مختارات من الكتب
من مذكرات أمين أبو عساف: الدراسة في الكلية العسكرية (7)
من مذكرات أمين أبو عساف: الدراسة في الكلية العسكرية
بتاريخ التاسع من أيلول عام 1933 وصلت إلى الكلية العسكرية، ووصل الرفاق تباعاً حيث وجدنا أنه لكل طالب مستجد طالب قديم في انتظاره. وبمجرد وصول أحدنا وإعلان اسمه إلى رئيس الحرس يتقدم الطالب القديم ويعرفه عن نفسه ويخبره أنه مكلف باستقباله وإعطائه كل المعلومات التي يحتاجها والقيام بها وكان “متقدمي” هو “حسين أبو زين” من لبنان.
ذهبنا إلى المكتب لتسجيل الوصول، سجلت اسمي وأخذت رقمي العسكري وهو “15812” وبقي هذا الرقم يرافقني حتى وصلت إلى رتبة “ملازم”. ثم ذهبنا إلى المستودعات حيث استلمت مخصصاتي من الألبسة وهو ما يعطي لجندي متطوع. صعدنا إلى المهجع وارتديت البزة العسكرية لأول مرة..
جمعنا الثياب المدنية ضمن طرد ووضعناها أمانة في المستودعات إلى أول عطلة ليأخذها صاحبها.. في المهجع كان لكل واحد منا سرير حديدي وفراش وبطانية وخزانة، علمني كيف أرتب الأغراض في الخزائنة والبطانيات على السرير بحيث يكون التنسيق واحداً في المهجع، وعندما يمر التفتيش والذي يشمل السرير والخزانة يجب أن يكونا في الوضع المناسب .. أمضينا باقي النهار في التعرف على صالات الكلية، صالات الدروس والراحة والتسلية والمطالعة والطعام ومكان الاجتماع، وملاعب الرياضة بجوار المدرسة ..
في صباح اليوم الثاني بدأنا نحن الطلاب المستجدين بمقابلة “الكولونيل” مدير الكلية من “15-20” دقيقة لكل طالب، المقابلة كأنها امتحان ثقافة وذكاء وإمكانيات ويناقش مواد فحص القبول ومواضيع أخرى. تتم هذه المقابلة أيضاً كل امتحان فصلي حيث يتم الامتحان الأول والثاني من قبل المدرسين أما الامتحان الثالث في نهاية العام الدراسي تقوم به لجنة من خارج الكلية تعين من قبل القيادة وكذلك امتحان التخرج.. الكلية متخصصة لكل الحكومات السورية واللبنانية، مدة الدراسة سنتان أو ثلاثة صفوف. الدخول إليها يتم بعد امتحان القبول، ونظراً لكون المستوى الثقافي غير موحد في الحكومات السورية فإن البرنامج يحتوي على ثقافة عسكرية، وثقافة عامة تعادل البكالوريا.
يُقبل الطلاب الذين ثقافتهم العامة جيدة في الصف الثاني من الذين ترفعوا لهذا الصف من السنة الأولى السابقة.. أما الذين ثقافتهم ضعيفة فهم في الصف الأول.
وكان اللبنانيون بأكثريتهم يدخلون الصف الثني لأن لغتهم الفرنسية جيدة.
وفي نهاية السنة الثالثة يجب على الطالب أن يحصل على شهادة الثقافة العامة والشهادة العسكرية حتى ينجح ويرفع لرتبة ملازم.
بدأنا نمر بمرحلة جديدة من حياتنا كلها حيوية ونشاط، أوقاتنا منظمة بصورة دقيقة جداً، والاستيقاظ في الساعة المحددة وبعد نصف ساعة الرياضة البدنية فطعام الفطور ومن ثم التمارين العملية حتى الظهر وبعدها دروس ثقافة عامة ونظرية حتى العشاء، بعد العشاء ساعتان في مطالعة حرة لتحضير دروس اليوم التالي وعندما تعلن ساعة النوم تطفأ الأنوار ولا يسمح لأحد أن يشعل النور أو إجراء أي حركة..المدربون كلهم فرنسيون للعلوم العسكرية والثقافة العامة، على كل دورة ضابط ورقيب من أجل العملي على الطبيعة قبل الظهر وفي الخارج..
ثم دروس نظرية تشمل “إشارة، أسلحة ، خدمة داخلية” تحت إشراف صف ضابط اختصاصي، الأساتذة ضباط أكفاء برتبة “كبتن” أو مقدم كل باختصاصه من علوم ولغة وتاريخ، أي برنامج البكالوريا المقرر في سوريا ولبنان. أما اللغة فهي الفرنسية.. خلال الفصل الأول كان الكبتن “هنري” اللبناني المدرب العسكري لدورة السنة الثالثة يعطي درساً لطلابه حيث قال لهم: كان رفيقكم الملازم “جوزيف صايغ” اللبناني خريج الكلية ترجماناً مع الكبتن”نورمان” قائد حملة الكفر وعندما هاجم الدروز الحملة وقضوا عليها قتلوا الملازم “صايغ” وشقوا بطنه وأخرجوا القلب وأكلوه بدمه وهذه عاداتهم..
كان في الكلية ثلاثة من دروز لبنان هم “يوسف شميط” و”علي حماد” و”حسين أبو زين” في السنة الثالثة وكنت أنا الوحيد من الجبل في السنة الأولى – استغرب بعضهم هذه الرواية- وجاء من يسألني عن هذه الحادثة ويستوضح ! فقلتهذا غير صحيح، إن الدروز قد خاضوا معارك كثيرة ضد الأتراك، ومع البدو أيضاً ووصلوا إلى زحلة “1860” ومما هو قريب جداً “الثورة السورية الكبرى” ضد فرنسا عام “1025-1927” فلم يتهمهم أحد مثل هذه التهم الباطلة فهم يحافظون على حياة من يستسلم، وحرمة الميت مقدسة عندهم وإنني أستغرب كل الاستغراب أن تصدر هذه الأخبار الكاذبة من مواطن عربي.. كان عليه أن يعرف الدروز أبناء وطنه عن حقيقتهم ..
ولكني أنصحهم أن يطالعوا في مجلة “جراند يلستراسيون” مقال لعدو الأمس الجنرال “كليمان كرانكور” عن الدروز في قاعة المطالعة. وكنت قد قرأت هذا المقال، والجنرال من الذين شاركوا في إخماد الثورة حيث كان حاكماً للجبل وقد كتب هذا المقال بعد إحالته للتقاعد وقد وصف الدروز: “شجاعتهم وصدقهم وكرمهم” وكيف كان تصرفهم أثناء الثورة واستشهد على ذلك برجال الدين مثل الشيخ “أحمد الهجري” والشيخ “حسن جربوع” وأن الدرزي شجاع يقول الحق ولا يكذب ولا يشهد بالزور.
في أوائل عام “1934 صدر عن المفوض السامي “الكونت ده مارتل” وكان قد استلم مهامه في أواخر العام الماضي، تعليمات تقضي بتعديل شروط التخرج من الكلية العسكرية وبدلاً من التخرج برتبة ملازم يتخرج الطالب برتبة مرشح يقضي في القطعات بهذه الرتبة من تسعة أشهر إلى سنتين.
أضربنا عن العمل لأننا دخلنا على الشروط التي تسمح لنا بالترفيع إلى رتبة ملازم مباشرة عند التخرج. عُدل القرار وكان الحل أن يتخرج الستة الأوئل خلال ثلاث سنوات من الدورات الموجودة حالياً برتبة ملازم والباقون برتبة مرشح وبعدها يطبق القانون الجديد على الدورات الجديدة.
في الفصل الأول من العام الثاني وأثناء الفحص حدث أن نقل عني رفيقي عملية في الفيزياء ولم أتمكن من منعه، طلبت منه أن يغير الأحرف فلم يفعل بل نقلها حرفياً، أثناء التصحيح تبين أمر النقل، وقد وضع درجة “صفر” لكل منا وعلقت الأوراق على لوحة الإعلانات.
قلت لرفيقي عليك أن تعترف إلى “الكولونيل” المدير أثناء المقابلة بأنك نقلت عني وافق ولكنه لم يفعل.. وعندما سألني “الكولونيا” أثناء المقابلة لي وكنت أدخل قبل أنكرت النقل ولم أقل له كل الحقيقة معتمداً على رفيقي ليقول الحقيقة، أما جواب رفيقي فقط كان مقنعاً للمدير أكثر من جوابي وثبتت التهمة عليّ، تأثرت كثيراً .. وكنت طلبت إستقالة لأنني خالفت قوانين الكلية، ولم أتمكن من إقناع رؤسائي ببراءتي “على أمل أن يفتح تحقيق بالموضوع وتظهر الحقيقة. لاحظ صديقي ورفيقي “مأمون بيطار” ما أكتب أخذ الورقة مني ومزقها وقال هل أتيت إلى الكلية لتستقيل يمكن أن تقبل الاستقالة، قلت له بإمكاني كتابة غيرها، قال : اترك الموضوع حتى مساء الغد فإن بقيت مصراً على رأيك ندرس الموضوع.
في اليوم التالي وأثناء الدرس العملي في الخارج كان الملازم “محمد صفا” مدير الدورة قد وجه سؤالاً لأحد أفراد الدورة وقد سأل طالبين قبل أن يوجه السؤال إلي، لم انتبه تماماً للسؤال ولم يكن الجواب صحيحاً.
لاحظ الملازم ذلك إذ كنت من المبرزين في العلوم العسكرية انتحى بي جانباً وقال : ما بك وليس عادتك أن يشرد فكرك أثناء العمل! أخبرته بما حدث بقضية النقل وقلت له إني أفكر بالاستقالة، إذ يعتبرني الكولونيل قد كذبت عليه ولست بكاذب..
قال لي : عُد إلى عادتك لجدك ونشاطك وثابر على عملك ولا تفكر بهذا الموضوع ولا بالاستقالة. وأعلم أنك تدرس أشياء هامة كالعلوم العسكرية والثقافة العامة، وهذا غير موجود في منطقتك ومن المفيد أن تطلع عليها، وحرام أن تضيع الفرصة. في هذه اللحظة اقتنعت وعدت إلى نشاطي السابق.
في نهاية السنة الثانية يجري انتقاء طلاب للتخصص في سلاح الفرسان والمدفعية والهندس، وكنا نتلقى علوماً أساسية وعامة تنطبق على كل الأسلحة مع درس “ركوب الخيل” أسبوعياً والسنة الثالثة تكون سنة تخصص كل بسلاحه.. قدرت أهمية سلاح المشاة وتطوره، وكانت رغبتي أن أبقى بهذا السلاح.
في المقابلة السنوية التي جرت في آخر العام سألني الكولونيل مدير الكلية عن السلاح الذي اخترته. قلت له: إني أفضل سلاح المشاة نظراً لتنوع إمكانياته، أجابني بقوله أنت الفارس الأول في الدورة وتختار المشاة؟! الأفضل أن تكون في سلاح الفرسان فيما بعد أخذت المصفحة ثم الدبابة مكان الحصان، كانت نصيحته قيمة وقد ساعدتني كثيراً أثناء خدمتي.
كان تشكيل سلاح الفرسان في قطعات الشرق الخاصة كالآتي:
1- كتيبة فرسان نظامية من كوكبتين، مركز القيادة “حمص” مع كوكبة واحدة الكوكبة الأخرى في مدينة “حماة” ضمن ثكنات حيث يقيم الجنود والرواحل، آمر الكتيبة المقدم “رفعت خانكان” وآمروا الكوكبات والرعائل ضباط سويون نظاميون من خريجي الكلية العسكرية، ولا يوجد فرنسيون في هذه الوحدات النظامية الفرنسي من أي رتبة له حق القيادة على السوري مهما كان قدمه.. السوري له حق القيادة على الفرنسي إذا كان هذا الأخير دون رتبة.
2- ثلاثة كتائب من كوكبات خفيفة غير نظمية وتشمل:
أ- الكتيبة الدرزية، وهي مؤلفة من /6/ كوكبات، وقيادة الكتيبة في السويداء.
ب- الكتيبة الشركسية وهي مؤلفة من /4/ كوكبات، وقيادة الكتيبة في دمشق.
ج- كتيبة المنطقة الشمالية، وهي مؤلفة من /4/ كوكبات، قيادتها في حلب.
د- جرى فيما بعد تشكيل كوكبات (علوية، وكردية، وحورانية).
آمروا الكتائب والكوكبات الخفيفة ضباط فرنسيون وكذلك موظفو المكاتب والمحاسبة كلهم فرنسيون.. أما ما تبقى من ضباط وصف ضباط وجنود فهم سوريون غير نظامييم فالرواحل ملكهم وهي في بيت العسكري مع سلاحه.
جرى تشكيل هذه الكوكبات خلال الثورات وجرى تعيين الضباط وصف الضباط والعرفاء والجنود بصورة عشوائية وبدون شروط.
فالضباط من عائلة معروفة في المنطقة ذات نفوذ!
كان الفرنسيون يعينون من رتبة “عريف” حتى رتبة”رئيس” حسب مزاجهم وربما كان المعين برتبة ضباط أمي أو شبه أمي وغير أهل للقيادة لكن الاعتبارات السياسية هي التي تفرض التعيين.
الكوكبة مستقلة إدارياً آمرها “رئيس” أو “ملازم أول” فرنسي ومحاسب فرنسي من صف الضباط.. وهذا المحاسب الفرنسي له حق القيادة حتى على الضباط غير النظاميين ويقدمون له الصف عند الاجتماع.
اقرأ:
من مذكرات أمين أبو عساف : بدايات الحكم الفرنسي في السويداء
من مذكرات أمين أبو عساف : أسباب الثورة السورية الكبرى 1925
من مذكرات أمين أبو عساف: اشتراك حوران وعرب اللجاة في الثورة السورية الكبرى
من مذكرات أمين أبو عساف: الدخول إلى الكلية العسكرية