You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

ساطع الحصري..ملحمة حافلة بالتجارب

عبدالوهاب قتاية

لو كان ممكنا أن تتجسد قضية ما شخصا يمشي على قدمين، لما كان في التاريخ العربي المعاصر نموذج لذلك أصدق من قضية القومية العربية بما تعنيه من انتماء بلا حدود إلى الوطن العربي الكبير، والمفكر والمربي والداعية العربي، والأديب بلا حدود: ساطع الحصري.

امتدت حياته ثماني وثمانين سنة، كانت بحق ملحمة فريدة حافلة بالتحصيل والتجارب، ثم بالعمل والإنجازات، في خدمة الأمة العربية، وفكرة القومية والوحدة، وإثراء الثقافة العربية، وتطوير الحياة نحو الترقي والتقدم.في عام 1880 بدأت ملحمة حياة ساطع الحصري، بمولده في مدينة صنعاء، لوالدين عربيين من حلب الشهباء. كان والده من رجال القضاء الشرعي، تعلم في حلب والأزهر بالقاهرة، ثم تنقل في عمله في بعض أقاليم الدولة العثمانية: سوريا واليمن حيث ولد ابنه ساطع، ثم طرابلس الغرب، فتركيا.

وعلى أيدي أفراد أسرته، تلقى ساطع معارفه وعلومه الأولى، فتعلم اللغة التركية، ومبادئ العربية والفرنسية وبعض العلوم المدرسية. ثم تدرج في المدارس التركية حتى حاز الشهادة العالية في العلوم السياسية والإدارية سنة 1900. ودفعته ميوله وطموحه وإتقانه للغة الفرنسية إلى دراسة علوم الطبيعيات والرياضيات، فنبغ في الهندسة التحليلية وعلوم النبات والتاريخ الطبيعي وتحنيط الطيور.وبعد تخرجه، عمل ساطع الحصري ثماني سنوات في التعليم، بمدرسة شبه جزيرة البلقان، التي كانت تموج في تلك الفترة بالحركات السياسية والقومية العنيفة، الداعية إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية.

وفي تلك الفترة، ألف كثيراً من الكتب المدرسية في العلوم المختلفة وفي عام 1908، انتقل إلى الاستانة، حيث عمل أستاذا للتربية بجامعتها، ثم أستاذا لعلم الاجتماع في المعاهد العليا، حتى تولى منصب مدير دار المعلمين العالية، فأعاد تنظيمها، وغير مناهجها، وأدخل فيها لأول مرة دروس علم النفس والتربية وطرق التدريس، وألحق بها مدرسة للتطبيقات، وأصدر مجلة تربوية.

وقد ساعده على تحقيق أفكاره وبلورتها، سفره بلا حدود إلى مختلف العواصم الأوروبية، للمشاركة في مؤتمرات تربوية، وللاطلاع على المناهج وطرق التدريس الحديثة فيها.

وهكذا كان ساطع الحصري صاحب أثر مرموق في الإصلاح التربوي والتعليمي في تركيا، حتى أطلق عليه لقب «أبو الأتراك في التربية وطرق التدريس».وكان آخر المناصب التي شغلها في تركيا رئاسة مؤتمر المطبوعات، إضافة إلى عضوية جمعية المطبوعات العثمانية.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وانهيار الدولة العثمانية، وفي مطلع عام1919، كانت عودة ساطع الحصري إلى سوريا التي أعلن استقلالها تحت حكم الملك فيصل الأول، حيث عين مديراً للمعارف، ثم وزيرا لها. كانت التركة ثقيلة، فقد كان الأتراك قد شوهوا كل شيء وكل كلمة بمأساة تترك المجتمع بكل ما فيه من مصطلحات وأسماء أدوات في التعليم والصحافة والجيش ودواوين الحكومة، وحتى لغة العامة.

وبسرعة واحتشاد، احتدمت على أرض سوريا معركة استعادة وجهها العربي، ولسانها وثقافتها ومجدها العريق، وفي هذا المجال برز الدور التاريخي والرسالة الجليلة، للمجمع العلمي العربي ـ مجمع اللغة العربية الآن ـ الذي أسس لتولي تعريب التعليم ووضع المصطلحات العربية للعلوم والدواوين والصحافة ومختلف مجالات الحياة العامة.

كان هذا المجمع قطب الرحى في حركة التعريب، انتظمت فيه الجهود المخلصة لساطع الحصري، وصفوة العلماء الأكفاء الغيورين على اللغة القومية، والتراث القومي، والآثار أيضا من أمثال رئيس المجمع محمد كرد علي.ومن الطريف أن ساطع الحصري نفسه لم يكن حتى عودته إلى سوريا يتقن لغته العربية، فعكف بإصرار على دراستها والتضلع من علومها وآدابها، حتى أتقنها وتملك أسرار الفصاحة والبلاغة فيها.

وفوق ذلك، وفي نشاط عارم، ألف الحصري كتبا مدرسية، وزار مصر، وعاد منها بكثير من كتبها المدرسية، وأعد المناهج المتضمنة الأهداف القومية، وعمل على تأسيس مدرسة عليا للحقوق، وأخرى للطب، تدرس فيها العلوم باللغة العربية، وهو ما لا يزال ساريا حتى اليوم. كان الحلم العربي كبيرا، وكانت البداية مضيئة ومبشرة، لكن الأطماع الاستعمارية الغربية كانت بالمرصاد، فاقتسمت تركة الدولة العثمانية، واحتلت فرنسا سوريا ولبنان.

وخرج الملك فيصل الأول من سوريا، وخرج في حاشيته ساطع الحصري، ودارت معركة سياسية أخرى، قام فيها الحصري بدور مهم، وأسفرت عن اتفاق الملك فيصل مع الانجليز على توليه عرش العراق.

ولحق الحصري بالملك ليتولى شؤون التعليم، بعد أن درس نظم التعليم والكتب والمناهج في مصر، ونجح بالفعل في تأسيس تعليم عربي قومي في العراق، عبر صراع طويل مع المستشار الانجليزي لوزارة المعارف.

عشرون عاما أمضاها رائد التعليم والفكر القومي بين العمل في مجالات التربية والتعليم، ودار المعلمين العليا، وكلية الحقوق، ومصلحة الآثار، أرسى خلالها قواعد النهضة العلمية والقومية فيها جميعا.وفي عام 1941 بعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني القومية، أجبر ساطع الحصري على مغادرة العراق، وسحبت منه الجنسية العراقية.

ومع صدمة الشعور القومي صار ساطع الحصري رمزا للعروبة والنضال من أجل وحدة الأمة.. رمزا تعلقت به قلوب المثقفين القوميين، وأنشد له شاعر العراق عبدالوهاب البياتي فقال مقدما لقصيدته:

«إلى الأستاذ الكبير ساطع الحصري يوم يعود»:

عروبة أقوى من المستحيل

نادتك بالأمس فكان الرحيل

أين جناحاك، فغاباتنا

عبر الضحى يرتع فيها الدخيل

قالوا: شعوب الأرض في ثورة

فما لهذا الشعب غاف ذليل

يسوقه للقبر أطفاله

ويشتم الأرذل فيه النبيل

أين جناحاك، فغاباتنا

نامت على سر اللصوص الوبيل

الضاد لو يعلم أنا هنا

فجر لما تاه بليل طويل

تعال خذها من فمي قولة

كثيرها يمضي ويبقى القليل

كانت المحطة الأولى للمفكر العربي والأديب بلا حدود ساطع الحصري ـ بعد خروجه من العراق ـ بيروت، حيث عكف على إنجاز دراسته الرائعة عن مقدمة ابن خلدون. وفي عام 1994، دعي إلى سوريا للعمل مستشارا في شؤون التعليم، حيث ترك بصماته تاريخية، مثل إدخال النشاط المدرسي والبرامج الثقافية في المدارس، والاهتمام ببرامج تعليم المرأة وتعيينها في الوظائف وفتح أبواب الجامعة أمامها.

وفي عام 1974، شد الرحال إلى القاهرة، حيث عمل بالتدريس في كلية التربية، ثم مستشارا للإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، وساهم في إنشاء معهد البحوث والدراسات العربية بها، وعين مديرا له.

نحو عشرين عاما عاشها ساطع الحصري في رحاب مصر، عيشة متواضعة، لكن حافلة بالبحث والتأليف والعطاء في قضايا الفكر القومي، توجت بجائزة الدولة التقديرية المصرية، الخاصة بالنابهين من علماء مصر ومثقفيها، فقد استثناه الزعيم جمال عبدالناصر، وسلمه الجائزة في عيد العلم، وكان إلى جواره ضيف مصر وقتها شو إن لاي رئيس وزراء الصين وأنها أثرت في فكره القومي.

والحق أن كتب ومقالات ساطع الحصري، على امتداد حياته الحافلة، أثرت في فكر أجيال وأجيال على امتداد الوطن العربي، وكانت الرد المفحم على الأحزاب والكتاب والتيارات الشعوبية والانعزالية في أنحاء الوطن العربي.

ومن كلماته ـ مثلا ـ ردا على دعاة الفرعونية أو الانتماء الثقافي إلى حوض البحر المتوسط يقول: «إن دعاة الوحدة العربية لم يطلبوا من المصريين لا ضمنا ولا صراحة أن يتنازلوا عن مصريتهم، بل إنهم يطلبون إليهم أن يضيفوا إلى شعورهم المصري الخاص شعورا عربيا عاما، وأن يعملوا للعروبة بجانب ما يعملونه للمصرية.

إن دعاة الوحدة العربية لم يقولوا ولن يقولوا لمصر: انسي نفسك، بل إنهم يقولون وسيقولون لها: استزيدي من ثروة نفسك بالعمل على توحيد أبناء لغتك. إنهم لم يقولوا ولن يقولوا لها اتبعينا. بل يقولون وسيقولون لها: سيري إلى الأمام، ونحن نتبعك في هذا الطريق على الدوام.

في عام 1965، أعادت الحكومة العراقية الجنسية الى ساطع الحصري ودعته للعودة إلى العراق، فعاد المفكر الأديب بلا حدود إلى بيته وأولاده في بغداد. ليواصل العطاء أستاذا غير متفرغ بجامعة بغداد، وليعكف على كتابة مذكراته التي صدرت منها الأجزاء الخاصة بتجربته في العراق، وكان أمله أن تصدر الأجزاء الأخرى الخاصة بتجاربه في لبنان وسوريا ومصر عام1969، لكنه قبيل مطلع ذلك العام بأيام، أسلم الروح.

وكان آخر ما أملاه على ابنته «سلوى» ردا على رسالة من أحد الشباب العرب من حضرموت، أحبطته أحوال العرب، وانحسار المد القومي فسأله «هل مازلت متفائلا بتحقيق الوحدة العربية؟» وكان جواب ساطع الحصري:

«بني العزيز، تسألني هل مازلت متفائلا بتحقيق الوحدة الوحدة العربية؟ وها أنذا ـ وأنا في الثامنة والثمانين من العمر أرد عليك وأقول: نعم يا بني مازلت مؤمنا أن الوحدة ستتحقق رغم كل عوامل الضعف في الأنظمة العربية. وعلى الإنسان إلا ييأس أبدا.. ساطع الحصري».

المصدر
عبدالوهاب قتاية، صحيفة البيان، 10 تشرين الأول 2007



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى