سلامة عبيد: تغيير المفوضين
لم يضج الأهالي من هذه السلطات الواسعة التي تركت للمفوض السامي فحسب، بل من هذا التغيير المستمر بالمفوضين والذي لا يؤدي إلا إلى الفوضى والخراب وسوء التفاهم، وقد اعتبر السوريون أنفسهم ضحية للصراع الحزبي في فرنسا فلا يبدأ المفوض الجديد يدرس المسألة التي لا يعرف منها غالياً قبل وصوله إلا ما يعرفه القارئ الفرنسي، حتى يستبدل به غيره، مما حدا بالكاتب بوناردي أن يطلق عليهم اسم (الطيور الراحلة). وكثيراً ما كان يرافق عدم الاستقرار هذا المنافسات والخصومات فكل قادم جديد يستصحب رجاله الذين يثق بهم، والذين لا يرجعهم كلهم معه طبعاً، إلى باريس.. فينجم عن ذلك “حرب مكاتب” سلاحها التقارير السرية وغالباً ما تكون سافلة حتى أن كوبلنز يثبت تصريحاً لسراي يقوله فيه أنه عاني من جي كيه ودي ريفي “معاونيه” من المتاعب، أكثر مما عاني من أدهى اليسوعيين.
كان جورج بيكو أول المفوضين الساميين إلا أنه ظل مرتبطاً إلى حد بالقيادة الإنكليزية، وخلفه الجنرال غورو الذي اقترن وصوله بإحلال الجيوش الفرنسية محل الإنكليزية وقد تخوف منه الرأي العام لما عرف عنه من ميول اكليريكية وتلمذة للمارشال “ليوتي” مدوّخ المغرب.
وطموح إلى عصا المارشالية قابلته الصحف بالنقمة وتخوفت من حبّه لسفك الدماء، وتجسمت عداوة السوريين له على افر فتح دمشق، وتجزئة البلاد إلى دول خمس، فلم ينج من الاغتيال إلا بأعجوبة. وتجاوزت هذه النقمة عليه وعلى إدارة المفوضية في سورية إلى فرنسا حتى راح الجنرال يتعجب من عدم مناصرة الرأي العام والصحف الفرنسية له ولسياسته، كما كان يحق له أن نتظر حسب زعمه.
خلف الجنرال غورو “الساذج” الجنرال فيغان “التقي” والاستعماري الأكليريكي وكان وصوله صدفه أو تعمداً، نهاء الأربعاء 9 مايو / أيار 1923م، فاستقبل المهنئين وبكر في اليوم الثاني ليشترك في القداس الرسمي في الكاتدرائية اللاتينية، بمناسبة خميس الصعود.
بدأ فيغان أخف وطأة من سلفه، وإن ظل حازماً، ولكنه ما كاد يتم دورته للتعرف إلى البلاد السورية، ويلوح باتحاد سورية استجابة لرغبات الوحدة السورية التي أبدين مراراً ماكاد يلوح بذلك، حتى استدعى برقياً في 29 نوفمبر 1924، إلى باريس، ولكنه لم يترك البلاد حتى ترك خلفه أمام أمر واقع محرج باعلانه اتحاد دولتي دمشق وحلب بقرار رقم 2980 وبتاريخ 5 ديسمبر 1924. ولا ندري الغاية التي رمى إليها الجنرال، أكان يذكر أماني السوريين عندما أقدم على ذلك، وقد بلغ قرار الاستدعاء قبل إصداره قراراه هذا بأسبوع.. أم أنه كان يريد أن يحرج موقف خلفه الجنرال “سراي”، “الماسوني وعدو الأكليروس”.
وصل الجنرال سراي، المفوض السامي الثالث بل الرابع إلى بيروت، وهو عجوز منهوك يجهل تماماً المتاعب السورية التي كانت قد وصلت حينئذ إلى ذروتها وهو بالإضافة إلى ذلك عديم المرونة كجلمود صخر رقيق العواطف ولكنه نزق قليل الجلد. كان وصوله خلفاً لقائدين أكليريكيين، نذيراً لأصدقاء فرنسا الكاثوليكية، فما كادت رجله تطأ الشاطئ اللبناني حتى بدأ النزاع العنيف بينه وبين رجال الدين في لبنان وكل يتهم الآخر بأنه هو المسؤول عن هذا النزاع حتى قبل أن المدارس الكاثوليكية التزمت الصمت دقيقة واحدة، لدى وصول الجنرال سراي إشارة على الحزن الوطني وأن موظفي المفوضية العليا بدؤوا يرجفون بحق الجنرال القادم ويطعنون في سلوكه الشخصي، فما كان يضع رجله على رصيف بيروت حتى كان مغلوباً، واشتدت النقمة عندما أرسل مندوباً عنه ولم يتجه بنفسه لحضور قداس قنصلي تقليدي لم يعتبره قداساً رسمياً، وعندما انتظر قدوم غبطة البطريرك الماروني للسلام عليه قبل أن يتوجه هو أي الجنرال لتقديم هذه الواجبات.
وازدادت هذه النقمة عندما حاول هو ومسيو كايلا حاكم لبنان، إلغاء توزيع الكراسي في المجلس التمثيلي حسب المذاهب، وتشجيع المدارس العلمانية مادياً وأدبياً، وشجب التعليم الديني. ولم يوافقه الخظ في دمشق ايضاً فقد رفض استقبال المحامين السوريين وطلب إليهم أن ينسحبوا من حضرته، كما أن قراراه بألغاء الحكم العرفي لم يغير شيئاً من الحكم الاستبدادي العسكري وقد جاء في هذا القرار :(أن كل عمل يمس بسلامة الجيش الفرنسوي أو مصالحة يحاكم صاحبه أمام القضاء العسكري الفرنسوي)، وسنبين مسؤولية هذا المفوض عن اندلاع الثورة.
سلامة عبيد: فرنسا تفرض نفسها.. (1)
سلامة عبيد: مغامز صك الانتداب (2)
سلامة عبيد: مخالفة فرنسا لصك الانتداب (3)
سلامة عبيد: سلطات المفوض السامي (4)