الأرض، وبراعمها الخبيئة في وهج النور؟

ان هذه القومية التي تأتينا من أوروبا مع الكتب والمجلات تهددنا بخطر مزدوج، فهي من جهة تنسينا شخصيتنا وتشوهها، ومن جهة أخرى تسلبنا واقعنا الحي وتعطينا بدلا منه ألفاظا فارغة ورموزا مجردة. فبحث القومية على الأسلوب الأوروبي يعللنا بآمال كاذبة، فيوهمنا أننا نبلغ ما بلغته الأمم الأوروبية العظمى بأخذنا بعض مظاهرها -أي بضرب من السحر- كما أنه يورثنا أمراضا ومشاكل وهمية فنشعر بنفس الأمراض والمشاكل التي تعانيها تلك الأمم.

ان الخطر الأكبر هو الايغال في التفكير المجرد. التفكير المجرد يوهمنا ان الواقع جامد ساكن عام في مادته الأولى، نستطيع أن نحلله ونشرّحه الى عناصر مستقلة، نعيد تركيبها ونبدل بعضها من بعض كما يحلو لنا، مع ان الواقع الحي كل متماسك منسجم، حي بتماسكه ووحدته، سابق لكل تحليل ذو فردية كاملة بذاتها. التفكير المجرد يعرّي الأشياء من لحمها ودمها ويفقدها لونها وطعمها، ويبعدها عن الدقة والضبط، فالأضداد تتشابه، والمتفاوتات تتعادل، لأنها أصبحت كلها ألفاظا واللفظة تساوي لفظة مثلها.

أية آلة دقيقة محكمة الصنع هي هذه القومية التي تحتم، كلما عرضت مسألتها في مكان، أن تنتج عنها نفس النتائج وتجابه ذات المعضلات؟ إن الذين يدخلون القومية في هذا الجو المجرد المفرغ من الهواء، لا يخطر ببالهم أنهم بنقلهم لفظة من موضع إلى آخر يزعزعون الجبال ويزلزلون الأرض، وأنهم بإهمالهم لفظة أخرى يقطعون أوصال الحياة ويحزون في شرايينها، ويحلون في ساعة ما نسجه الزمن في دماء أجيال. وإن في مقارنة القومية بالدين والتقاليد والفن مثلا ما ينم عن إخلال بدقة التفكير وفهم جزئي للقومية كأنها شيء مستقل عن الدين والتقاليد والفن، مع أنها التربة التي تنمو فيها مواهب أمة ما في كل الميادين. وعلى هذا لا يعود جائزا أن تختلق خصومة بينها وبين أحد أجزائها الأصلية المنبعثة منها، ولا ان نساويها به. أن التفكير المجرد منطقي مع نفسه اذ يقرر أن القومية لا بد ان تصطدم بالدين مثلا لأنهما يختلفان في المنبع والمظاهر.

ولكن لنهجر اللفظ قليلا ولنسم الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة، فنستبدل بالقومية (العروبة) وبالدين (الإسلام) تظهر لنا المسألة تحت ضوء جديد، فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ في قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح وساير تاريخها وامتزج به في أمجد أدواره، فلا يمكن أن يكون ثمة اصطدام. وبعد فهل القومية محصورة بالأرض كما يظن، بعيدة كل البعد عن السماء، حتى يعتبر الدين شاغلا عنها مبذرا لبعض ثروتها، بدلا من اعتباره جزءا منها مغذيا لها ومفصحا عن أهم نواحيها الروحية والمثالية؟

ان القومية العربية ليست نظرية ولكنها مبعث النظريات، ولا هي وليدة الفكر بل مرضعته، وليست مستعبدة الفن بل نبعه وروحه، وليس بين الحرية وبينها تضاد، لأنها هي الحرية، اذا ما انطلقت في سيرها الطبيعي وتحققت ملء قدرتها.

ثمة فرق جوهري بين الجسم الحي، مهما كان ضئيلا بسيطا وبين الجسم الآلي الذي يريد تقليد الحياة والتشبه بها، مهما أتقن الصانعون صنعه وافرغوا فيه فنهم ومهارتهم. الآلة خارجة عن مجرى الحياة وغير متصلة بالزمان. فلا يحسب الذين يستعيرون النظريات القومية والفلسفية الأجنبية ويكدسونها بعضا فوق بعض ليركبوا منها القومية العربية، انهم بوضعهم الثياب الجميلة على عصا يوهموننا بأنها تحيا. اننا لا نزال نشعر أن هناك جسما حيا اهملوه وتعاموا عنه، انه مازال عاريا. قد يكون هزيلا ولكنه جميل، وجماله لا لشيء، سوى انه حي.

كثيرا ما نسمع: (أأنتم أفضل من هذه الأمة أو تلك! انها مرت على هذه المراحل ونجحت بهذه الأساليب!) لسنا ندعي اننا أفضل من غيرنا، لكننا مختلفون عنهم: وهذا الاختلاف هو الذي يجعلنا عربا ويجعلهم غير عرب. ولسنا نقول بضرر الاطلاع على النظريات الرائجة عندهم بل نعتقد ان فائدة هذا الاطلاع يجب أن تبقى سلبية، أي ان نعرف بواسطته كل الأشياء التي ليست لنا، فإن ذلك يقربنا من فهم حقيقتنا وحاجتنا.

كل تفسير للقومية العربية لا ينبعث من صميمها، انبعاث الغرسة من الأرض والسنبلة من القمحة يكون تفسيرا ضالا جامدا ميتا. وكل نظرية عن العروبة يصح أن تقال على السواء عن فرنسة القرن الثامن عشر وعن اليونان في عهد أفلاطون، نظرية زائفة آلية، لأنها لا تنبىء عن خصائص المكان ولا يستشف منها انسياب الزمن. وليكفوا عن التذرع بالأشياء الخالدة المشتركة اذ لا شيء خالدا ومشتركا بين البشر غير التحول والاختلاف.

لا يصبح العرب قوميين باعتناقهم فكرة القومية فهي ليست فكرة. ولا بعملية حب وإيمان وإرادة، فهي شروط لازمة للقومية ولكنها ليست إياها. جعل القومية فكرة تعتنق يضيف الى طوائف العرب طائفة جديدة ويضع على النفس العربية طلاء فوق القشور الموجودة التي تغشاها، ويزيدنا تفرقة ويباعد ما بين التجانس وبيننا. لا يحتاج العرب إلى تعلم شيء جديد ليصبحوا قوميين، بل إلى إهمال كثير مما تعلموه حتى تعود إليهم صلتهم المباشرة بطبعهم الصافي الأصيل. القومية ليست علما بل هي تذكر، تذكر حي.

وهذه المعجزة التي يسعون اليها ويتلوون على ألف شكل لكي يعثروا عليها، ما عسى تكون دهشتهم عندما تظهر فيهم نقية، كاملة، بسيطة بساطة المعجزات، إذا هم تركوا الحياة تستعيد فيهم عفويتها وحريتها وتملأ كل سعتها. عبثا ينشدون قوميتهم بتحليلها من الخارج إلى عناصرها، وتركيبها تركيبا صنعيا مستوحى من الكتب والتفكير المجرد ومثال الأمم الأجنبية، انهم لن يجدوها الا في داخلهم مركبة وواحدة معا كما هي في الواقع وككل شيء حي متداخل الأجزاء، لا يفصل عنها جزء الا ويفقدها الحياة. هي في أعمالنا الماضية وآلامنا الحاضرة، في فضائلنا وعيوبنا، في تاريخنا المسطور في الكتب وتاريخنا المحفور على حنايا الضلوع، الذي يقرر أكثر اتجاهاتنا ويغذي معظم أحلامنا.

عام 1941


انظر مقالات ميشيل عفلق:

في الثلاثينيات:

عهد البطولة 1935
ثروة الحياة 1936

في الأربعينيات:

 القومية حب قبل كل شئ 1940
 القومية قدر محبب 1940
في القومية العربية
1941
نفدي العراق 1941

انظر ايضاً:

ميشيل عفلق: التنظيم الإنقلابي

ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب

ميشيل عفلق: حزب الانقلاب

ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث

ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة

المصدر
ينشر بالتنسيق مع موقع في سبيل البعث



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى