شهادات ومذكرات
مستشفى بحنس .. من مذكرات محمد حسن بوكا (21)
مستشفى بحنس .. من مذكرات محمد حسن بوكا (21)
لم أجد أي تقدم صحي في دمشق فاقترح الطبيب صديق والدي متابعة معالجتي في مصح بلبنان بقرية بحنس ضهر الصوان في بكفيا .
كان هذا الطلب صعباً جداً على والدي الذي كان يعاني من أزمة مالية ناتجة عن ظروف الحرب العالمية الثانية وإعالة 15 فرد في دار واحدة ، وأسباب المعيشة شاقة وصعبة ولكنه لم يتردد رغم أن مصاريف المصح عالية جداً . فكان همه الأول انقاذ حياتي التي كانت بين الموت والحياة .
سافرت أنا ووالدي ووالدتي الى لبنان في شهر مارس 1947 ودخلنا المصح التابع الى جمعية المحبة للراهبات في قرية بحنس وأجرينا معاملة الدخول وحجزت سريراً في عنبر به سـتة أسرة وكان الجو غائماً ورطباً وضباب كثير وبرد نوعا ما لأنه في المرتفعات الجبلية ، ولما شاهدت والدتي منظر الخمسة مرضى المقبعين بالأغطية سارعت في الخطى على قصرها الى خارج المصح كيلا المحها لتنفس عن ضيقها ، فلحقت بها وخففت عنها وهدئت من روعها .
كان ألمى من المرض شديد ، ولكن حزني على والدتي ووالدي أشد وأعتى ، فلقد كانوا يعانون من الخوف عليّ ويسعون الى تقديم أى مساعدة لانجو من هذا المرض العضال ، كانوا يزورونني أسبوعياً من دمشق الى لبنان ، ولا أنسى يوم أن كان والدي يأتى قادما لزيارتي يمشى مسافة 500 متر صعوداً الى المصح وهو محملاً بسلة من الطعام والفواكه والحلويات والعرق يتصبب منه ، ووالدتي تجر رجليها لتلحق بوالدي ودموعها لاتجف كلما نظرت اليّ وقلبها يتفطر لحالتي وهي تقول لنفسها : ترى هل يسـلم فلذة كبدى من وحـش المرض ويعود اليّ سالما ؟ وهى تعلم أن هذا المرض لاشفاء منه في ذلك الحين .
كان والدي يتصل بى هاتفيا كل بضعة أيام عن طريق صديقي عبد الغني العطار الذى يعمل بالهاتف اليدوى بدمشق ويؤمن الإتصال مجاناً ، ولما لم يحصل أي تقدم للشفاء شرح له الطبيب حالتي والعلاج المقترح فوافق والدي على إجراء العملية ، وقرر الأطباء اجراء عملية في الصدر تسمى عملية تصنيع ، أى قطع أربع ريش من القفص الصدرى من جهة الظهر لإجبار لوح الكتف بتوقف الرئة المصابة عن الحركة حتى يغلق الكهف الرئوى ، وتستغرق العملية الواحدة أربع ساعات ، وتكون على مرحلتين بينهما 15 يوما .
وشاء القدر أن يجمعني بسيدة عراقية كانت مريضة ونذرت نفسها للعمل بالمصح مجاناً لخدمة المرضى فنصحتني بانتظار الدكتور الجراح / قيصر شهاب الذى يتابع التقدم العلمي في مستشفيات فرنسا لعليّ أجد طريقة أفضل من العلاج التقليدى الذى ينتج عنه الالتواء في الكتف ويشوه حالة الجسم المسـتقيمة .
قررت الانتظار ريثما وصول الدكتور/ قيصر شهاب وطلبت من الراهبة المسؤولة تأجيل موعد العملية لعدة أيام ، وأخبرت والدي بالموعد الجديد للعملية .
وصل والدي ووالدتي من دمشق يوم الأحد 5/4/1947 لدخولي غرفة العمليات لأول مرحلة .
كان بجانب سريري بالمستشفى مريض أصغر مني سـناً وحالته أشـد سـوءاً وموعد دخوله للعملية قبلي ، صحوت من النوم ولم أجده على سريره ، وسألت عنه الممرضة فقالت : لقد ذهب مع والديه ، ولكنني لم أصدق ذلك وسألت الممرض الفرنسي خفيف الظل أين المريض الذى كان بجانبي هل ذهب الى الله ؟ فقال نعم فعرفت أنه لم تنجح العملية ولم يلحق بركب العلاج ووافته المنية ، لم يثني ذلك اصراري لاجراء العملية فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا .
دخلت غرفة العمليات متكلاً على الله عز وجل ، وصدف أن دخلت معي ذبابة ولم يكن العزل والتعقيم تلك الأيام على مستوى دقيق ، فقام الدكتور والطاقم الطبي وأنا بملاحقة الذبابة لمدة عشرة دقائق خوفاً من التلوث الى أن استطعنا القضاء عليها ، ثم قاموا بتخديري ولكن المخدر كان ضعيفاً ومدته قصيرة مما اشـتد الألم عليّ ، وزاد بالطين بله أن الطبيب / قيصر كان جسمه ضعيف لايقوى على قص ضلعين من الخلف بسرعة وسهولة فالوجع شديد والألم لا يحتمل تجرعت معه الصبر والجّلد.
خرجت بعد أربع ساعات من العملية لأجد والدي ووالدتي بجانبي وقلبهم يتفطر على حالتي
بعد عدة أيام أجريت تصويراً شعاعياً للصدر تبين تحسناً في الحالة والإسـتجابه للعلاج فقرر الدكتور قيصر شهاب اجراء الجزء الثاني من العلاج بعملية قص الضلعين الأخريين ، احتفظت بهم الى أن دفنتهم بعد عشرين سنة .
وأجريت العملية الثانية صباح يوم الجمعة 17/4/1947 وكانت نفس معاناة العملية الأولى ، وبعد خمسة عشرة يوماً قمت بتصويراً شعاعياً على الصدر وتبين أن الكهف قد انغلق تماماً ، وتم التغلب على المرض والحمد لله .
وأثناء فترة النقاهه وفي يوم جمعة قبل يومين من خروجي من المستشفى وأثناء تناولي طعام الغداء الذي كان عبارة عن طبق من المجدّرة وفرخ سمك شعرت بحشرجة في صدري فسـعلت سعلة قوية خرجت معه بقعة دموية افزعتني ، وتصورت عندها أن العملية لم تنجح ورجع المرض ثانية بين أضلاعي وناديت الممرضة لترى ما حل بيّ والتي بدورها اسـتدعت المشرف والطبيب وكامل الفريق الطبي ، في تلك الأثناء رن جرس الهاتف يسـأل عنيّ وكأن التواصل الروحى أقوى من التواصل الهاتفي حيث كانت أمي على الهاتف تسأل عني لانشغال قلبها عليّ ، نقلوني على الكرسي المتحرك خوفاً عليّ من الحركة . وتكلمتُ مع والدتي بلهفة وشوق ، فبادرت وسـألتنى : كيف حالك الآن ياابني ؟ فقلت لها : الحمد لله أنا منيح .
فقالت وكأنها معي تراني : بذمتك اتيت ماشـياً على رجليك ؟
فأجبتها مراوغاً : لقد اتيت بالطائرة – وكأن قلبها يحدثها بما حلَّ معي – .
وسارعوا الى تصويري شعاعياً فلم يجدوا أي أثر للنزيف الدموى أو أثر للمرض السابق إنما هي بقايا دموية صغيرة من أثار العملية ولا خوف منها ، وما أن وصلت الى هذه النتيجة حتى كاد قلبي يقع من مكانه .
خرجت من المستشفى حاملاً شهادة خلوى من جميع الأمراض ومعافاتي من أي اصابة ، شاكرا الله عزوجل على ما ابتليت فيه ونجاني من هذا المرض العضال .
بعد عودتى من المشفى معافى والحمد لله بدأت أمارس نشاطات كثيرة أملي فيها وقت فراغي في فترة النقاهة ، تعلمت لعب الشطرنج وتعلمت التصوير الفوتوغرافي والتحميض والطبع بشكل حرفي .
انظر:
تعريف .. من مذكرات محمد حسن بوكا (1)
مرحلة الطفولة .. من مذكرات محمد حسن بوكا (2)
التاجر الصغير .. من مذكرات محمد حسن بوكا (3)
مجيد الفوال .. من مذكرات محمد حسن بوكا (4)
المرحلة الابتدائية .. من مذكرات محمد حسن بوكا (5)
مرحلة الشباب .. من مذكرات محمد حسن بوكا (6)
العرفان بالجميل .. من مذكرات محمد حسن بوكا (7)
التلميذ المدلل .. من مذكرات محمد حسن بوكا (8)
مقابلة الشيخ تاج الدين الحسني .. من مذكرات محمد حسن بوكا (9)
مرضي بذات الجنب .. من مذكرات محمد حسن بوكا (10)
الحياة العائلية ما بين 1940- 1950 .. من مذكرات محمد حسن بوكا (11)
رهان مقبوضة .. من مذكرات محمد حسن بوكا (12)
البطل الكردي أحمد البارافي .. من مذكرات محمد حسن بوكا (13)
النضال الوطني .. فترة المطالبة بالجلاء.. من مذكرات محمد حسن بوكا (14)
إلقاء القنبلة على هيئة الأركان الفرنسية.. من مذكرات محمد حسن بوكا (15)
مقابلة فارس الخوري .. من مذكرات محمد حسن بوكا (16)
هجوم الفرنسيين على المجلس النيابي .. من مذكرات محمد حسن بوكا (17)
وقف الاعتداء الفرنسي 1945 .. من مذكرات محمد حسن بوكا (18)
دراستي في مصر .. من مذكرات محمد حسن بوكا (19)
عيد الجلاء .. من مذكرات محمد حسن بوكا (20)