شهادات ومذكرات
عيد الجلاء .. من مذكرات محمد حسن بوكا (20)
عيد الجلاء .. من مذكرات محمد حسن بوكا (20)
في أثناء وجودي بالمشفى كتب ليّ أخي عزت يصف الأعياد في سوريا بمناسبة الجلاء حيث قامت القوات الانجليزية بمساعدة الانتفاضة الشعبية وتم جلاء الفرنسيين عن سوريا في 17/ نيسان / 1946 واقيم احتفالا بعيد الجلاء في كافة المدن السورية .
وكانت فرحة الشعب كبيرة استقبلت معها دمشق وفوداً من كافة المدن السورية ومن البلاد العربية ، واقيمت المهرجانات في كل حيّ حتى أن بعض المطاعم فتحت أبوابها لتقديم الطعام مجاناً ، وكانت الأهازيج تصدح فى كل حيّ وحارة والدبكات والرقصات الشعبية تجوب المدن والأحياء وهذا ما خفف عنى صعوبة المرحلة ووحاشة المرض .
علم والدي عن طريق عمى فوزي هاتفيا بأنني مريض بمرض السّل ، وحرص على أن لا يخبر والدتي بذلك خوفاً عليها وحلف بالطلاق على أخوتي أن يبقى الأمر بطي الكتمان ، ولكن قلب الأم لا يكذب على ولدها وفلذة كبدها ، فرأت بالمنام أن ابنها حسن مريض بمصر ويجب زيارتة وقصت الرؤيا على والدي فكذبها وانكر أنني مريض لكنها اصرت على صدق ذلك والدموع في عينيها .
حاول أبي جاهداً التحضير للسفر باستخراج الجوازات وتأشيرات الدخول وتذاكر القطار دون علم والدتي ، وعندما استقر الأمر اخبرها بأننا سنسافر الى ابننا غداً ، طالتها الفرحة وطلبتها الأشواق للقاء ابنها بعد انقطاع طويل .
اعلمتُ الطبيب المعالج الدكتور/ سامي بأن والدي ووالدتي قادمون الى القاهرة لاعادتي الى دمشق .
فقال لي : قل لهم بأني وجدت والداً ليّ بمصر أفضل منكم .
فشعرت بفرحة غامرة انستي غربتي من عطفه وحنانه والسؤال عني في كل يوم وكل حين
بعد أسبوعين وصل والدي ووالدتي الى محطة القطار في باب الحديد بالقاهرة ، والمفاجأة أنني كنت في استقبالهم في المحطة ولم يتوقعوا أن صحتي جيدة بهذه الصورة وتصوروا أنهم سيشاهدون جسماً نحيلاً وقدّا هزيلاً ، فوقف والدي يتحسس جسدي قطعة قطعة ، وهو لا يصدق أن ابنه واقفاً أمامه فاطمأنوا عليّ وزال الخوف منهم نوعاً ما .
بعد عدة أيام من وصول الوالد والوالدة الى مصر
قرروا وبدون تردد على وجوب العودة معهم .
وكان ذلك صعباً جداً عليّ :
أولا للتخلي عن الدراسة ،
وثانياً لأنني عدت مريضاً ،
وثالثاً البعد عن عائلة عمي صبرى .
حاول والدي أن يخفف عني همي وحزني فاشترى ليّ قطعتي قماش من الجوخ الانجليزي وفصل لي بدلتين ، ووعدني عند وصولنا لدمشق بشراء عربة خيل ( عربة تك ) أي بحصان واحد ليشجعني على العودة وإضفاء السعادة عليّ .
سافرنا أنا ووالدتي ووالدي في أواخر شهر أبريل 1946، وركبنا القطار ولوح المودعون أيديهم من الأهل والأقارب وابنة عمي صبرى وقلوبهم تخفق بالحزن ، وأجهجشت أنا بالبكاء وتبعني المحبين بدموعهم لفراق لا نعلم لقاءه بعد الآن :
فأرسلت من خلال الطرف ناظرها …. ترنوا اليّ ودمع العين ينهـمل
وودعـت ببـنان خلـتهُ عـلمٌ ناديـتُ ….. لا حمـلـت رجـــلاك ياجــــمل
ويلي من الـبيـنِ ماذا حـل بيّ وبها … من نازلي البينِ حل البين وارتحلوا
إني على العهد لم أنقض موتـدهـم …. ياليت شعري بطول الدهر ما فعلوا
لزمني الصمت والكدّر حتى وصولنا دمشق .
جررت أذيال الفشل واخفاقي بتكملة دراستي للهندسة بسبب مرضي ودخلت في مستقبل صحي مجهول حار الأطباء فيه ، وشعرت بأن أيامي معدودة ومحطة وصولي قد قربت وفوضت أمري الى الله .
في دمشق استقبلني كافة العائلة بالترحاب والحب والإهتمام ، وبدأت بمتابعة العلاج الذى أوصى به الطبيب المصري وذلك بنفخ هواء في الصدر للضغط على الرئة ومنعها من الحركة ليساعد على سد الكهف الموجود بالرئة .
كنت أعيش في بيت أهلي فحافظت على نفسي وأدواتي التي استعملها ولا اسمح لأى أحد باستعمالها حتى أعقمها بنفسي خوفاً من انتقال المرض لأحد .
حتى لو جلست في المقهى فكانت زجاجة مواد التعقيم لا تفارقني وبعد الإنتهاء من شرب الشاي أضع بعض النقاط من المعقم بالكوب الشاي الفارغ .
لم يجد هذا العلاج نفعاً ، وبعد انقضاء عدة أشهر اسـتأجر أبي لي بيتاً في المزة على طريق المستشفى العسكري ، لأن منطقة المزة جوها ناشف وهواءها صحى حسب توصية الطبيب وكان أخي نذير يقيم معي لتدبيرأموري بخلاف والدي ووالدتي وأخوتي يزورونني للإطمئنان عني واحضار ما يلزمنى .
كنت في أثناء مرضي أتدرب العزف على العود والكمان من صديقي / خليل بكرى خريج معهد الموسيقا والذى كان استاذاً للموسيقى وتعلمت وفق النوتة الموسيقية والسلم الموسيقي وأنضم الينا استاذ الموسيقى / مصطفى الصواف وأنشأنا نادى موسيقي لنشارك في برامج الأطفال بالراديو .
وفي نهاية صيف 1946 زارنا أولاد عم الوالدة من مصر عمي خير وسميرالكاشف وبعض الأقارب وذهبنا الى بيروت برحلة جميلة الى جبال اللبنان وزحلة وبيروت .
انظر:
تعريف .. من مذكرات محمد حسن بوكا (1)
مرحلة الطفولة .. من مذكرات محمد حسن بوكا (2)
التاجر الصغير .. من مذكرات محمد حسن بوكا (3)
مجيد الفوال .. من مذكرات محمد حسن بوكا (4)
المرحلة الابتدائية .. من مذكرات محمد حسن بوكا (5)
مرحلة الشباب .. من مذكرات محمد حسن بوكا (6)
العرفان بالجميل .. من مذكرات محمد حسن بوكا (7)
التلميذ المدلل .. من مذكرات محمد حسن بوكا (8)
مقابلة الشيخ تاج الدين الحسني .. من مذكرات محمد حسن بوكا (9)
مرضي بذات الجنب .. من مذكرات محمد حسن بوكا (10)
الحياة العائلية ما بين 1940- 1950 .. من مذكرات محمد حسن بوكا (11)
رهان مقبوضة .. من مذكرات محمد حسن بوكا (12)
البطل الكردي أحمد البارافي .. من مذكرات محمد حسن بوكا (13)
النضال الوطني .. فترة المطالبة بالجلاء.. من مذكرات محمد حسن بوكا (14)
إلقاء القنبلة على هيئة الأركان الفرنسية.. من مذكرات محمد حسن بوكا (15)
مقابلة فارس الخوري .. من مذكرات محمد حسن بوكا (16)
هجوم الفرنسيين على المجلس النيابي .. من مذكرات محمد حسن بوكا (17)
وقف الاعتداء الفرنسي 1945 .. من مذكرات محمد حسن بوكا (18)
دراستي في مصر .. من مذكرات محمد حسن بوكا (19)