مختارات من الكتب
ميشيل عفلق: نظرتنا الحية للحزب
من كتاب في سبيل البعث، الجزء الأول، الباب الثاني (14)
حديث ميشيل عفلق مع وفد البعث من لبنان عند زيارته لمقر الحزب في دمشق في شهر نيسان 1955:
النص:
سمعتم أيها الاخوان رفيقكم يقول: ان حركة البعث العربي الاشتراكي أصبحت في بلاد العرب شيئا لا يمكن نكرانه. وأستطيع ان أقول بأن حركتنا أصبحت قدر العرب في هذا العصر. والحق اننا آمنا بذلك منذ اليوم الاول الذي انطلقت فيه هذه الحركة. ولعل الشباب الذين دخلوا حديثا الى الحزب لا يستطيعون أن يستوعبوا المرحلة التأسيسية وما رافقها من إيمان وثقة واندفاع، وهم قد أتوا الى الحزب بعد أن سجل كثيرا من المواقف وخاض كثيرا من المعارك، لذلك يحسن بهم أن يعرفوا ان كل ما يقوم به الحزب الآن وما يمكن أن يقوم به في المستقبل ليس الا تحقيقا لذلك الايمان الاول، ذلك الايمان الذي لن نستطيع الاستغناء عنه في يوم من الايام حتى بعد ان يسيطر حزبنا على قدر امتنا، فهو الشرط الاساسي وهو الدعامة المتينة لحركتنا. وجدير بالشباب أن يستلهموا دوما هذا النبع الروحي وأن يعرفوا ان الذين استطاعوا أن يسجلوا شيئا في هذه الحياة، أن يسجلوا شيئا في التاريخ، هم الذين كان لهم إيمان الابطال واستطاعوا أن يحفظوا في أنفسهم براءة الأطفال وقوة اندفاعهم نحو المثل دون أن يعيروا للمصاعب ولضغط الوسط اي اهتمام.
لقد جاء حزبنا متجاوبا مع يقظة في الروح العربية، مع حاجة عميقة في روح أمتنا الى الانطلاق وإلى الخلق، فلا يجوز ان ننظر الى الحزب الا نظرة حية: إنه يجب دوما أن ينطلق ويجدد ويخلق وفي انطلاقه وتجدده وخلقه يستطيع أن يصلح نفسه ويطهر ما قد يعلق به من أدران
اياكم والنظرة الجامدة التي لا تفهم سر الحياة وكنه الحياة، فليس من عمل جدي يؤثر في الواقع ويخلق منه واقعا جديدا الا ويكون هذا العمل عملا فيه ما في البحر الواسع المتحرك من شوائب، فاذا اردتم عمل حزبكم تاريخيا فليكن كالبحر لا كالساقية الصافية، فمن السهل أن تكون حركتنا ساقية صافية ولكنها لن تروي أمة ولن تصنع تاريخا. ففي الحزب كثير من النقص، وبين ما تحقق وبين ما نرجو أن يتحقق فارق كبير، ولكننا نستطيع أن نقترب من مثالنا اذا نحن تابعنا السير، اذا ضاعفنا الهمة، لا اذا وقفنا وحولنا حيويتنا الى نقد جامد وتفكير نظري، فالحياة لا تعرف التوقف وتيار الحياة تيار مبارك طاهر مهما تكن الشوائب التي تعلق به.
وإذا وجب أن أدعوكم الى المزيد من النشاط والاستبسال والتضحية في سبيل حركتكم التي أصبحت كما قلت، قدر الامة العربية، والتي لا يمكن لأي حركة اخرى أن تنافسها او أن تحتل مكانها، اذا وجب ذلك فيجب ان أنبه الى ناحية أخرى، بأنه بقدر ما تتوسع الحركة، وبقدر ما يتسع نطاقها ويكثر عدد أعضائها يصبح واجب الفرد فيها أكبر من ذي قبل. فكل حركة، وهذه طبيعة الحركات الاجتماعية وطبيعة المجتمعات، معرضة لأن تفقد من عفويتها، من حريتها، من أصالتها، وأن تطغى عليها الشعارات التقليدية، أن تطغى عليها الالفاظ، ان تصبح صنما، فليس الاشخاص هم الذين يصبحون أصناما فحسب، فقد تصبح الحركة صنما وقد تصبح أفكارها أصناما، وهذا شر ما يمكن أن تبتلى به حركة تريد أن تخلق وتبدع
المجموع له قانون، وكل جمع مدفوع بطبيعته، بغريزته، إلى تمجيد الظواهر والشكليات والعناوين والالفاظ والصفات العامة، لأن الجمع ليس له أرهاف الفرد وحساسيته وقدرته على التعمق. فاذا أردنا أن تتابع حركتنا مراحلها بكل صدق وأمانة دون أن تبتسر أو تختصر، دون أن تتجمد وهي في نصف طريقها، وأن تعطي كل ما فيها من امكانيات الخير، إذا أردنا أن يحصل كل ذلك علينا ان نقدر دور الأفراد. فالأفراد هم الذين لا يستعبدهم الجو الجماعي، هم الذين يحتفظون بحريتهم، باستقلال تفكيرهم، بصفاء نفوسهم حتى ولو كانوا مشاركين في اندفاع المجموع. هم الذين ينشدون المعنى وراء اللفظ يبحثون عن الشيء الحي وراء التعبير العام. هم الذين يرجعون الى الصمت كثيرا ويكون كلامهم وعملهم وليدا لصمت مثمر منتج، هؤلاء هم الرقباء على الحركة، هم الذين يصححون كلما كادت تتردى في السطحية وفي التقليد، هم يخلقون التوتر في الحركة كلما ضعف هذا التوتر الداخلي، لاننا لا نستطيع أن ننكر ان مجتمعنا يحمل أوزارا كثيرة ثقيلة من عصور الانحطاط والتأخر، واننا ان لم نلح كثيرا عليه لكي تكون يقظته أصيلة وانبعاثه انبعاثا عميقا فانه يميل بطبيعته الى أن يختتم هذه المرحلة البطولية قبل أوانها، وان يقول ان امنا بكم وبحركتكم، وان يدين لنا بالطاعة والموافقة قبل أن نكون قد استخرجنا من داخل أمتنا كل الكنوز الروحية.
لا بد من زيادة التوتر والصراع، لا بد من الدفع الدائم ومحاربة كل كسل وكل ميل للراحة وكل محاولة لانهاء النضال أو اختصاره، وهذا كما قلت من عمل الأفراد، لأنهم هم الذين يشعرون بهذا الخلل وهم الذين يثور ضميرهم عندما يرون الحركة قد انساقت وراء الشعارات الاصطلاحية وجعلت كل ايمانها في ترديد الكلام والالفاظ أو تمجيد قيم هي جديدة، ولكننا اذا لم ننفخ الروح فيها يوما بعد يوم فانها ستكون كالقيم القديمة سواء بسواء.
اذكروا دوما ايها البعثيون الاشتراكيون بأن رفاقا لكم قبل عشر سنوات أو اكثر كانوا في سنكم الشابة هذه والتفوا حول رفاق سبقوهم في السن ودعوهم الى عمل تاريخي فلبوا الدعوة، في ذلك الوقت آمن هؤلاء الشباب بأنهم سيصنعون تاريخا للأمة العربية وانهم سيكونون الجنود المحاربين والشهداء لنهضة عربية أصيلة تغذي الانسانية جمعاء. فلا تقبلوا دون هذا الهدف بديلا ولا تقبلوا الا ان تكون النهضة العربية تاريخية تستخرج أعمق ما في النفس العربية من كنوز وانسانية أصيلة.
نحن حزب سياسي، لا جدال في ذلك، ولكن السياسة وسيلة، وقد أردنا أن نقول منذ البدء لشعبنا وللجيل العربي الجديد اذ عرّفنا حركتنا بأنها حزب سياسي أردنا أن نقول لهم هذا هو الواقع فلا تتلهوا بالخيال ولا تنسحبوا من مواجهة الحقائق القاسية، فالسياسة هي أكثر الأمور جدية في المرحلة الحاضرة. ولكننا اذا قصدنا ان نلح على واقعية نظرتنا في مواجهة الواقع في كل معناه ومواجهة المسؤوليات العملية بكل قسوتها، فليس معنى هذا ان السياسة غايتنا. السياسة هي امتحان لمثاليتنا: هل هي مثالية العاجزين الذين يرصفون الاوهام، أم هي المثالية الحية العملية لمن يريد أن يخلق وان يعمل. لذلك جعلنا السياسة امتحانا للايمان والمثالية، ولكنها لم تكن غاية في حال من الاحوال. حركتنا هي حركة بعث بأوسع ما في هذه الكلمة من معنى -بعث في الروح والفكر والاخلاق والانتاج والبناء وفي كل هذه المؤهلات والكفاءات العملية. واذا تذكرنا دوما بأن رسالتنا ليست أقل من ذلك وبأننا قد نتعرض بين الحين والآخر الى أن نركز عملنا على الجزء وننسى الكل، ان نذوب في الفرع ونبتعد عن الاصل، فان الافراد الواعين الحساسين فيكم، هم المسؤولون والمطالبون بأن يعيدوا الدعوة الاولى وان يذكّروا اخوانهم لكي يعود الصراع الداخلي في نفس كل فرد من أعضاء البعث، لكي يأتي هذا البعث بعثا أصيلا، ولكي نكون في مستوى القدر الذي اختارنا لتلبية حاجات أمتنا واختار الأمة العربية لتكون في المواقف الحاسمة في التاريخ منقذا وهاديا.
نيسان 1955