مختارات من الكتب
مروان حبش: حركة 23 شباط .. دواعي التفكير بالعمل العسكري (9)
من كتاب البعث وثورة آذار
كان توحيد رؤية القيادة القطرية المؤقتة حول الأزمة والمهمات المطروحة أمامها في جميع المجالات، وتوضيح الصعوبات التي تقف عائقاً أمام تحقيقها، شرطاً ضرورياً لوحدة القيادة والحزب، ومن هذه الرؤية انصبّ جهد القيادة القطرية المؤقتة، نحو ترسيخ دور المؤسسات الحزبية صاحبة الصلاحية في حل الأزمة ولم يكن في توجهاتها اللجوء إلى أساليب بديلة، ولكن الأمور على مستوى الحزب والحكم أخذت تتدهور بشكل متسارع، كما كانت أجواء القيادة القومية تتأزم باستمرار ووجهات نظر أعضائها تتباين وتتباعد، كما بدأت الانقسامات تظهر بين أبرز أعضائها، وأخذ البعض منهم يشكك بنوايا البعض الآخر، وكان الأستاذ ميشيل يرى أن مناورات اللواء عمران تُعطل كل إمكانية لحسم الأمور، ويتهمه بأنه يعمل على تعزيز الانقسام داخل صفوف القيادة، ويتهم الأستاذ صلاح بأنه لم يكن يعرف الهدف من قرارات 21/12 إذْ كان يصر على أن تصحيح الحكم مفتاح لتصحيح الحزب، وأنه لم يُطلعه على مضمون المقالات التي كتبها في جريدة البعث ولا على توقيت نشرها وفُهمت وكأنها أيديولوجية تيار القيادة القومية، وكانت عودة إلى القديم متجاهلاً ما طرأ من تطور على فكر الحزب، كما كان الأستاذ ميشيل يتهم الأستاذ صلاح ومجموعته بأنهم غارقون في مشكلات الحكم وبعيدون عن إدراك مناورات اللواء عمران الذي استطاع لفرط تأثيره عليهم أن يشل كل قدرة على التمييز والنقد لديهم تساعدهم على رؤية المخاطر التي تسير فيها الأمور.
لقد انتقلت الأزمة إلى داخل القيادة الحزبية الموسعة، وأدى ذلك إلى عجز هذه القيادة وفقدان قدرتها على إدارة الأزمة وحلها، ورغم ذلك لم يكن لبعض الأعضاء ذوي التأثير فيها، الأستاذين ميشيل وصلاح والدكتور الرزاز والفريق أمين واللواء عمران، سوى طرح تصفية ممن يُسمونهم بالمنحرفين في الحزب والانتقام من أبرز رموز الاتجاه المخالف لهم، كل ذلك تحت شعار عشش في عقولهم: (تصحيح الحزب وإبعاد المنحرفين عنه وعن مؤسسات الحزب والحكم)، وظهرت بوادر عديدة تشير إلى ذلك من أبرزها، رفض كل المقترحات التي تقدم بها الرفاق الذين يمثلون الرأي الآخر، وأهمها دعوة المؤتمر القومي الثامن إلى عقد دورة استثنائية، وإصرارهم على تغيير موازين قوى واقعية تلازم الأزمات وتبرز أثناءها، وخاصة في القوات المسلحة، كما طُرح، وبإصرار، تغيير بعض قيادات الفروع وفصل كل عضو يقف موقفاً غير ما تريده القيادة القومية.
بدأت القيادة الحزبية العليا محاولاتها لتبديل مواقع بعض الحزبيين العسكريين بقصد إضعاف الرأي الآخر، وكان كل من الفريق أمين الحافظ واللواء محمد عمران يطرح ما يجد فيه مصلحته وتدعيم مواقعه، ويقول الدكتور الرزاز: (كنا ننتظر أن نتسلح بعمران وإذا بعمران ينقلب علينا، وبدلاً من أن يعمل على تنفيذ إرادتنا يبني هو لنفسه بناءه الخاص ويجعل هدفه الأول إضعاف الفريق الحافظ وقواته، متهماً إياه بأنه هو الذي يهيئ للانقلاب وأصبح كل اقتراح يقترحه أو إجراء يتخذه يجد المعارضة الفورية من الفريق ولو كانت لمصلحتنا)، ويضيف (كنا نتخبط في التناقضات، فمن جهة تناقض الفريق أمين الحافظ مع اللواء حافظ الأسد، ثم تناقض الاثنين مع اللواء عمران، ومن جهة ثانية تناقض أكثرية القيادة مع اللواء حافظ والدكتور إبراهيم ممثلي القطريين في القيادة ، ومن جهة ثالثة خلاف أكثرية القيادة مع الفريق أمين الحافظ وخشيتها من تسلطه أيضاً ومن حلوله العسكرية ).
في حمأة هذا الصراع الداخلي في الحزب، والتسيب في السلطة، طرح شعار ( بطيخ يكسر بعضه ) من قبل قسم كبير من المواطنين، وبعضهم ينتمي إلى طبقات لها مصلحة في الثورة، وهذا دليل على أن شرعية حكم الحزب قد اهتزت في ضمير الشعب.
كانت هذه الأجواء السائدة، دافعاً لبعض أعضاء القيادة القطرية المؤقتة، من عسكريين ومدنيين، ومن إحساسهم لما يتهدد الحزب والثورة من مخاطر، كانت دافعاً لأن يطرحوا ضرورة دراسة الاختيار الآخر، أي العمل العسكري بعد أن سُدّت جميع السبل الحزبية من قبل القيادة القومية، وكان كل من أطراف هذه القيادة يعدّ العدة للقيام بانقلابه، وبالتوازي مع الإصرار على اتباع الأساليب الحزبية حتى اللحظة الأخيرة، بدأت القيادة القطرية المؤقتة بدراسة اختيار العمل العسكري وكان ذلك قي بداية الأسبوع الثاني من شهر شباط1966.
كان أول ما استوقف القيادة القطرية المؤقتة وأخذ حيزاً من النقاش، هو أن حركة عسكرية قد تكون حلقة بداية في سلسلة حكم الحزب وبالتالي قد تفتح باب الانقلابات العسكرية، الذي جاءت ثورة الثامن من آذار لتوصده إلى الأبد، وأن الجيش الذي نجهد لتحويله إلى جيش عقائدي يجب أن ينأى عن التفكير بمثل ذلك، وأن ينصب جهده على تنفيذ ما يخصه من أهداف الثورة وعلى التزامه العميق بمصالح الطبقات الكادحة.
وكان ثاني ما استوقف القيادة هو التفكير بوحدة الحزب القومية، واتجه الرأي بأن وحدة الحزب القومية تكمن في مصلحة الحزب والثورة، التي هي مصلحة الأمة العربية وجماهيرها المكافحة. لذا يجب بعد العمل العسكري، إذا حدث، العمل مباشرة على تشكيل لجنة تحضيرية، يكون أعضاؤها مرشحين من قيادات المنظمات الحزبية في الوطن العربي والخارج، مهمتها الإعداد لمؤتمر قومي منتخب، وذلك انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية التاريخية للحفاظ على وحدة الحزب وعدم تشتته، وإيماناً لا يتزعزع بحقيقة الحزب القومية.
وكان ثالث ما رأت القيادة القطرية المؤقته ضرورة بحثه هو أن يكون العمل العسكري، إذا حدث،
ترسيخاً لثورة الحزب، ونقلها إلى مواقع جادة في البناء الثوري ومكافحة الإمبريالية.
وكان رابع ما أكدت عليه القيادة المؤقتة، هو دعوة المؤتمر القطري الثاني، فوراً، بعد الحركة لانتخاب قيادة قطرية.
وتمهيداً لتنفيذ الصيغ المقترحة حول فصل السلطات العسكرية عن المدنية، طُلب إلى الرفاق العسكريين في القيادة المؤقتة الذين يفضلون اختيار العمل السياسي وضع استقالاتهم تحت تصرف القيادة، وتقدم كل من صلاح جديد، عبد الكريم الجندي، محمد رباح الطويل باستقالته، بينما رغب الباقون العمل في ميدان الجيش مع تأكيد انضباطهم العسكري بمستوى رتبهم العسكرية.
تتالت اجتماعات القيادة القطرية المؤقتة بشكل يومي لبحث الخيار العسكري وتقدير الموقف من كل جوانبه، ولكن بعض الأعضاء لم يكن بعد قد حسم أمره للقيام بعمل عسكري، ومنهم اللواء حافظ الأسد، بينما كان رأي آخرين، ضرورة الحسم بسرعة ولا ضير من تجاوز موقف اللواء حافظ، وينطلق هؤلاء من فرضية بأن موقفه سيكون إلى جانب القيادة بينما كان رأي أكثرية أعضاء القيادة، ويمثلهم اللواء صلاح جديد، ضرورة الإجماع الكامل من كل أعضاء القيادة حول هذا الأمر، ولا يجوز تجاوز أي رأي أو إهماله، وهذا شرط ضروري ومهم لوحدة القيادة مستقبلاً.
كان التقدير بأن أغلب القطعات العسكرية والفروع الحزبية المدنية والعسكرية تقف إلى جانب القيادة، وكان تقييم القطعات العسكرية كالتالي:
– قطعات الجبهة مؤيدة باستثناء رئيس فرع المخابرات وقائد الشرطة العسكرية وقائد كتيبة الهندسة في مدينة القنيطرة وهؤلاء ليس لهم فاعلية كبيرة.
– الوحدات العسكرية في قطنا مؤيدة.
– الوحدات المحيطة بدمشق، مؤيدة باستثناء الشرطة العسكرية، وهذه الوحدة يمكن السيطرة عليها ومنعها من التحرك.
– اللواء 70 غير مُسيطر عليه، ووضعت خطة من قسمين لتحقيق السيطرة عليه:1- شل حركته من قبل فوج المدفعية الصاروخية الذي يقوده عضو القيادة القطرية المؤقتة المقدم محمد رباح الطويل وكان يُعسكر وقتذاك بمنطقة اللواء، 2- إدخال عدد من الضباط الذين لا يقودون قطعات عسكرية، حينها، ليستعين بهم آمر اللواء العقيد أحمد المير محمود، إذا احتاج لهم في قيادة كتائب اللواء، إضافة إلى دعم جوي لمراقبة اللواء إذا تحرك، في حال فشل السيطرة.
– الوحدة العسكرية في السويداء مؤيدة.
– الوحدات العسكرية في القطيفة مؤيدة، باستثناء آمر اللواء المقدم موسى الزعبي.
– موقع حمص وقطعاته العسكرية مؤيدة، باستثناء آمر اللواء العقيد أحمد خضور ومدير الكلية الحربية المقدم بدر جمعة.
– القوى الجوية مؤيدة.
-القوى البحرية وفوج المدفعية الساحلية مؤيدة.
-الوحدات الموجودة في مواقع حماه وحلب والمنطقة الشرقية، هي وحدات غير فاعلة ويمكن التعامل معها بسهولة في حال عدم تأييد أي منها.
اتخذت القيادة القطرية المؤقتة قراراً بضرورة تكثيف نشاط أعضائها بين قيادات التنظيم الحزبي، وشرح ما آلت إليه الأمور، وتلمس آرائهم حول الممكنات التي يرونها للتخلص من هذا الوضع الذي آل إليه الحزب والسلطة والذي يزداد تأزماً، ويتدهور بسرعة حتى بدأت تظهر بوادر الصدام في القوات المسلحة، وأخذت ظاهرة الأسرى تتفشى، كما تفشت ظاهرة تسيير الدوريات العسكرية بين القطعات العسكرية في دمشق للتحرش والمراقبة وإثبات الوجود.
هذه هي حال الجيش الذي يفترض فيه أن يكون متماسكاً منسجماً، كما بدأت المنافسات والأحقاد تتعمق بين البعثيين، أكثر فأكثر، والكل يضع يده على الزناد نتيجة التباين في فهم واستيعاب عقيدة الحزب ونتيجة سيادة مفاهيم خاصة بعيدة كل البعد عن المفاهيم الحزبية والمنطق الحزبي، وهذا ما أدى إلى فقد المناعة، وأصبح المناخ ملائماً لكل متصيد يجيد حبك الشائعات وتشويه الحقائق.