أجرت قيادة الجيش، وضمن صلاحياتها الممنوحة لها في القانون ومن الحزب، تنقلات بين العسكريين، ولكن آمر اللواء المرابط في حمص امتنع عن تسيير العناصر المشمولة بالنقل في لوائه ، وهم ثلاثة عناصر، وأهمل أوامر وزير الدفاع، بتحريض ودعم من الفريق أمين الحافظ، الذي اعتبر أن تنفيذ هذا الأمر لعب بالجيش لا يمكن أن يوافق عليه، وبعد أن عُرض الموضوع على القيادة القطرية أعطت توجيهاً لوزير الدفاع اللواء حمد عبيد باتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ الأوامر الصادرة عن قيادة الجيش، وأصدر الوزير أوامره بفرض عقوبة انضباطية تقضي بسجن آمر اللواء، وبأمر من وزير الدفاع وبموافقة القيادة القطرية، قام عضو القيادة القطرية المقدم مصطفى طلاس، رئيس أركان اللواء، يوم 19/12 باعتقال آمر اللواء المتمرد وأربعة آخرين بينهم ضابط برتبة نقيب، وإرسالهم مخفورين إلى دمشق، وبدلاً من أن يؤكد أمين عام الحزب والقيادة القومية على تعزيز سلطة قيادة الجيش والقيادة القطرية، اعتبرا أن هذا الأمر خطير جداً، واتخذت القيادة القومية منه، وهو موضوع عادي ونظامي، القشة التي قصمت ظهر البعير، والذريعة التي هبطت عليها من “السماء الأرفع”، وأقدمت بتاريخ 21 كانون الأول 1965، على نشر نتائج اجتماعاتها، ومما قررته بالنسبة للقطر السوري، وأذاعته على التنظيم الحزبي في نشرتها رقم 6/8 تاريخ 22/12/1965:
– تشكيل قيادة موسعة تشرف على شؤون الحزب والحكم والجيش في القطر على أن تضم هذه القيادة جميع أعضاء القيادة القومية يضاف إليهم عدد من الرفاق من القطر السوري شرط أن لا يزيد عددهم عن عدد أعضاء القيادة القومية، وهذا يعني حل القيادة القطرية.
– تعلق مواد النظام الداخلي التي تتعارض مع هذه القرارات.
– تستمر القيادة القومية في ممارسة جميع السلطات العسكرية والمدنية والحزبية- التي قررت تسلمهابعد حادث حمص- حتى يتم تشكيل القيادة الحزبية.
ولما تحقق للمطالبين بحل القيادة ذلك الأمر، رجع القائد المؤسس للاشتراك في اجتماعات القيادة القومية، بعد أن كان قد قاطعها مدة من الزمن، كما أن القيادة القومية، قبل اتخاذ قرار الحل، أقدمت على استنفار جميع القطعات العسكرية، وربط الأمين العام بشخصه تحركات الضباط وإجازاتهم.
اتخذت القيادة القومية هذه القرارات رغم نصيحة الكثير من النشطاء الحزبيين وتحذيرهم لها، وخاصة مَنْ زار منهم الأمين العام، من المخاطر التي ستعقب حل القيادة القطرية والانقلاب على السلطة فيما إذا كان هناك تفكير باتخاذ إجراء كهذا.
ناقشت القيادة القطرية في اجتماع مطول لها بتاريخ 23/12/1965 لم يحضره الأمين القطري الفريق أمين الحافظ، قرار القيادة القومية، وأجمع أعضاؤها على:
ـ أن قرار القيادة القومية، هو انقلاب حقيقي على الحزب والحكم.
ـ أن القيادة القومية قد تخطّت الشرعية الحزبية، وخالفت توصيات المؤتمر القومي الثامن، وأحكام النظام الداخلي.
ـ أن القيادة القطرية، ستلتزم بقرار الحل، بسبب أن وحدة القيادة الواجب توفرها قد فُقدت، وبالتالي لم يعد باستطاعتها ممارسة مهامها بشكل فعال.
ـ أن الرفاق أعضاء القيادة القطرية سيعملون على حماية التيار الحزبي الذي يؤيد القيادة القطرية من التصفية، وعدم السماح بالمساس بالمؤسسات الحزبية قبل انعقاد المؤتمر القطري أو المؤتمر القومي بدورة استثنائية لمناقشة أسباب قرار القيادة القومية، واتخاذ التوصيات بشأنه.
ـ الطلب إلى القيادة القومية، دعوة المؤتمر القطري، أو المؤتمر القومي إلى عقد دورة استثنائية لبحث الأزمة الجديدة وإقرار ما يراه مناسباً.
كما اتفق أعضاء القيادة القطرية على ضرورة الالتقاء بشكل دائم لمراقبة التطورات اللاحقة.
لم تستجب القيادة القومية إلى طلب القيادة القطرية عقد دورة استثنائية لأي من المؤتمرين القطري أو القومي، وقررت تعيين قيادة مركزية سمتها القيادة الحزبية العليا، تتكون من أعضاء القيادة القومية ويضاف إليهم عشرة أعضاء يعينون من التنظيم الحزبي، سمّت منهم: صلاح البيطار، اللواء محمد عمران، سليمان العلي، إلياس فرح، زيد حيدر، عبد القادر نيال، أما الباقون فقد حاولت القيادة القومية أن تُعين بعض أعضاء القيادة القطرية التي صدر قرار بحلها، فاعتذر من اقتُرِحت أسماؤهم، وبالتالي لم تُسْتكمل القيادة.
بدأ انقلاب القيادة القومية يأخذ أبعاده، فكانت باكورة أعمالها، إقالة أعضاء القيادة القطرية في مجلس الرئاسة، وإقالة وزارة الدكتور يوسف زعين وتعيين وزارة جديدة برئاسة الأستاذ صلاح البيطار الذي لم يكن يثق بالقيادة الحزبية العليا، واشترط حين قبوله تكليف تشكيل الوزارة، أن لا تسقط وزارته إلا بموافقة ثلثي أعضاء القيادة، كما اشترط أيضاً نقل العديد من الضباط الحزبيين من مواقعهم.
كما أن القيادة الحزبية العليا، رغم أنها قد زادت عدد أعضاء المجلس الوطني بالمرسوم التشريعي 22/8/1965 وأصبح 134 عضواً، عمدت إلى إنهاء عضوية أعضاء القيادة القطرية في المجلس الوطني للثورة.
شكلت القيادة الموسعة لجاناً لزيارة فروع الحزب في المحافظات، وشرح ما أقدمت عليه القيادة القومية، وواجهت اللجان المذكورة، في أغلب الفروع التي زارتها، معارضة شديدة للإجراءات المتخذة لعدم شرعيتها ولمخالفتها الصريحة للنظام الداخلي للحزب، ونتيجة لتلك المعارضة، أصدرت القيادة القومية بتاريخ 10/1/1966 نشرة عللت فيها، ثانية، سبب قرارها، ومما ورد فيها أنّ القيادة القطرية:
– قلّصت واستبدلت المفهوم القومي للحزب بمفهوم قطري، وأنها قد تسلطت وألغت حقيقة الحزب القومية وحولته إلى جهاز إداري يخدم السلطة.
– لم تستجب في المؤتمر القطري الاستثنائي (مؤتمر آب 1965) الذي سبق حل القيادة القطرية منذ أكثر من خمسة شهور إلى اقتراح القيادة القومية بتعليق النظام الداخلي وجمع الصلاحيات في يد القيادة القومية، تمسكاً منها (أي القيادة القطرية) بالأشكال النظامية، وحرصها على شكليات النظام الداخلي.
وورد فيها، أيضاً أن:
– الخلاف مع القيادة القطرية لم يكن مجرد صلاحيات بل هي أزمة تتعلق بالمفهوم القومي للحزب.
– الأزمة قد وصلت إلى حد أصبح معه الصراع على السلطة بين العسكريين يهددبالصدام العام وتدمير الثورة وتبين أن الأزمة تستعصي على المعالجة إلا بحل القيادة القطرية.
– القيادة القومية لم تقم تكتلاً جديدا عندما لجأت إلى تعيين القيادة الحزبية الجديدة .
وفي الرد على رسالة من قيادة فرع حماة بتاريخ 28/12/65 تستفسر فيها عن الأسباب الحقيقية لحل القيادة لعدم اقتناعها بالمبررات التي وردت في نشرات القيادة القومية، حدد الأمين العام في إجابته نقاطاً ثلاث اعتبرها قاسماً مشتركاً بين جميع القيادات القطرية التي تولت المسؤولية منذ الثامن من آذار، وهي:
1 – التسلط العسكري فيها وعليها.
2 – إهمال القيادة القومية وتركيز السلطة القطرية.
- – عدم وقوفها أمام بعض الانحرافات الفكرية وتشجيعها أحياناً لها.
بدأت القيادة الجديدة إعداد قوائم بقصد تصفية الموالين للقيادة القطرية، وكذلك كان الفريق أمين الحافظ يطرح بإلحاح ضرورة تطهير الجيش من جميع الضباط الذين لا يوالون القيادة الجديدة،كما اقترح لجوء القيادة الجديدة إلى أحد المعسكرات الموالية، ومنه تشن هجوماً على أنصار القيادة القطرية إذا لم ينصاعوا لما سيُتَخذ بحقهم من إجراءات، ولكن بعض أعضاء القيادة الحزبية العليا كان على خلاف مع الفريق ويخشى من تسلطه ومن الحلول العسكرية التي يطرحها لإنهاء التخبطات التي تتخبط بها القيادة، كما كان الفريق يتهم القيادة بالتآمر عليه، وفي الوقت نفسه كان بعض أعضاء هذه القيادة في خشية من ألاعيب اللواء محمد عمران، وكانت مناوراته واضحة جداً، “فوسطاء الخير الذين أصلحوا ما بينه وبين الأستاذ صلاح في الصيف عند قدومه من إسبانيا في إجازة، وأقنعوا الأستاذ صلاح والأستاذ ميشيل، ثم الفريق أمين الحافظ، دون علمنا، فإن اللواء عمران متفق معهم في الرأي، وأنه لا يرى حلاً لأزمة الحزب إلاّ بحل القيادة القطرية “، وحسب تصور القيادة القومية، فإن مهمة اللواء محمد عمران تتلخص في:
– إعادة الانضباط إلى الجيش الذي فقد كل معنى من معاني الانضباط العسكري أو الحزبي.
– إبعاد الضباط المتسلطين وبخاصة المقدم عزت جديد والرائد سليم حاطوم.
ولكن القيادة الحزبية العليا أدركت بأن اللواء عمران بدأ يبني قواعده الخاصة في الجيش، ويأخذ خطاً مناهضاً للفريق، وكان (يؤخر كل إجراء لنقل أي ضابط من الذين يهم القيادة نقلهم حتى ينتهي الشهر الذي حددته القيادة وحصرت حق نقل الضباط فيها)، وبعدها تعود إليه السلطة في إجراء ما شاء من التنقلات، (وكلما أردنا أن نتخذ قراراً بنقل الضباط الذين اتفقنا على نقلهم، أخبرنا بأن نقل هؤلاء يحتاج أولاً إلى تغييرات في موازين القوى لنضمن تنفيذ أوامر النقل وإلا تعرضنا لعصيانهم وانقلابهم على الحكم، وقدم لنا قوائم بنقل ضباط آخرين من مراكز عملهم تستهدف أول ما تستهدف أنصار القيادة القومية وأنصار الفريق).
كان اللواء محمد عمران، في الوقت نفسه، يتفاوض مع الأستاذ صلاح البيطار ومع بعض أشخاص من الوحدويين الاشتراكيين، للقيام بانقلاب يهدف إلى:
1ـ إبعاد كل أعضاء اللجنة العسكرية، بما فيهم (هو) إذا اقتضى الأمر، شريطة أن يعود بعد فترة.
2ـ استلام الرفيق صلاح البيطار منصب رئيس الدولة.
وفي مجال التنظيم الحزبي في القطر السوري، كانت القيادة الحزبية الموسعة قد قررت إعادة النظر في تركيب الحزب وفي إعادة تنظيمه مجدداً، وتوجيهه وفق توجهات القيادة الجديدة .
وفي مجال الحكم، فقد عجزت الحكومة عن تنفيذ أية خطوة إيجابية، مدة ثلاثة وخمسين يوماً التي قضتها في السلطة، ولقد دخلت الحكومة وخرجت ولم تنتج شيئا، (كنا نسمع جعجعة ونريد أن نرى الطحن)، و (إذا كان في القيادة من التناقضات ما يمنعها ويعطلها، فمجلس الوزراء لم يكن فيه تناقض إطلاقاً ).
وعلى الصعيد الشعبي، بدأت الأجهزة المختصة بالإيعاز لتشكيل وفود من أحياء مدينة دمشق ومن المدن الأخرى، لتقديم التهنئة إلى الفريق أمين الحافظ، رئيس مجلس الرئاسة، وإلى الأستاذ صلاح البيطار رئيس الوزارة، على خطوة حل القيادة و (بعض البسطاء من بين أعضاء الوفود،حسبوا أن ما تم في سورية هو ما حصل في العراق نفسه، في الردة التشرينية، حتى بعض أعضاء الوفود التي أمّت قصر الضيافة يوم الأربعاء 5كانون الثاني 1966 قال: “الحمد لله يا سيادة الرئيس اللي خلصتنا من حزب البعث)،كما أن الصحف كانت تكتب وعلى امتداد عدة أيام عن استمرار تدفق الوفود إلى قصر الضيافة ودار الحكومة لإعلان التأييد الكامل لإجراءات القيادة القومية.
في هذه الأجواء المشحونة التي تنذر بالخطر على مصير الحزب والثورة، طلب الكثيرون من قيادات الفروع والشعب الحزبية من القيادة القطرية، ضرورة تحمل مسؤوليتها في قيادة التنظيم الحزبي وتوجيهه، وفي لقاء لأعضاء القيادة القطرية، تمت الموافقة على الاجتماع باستمرار، كمؤسسة حزبية قيادية لحماية الحزب وصيانة حكمه، وطلبت من بعض الرفاق النشطاء، أعضاء المؤتمر القطري، التوجه بكتاب إلى القيادة القومية موقع من ثلث أعضاء المؤتمر، لعقد دورة استثنائية له، عملاً بأحكام المادة 61 فقرة 8، والمادة 87 فقرة 2 من النظام الداخلي لعام 1965، والتي تنص: (تعقد المؤتمرات الحزبية دورات استثنائية بناء على دعوة من القيادة المختصة أو بناء على طلب ثلث الأعضاء الأصلاء للمؤتمر، وعلى أمين القيادة توجيه الدعوة لعقد المؤتمر خلال مدة أقصاها الشهر، وفي حال عدم دعوة المؤتمر من قبل القيادة المختصة يحق للأعضاء الذين تقدموا بالطلب تشكيل لجنة تنظيمية لها الحق في الدعوة والتهيئة لعقد مؤتمر استثنائي وإذا توفر النصاب القانوني تصبح قراراته ضمن صلاحياته قرارات ملزمة)، ولقد تم تقديم هذا الطلب إلى القيادة القومية بتاريخ 25/1/1965، وقررت القيادة القطرية،أيضاً:
ـ عدم دعوة الفريق أمين الحافظ وحسام حيزة إلى اجتماعاتها للموقف المعادي الواضح للقيادة
بالنسبة للأول، ولتعاطف الثاني معه.
ـ توسيع القيادة بإضافة بعض أعضاء اللجنة العسكرية المنحلة إليها، وتم إضافة كل من العقيد أحمد المير محمود، العقيد أحمد سويداني، الرائد مصطفى الحاج علي.
ـ الاتصال الدائم بشكل فردي مع الأمين العام الدكتور منيف الرزاز، لحثه على ضرورة دعوة المؤتمر القطري أو المؤتمر القومي لدورة استثنائية، وكذلك تم تكليف بعض الرفاق المدنيين والعسكريين من غير أعضاء القيادة، للقيام بالغرض نفسه.
ـ تشكيل لجنة يحضرها أي من أعضاء القيادة التي سمّت نفسها “القيادة القطرية المؤقتة”، مهمتها إعداد التقارير التي ستوضح وجهة نظر القيادة في الأزمة، وفي الوضع السياسي، على أن تُنجز التقارير وتقدم إلى أحد المؤتمرين قبل الموعد المحدد لعقدهما بدورة استثنائية.
كان توجه القيادة القطرية المؤقتة، حل الأزمة، عن طريق المؤسسات الحزبية ذات الاختصاص واستبعاد أي عمل عسكري، وفعلاً قام أكثر أعضاء القيادة المؤقتة والنشطاء الحزبيون بلقاء الأمين العام، وألحوا عليه ضرورة أن تأخذ مؤسسات الحزب دورها لحل هذه الأزمة، وطُرحت عليه اقتراحات بديلة في حال عدم الموافقة على دعوة أحد المؤتمرين لدورة استثنائية، ومن هذه الاقتراحات، إجراء انتخابات حزبية لعقد مؤتمر قطري جديد، ولكن الأمين العام ومعه بعض أعضاء القيادة القومية، كانوا يواصلون التأزيم إلى نهاية الشوط وكانت إجابته إلى كل الذين حاوروه تتلخص في:
ـ عدم دعوة أي مؤتمر لدورة استثنائية.
ـ عدم إجراء انتخابات حزبية إلا بعد تخليص الحزب من (المنحرفين).
ـ إعادة الحزبيين الموالين للأستاذين ميشيل عفلق وصلاح البيطار إلى التنظيم، (علماً أن هؤلاء لم يتقدموا بطلبات عودة إلى الحزب، لا في فترة الانفصال ولا بعد الثامن من آذار).
اقرأ:
مروان حبش: حركة 23 شباط.. المؤتمر القومي الثامن (6)