مختارات من الكتب
جميل مردم بك .. فلسطين الجرح الدامي في فؤاد الأمة العربية
تميم مردم بك- صفحات من حياة جميل مردم بك (19)
كانت فلسطين قبل حرب عام 1914 العالمية جزءاً من الدولة العثمانية وهي رقعة صغيرة من الأرض مساحتها نحو 26 ألف كيلو متر مربع. فلما انهارت الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 وقعت فلسطين بين مخالب الاستعمار البريطاني من ناحية وجشع اليهودية العالمية من ناحية أخرى. وجعلت تتخبط بين هاتين القوتين العظميين وليس لها من ناصر ولا معين إلا الله.
ولم يكن لدى أهلها من وسائل المقاومة والدفاع ما يستطيعون به دفع أذى أو رد عادية.
وبالرغم من ذلك كله قامت جماعة من أبناء فلسطين المخلصين يبذلون جهودهم الضئيلة، وينظمون صفوفهم القليلة، ويؤلفون جبهة متواضعة أمام تلك القوى الدولية العاتية، وكان سلاحهم الوحيد الإيمان والإخلاص.
وبالرغم من عدم التكافؤ بين القوتين والجبهتين، فقد نشبت معركة هائلة طويلة المدى لم تلن فيها لعرب فلسطين قناة ولم تهن لهم عزيمة في كل أدوار الكفاح والنضال، مدة ثلاثين عاماً، حاول خلالها الاستعمار البريطاني ـ متآمراً مع اليهودية العالمية ـ بلوغ أغراضه ومقاصده في فلسطين بالوسائل الآتية:
حاولوا بادئ ذي بدء أن يحملوا عرب فلسطين على الرضوخ والإذعان لخطتهم الغاشمة والموافقة على سياسة إنشاء الوطن القومي اليهودي الذي وعدهم به بلفور.
فلما أسقط في أيديهم جعلوا أكبر همهم شراء أرض فلسطين بالمال وامتلاك البلاد عملياً بهذه الوسيلة، فألقوا بمئات الملايين من الجنيهات، فارتفعت أسعار الأراضي عشرات الأضعاف بل إلى مئات الأضعاف أحياناً. ولكن عرب فلسطين صمدوا أمام هذه التجربة أيضاً وقد بلغ ما بيع من الأراضي حتى انتهاء الانتداب البريطاني عام 1948 / 15 أيار فقط سبعة بالمئة من مجموع مساحة أراضي فلسطين.
ما انفك الإنكليز ـ منذ احتلالهم فلسطين ـ يساعدون اليهود بمختلف الوسائل على التسليح والتدريب والتنظيم العسكري، في حين كان كل ذلك محرم على عرب فلسطين.
بقي زعماء اليهود يعملون متعاونين مع البريطانيين على إيجاد الظروف الملائمة لإجلاء عرب فلسطين عن بلادهم وتسليمها لليهود، وقد تعهدوا على تسليم فلسطين لليهود خالية من سكانها العرب!!…
في شهر آذار 1942 خطب بن غوريون في تل أبيب قائلاً:
“إن الصهيونية قد انتهت من وضع خطتها النهائية وهي أن تصبح فلسطين دولة يهودية. وإن اليهود لا يستغنون عن أي قسم من فلسطين، حتى قمم الجبال وأعماق البحار”.
وفي ديسمبر 1944 عقدت اللجنة التنفيذية العامة لحزب العمال البريطاني مؤتمراً كان من أخطر المؤتمرات في تاريخ هذا الحزب، وبعد بحث قضية فلسطين اتخذت قراراً بالإجماع: “بتحويل فلسطين إلى دولة يهودية، وإخراج أهلها العرب منها إلى الأقطار المجاورة”، ولم تعترض الحكومة البريطانية على ذلك المبدأ الأثيم.
لم تعد المطامع اليهودية الخطيرة في البلاد العربية المجاورة لفلسطين خافية، فإن زعماء اليهود المسؤولون جاهروا ويجاهرون بأن فلسطين لا تكفيهم، وأنها ليست إلا “مركز وثوب” لتحقيق أهداف الصهيونية العالمية، وهي الاستيلاء على بقية فلسطين والأردن وسورية ولبنان والعراق وسيناء والدلتا المصرية ومناطق خيبر وبني قريظة وبني النضير، وغيرها من الأراضي الحجازية المجاورة للمدينة المنورة، بما فيها قسم كبير من المدينة المنورة نفسها، بحجة أنها كانت موطنهم في القرون الماضية، وقدموا طلباً باستعمارها إلى الملك عبد العزيز آل سعود مقابل عشرين مليون جنيه ذهباً بواسطة الرئيس الأمريكي روزفلت، عندما قابله في فندق الفيوم القائم على بحيرة قارون في مصر عام 1945، ولكن الملك عبد العزيز رحمه الله رفض بكل شدة وإباء.
ولا يحاول اليهود إخفاء مطامعهم بل يتحدّون الأمة العربية كلها بوقاحة واستخفاف!… فهم ينقشون على واجهة الكنيست عبارة “أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل”. ولا يتسع المجال للتفصيل في مطامع اليهودية والصهيونية في هذا الكتاب بل أكتفي بالأمور التي لها علاقة بجميل مردم بك، والأحداث التي جرت في فترة ما بعد استقلال سورية.
هكذا ضاعت فلسطين:
لم تكتمل فرحة سورية بالجلاء بسبب قلق أهلها والدول العربية على مصير فلسطين التي تفاقمت فيها موجات الغزو الصهيوني المتعاقبة وأحداث داخلية وصراعات مع اليهود.
دعا مجلس الجامعة العربية إلى عقد دورة استثنائية في بلودان بسورية في 8 حزيران 1946، حضرها ممثلون عن مصر والعراق والأردن واليمن والسعودية وفلسطين وسورية ولبنان. مثَّلَ سورية سعد الله الجابري ـ فارس الخوري ـ جميل مردم بك ـ ولطفي الحفار، وكان أمين عام الجامعة عبد الرحمن عزام باشا.
وفي اليوم الأول لانعقاد المؤتمر انبثقت عنه لجنة داخلية بناءً على قرار مجلس الجامعة مؤلفة من الأعضاء التالية أسماؤهم:
• الشيخ يوسف ياسين: عن المملكة العربية السعودية.
• حمدي الباجه جي: عن مملكة العراق.
• الدكتور فوزي الملقي: عن إمارة شرق الأردن.
• علي المؤيد: عن إمامة اليمن.
• صائب سلام: عن لبنان.
• جميل مردم بك: عن سورية.
• لطفي الحفار: عن سورية
وانتخبت تلك اللجنة الداخلية لطفي الحفار رئيساً لها وصائب سلام مقرراً. ومثل فلسطين جمال الحسيني.
بعد بضع جلسات معلقة ومداولات ومباحثات خرج المؤتمر بتوصيات… ما أنزل الله بها من سلطان!!!… ظن العرب بعدها بأن فلسطين ستعود لأهلها سالمة غانمة.
وبدأ الخلاف العربي وبدأت المشاحنات في طريقة حلّ الأزمة الفلسطينية.
في أثناء وجود سعد الله الجابري رئيس الوزراء في القاهرة على رأس وفد سورية، تأزم الوضع بدمشق ودب الخلاف بين سائر الوزراء. فأوفد شكري القوتلي رئيس الجمهورية رئيس ديوانه لزيارة الجابري في مصر الذي ألمّ به مرض مفاجئ. وقيل أنه أرسله ليطمئن عليه، وقيل لأخذ إعلان استقالته منه شفهياً.
“بعد أن زاد ألم المرض بسعد الله الجابري عاد إلى حلب. وفي صباح اليوم العشرين من شهر حزيران 1946 توفي زعيم العروبة رحمه الله وحزنت عليه البلاد حزناً شديداً؛ فقد كان خسارة كبرى لسورية. وقد أقيم للفقيد الكبير حفل تأبين على مدرج الجامعة السورية بدمشق 05/04/1948 حضره رئيس الجمهورية شكري بك القوتلي ورئيس الوزراء جميل مردم بك رئيس لجنة التأبين والعديد من زعماء العالم العربي. وقد ألقى جميل مردم بك كلمة فيما يلي مقاطع منها:
سيدي الرئيس: أتقدم إليكم بوافر الشكر وعظيم الامتنان على تفضلكم بحضور هذه الحفلة التي نقيمها تخليداً لذكرى رفيق من رفاق الجهاد وأخ من أحب الأخوان.
وأرفع آيات الحمد إلى حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق عاهل مصر والسودان الذي تفضل فأوفد مندوباً خاصاً ليمثله في هذه الحفلة اعترافاً بما للفقيد الغالي سعد الله الجابري من مكانة مرموقة في نفوس أبناء الضاد.
وأقدم إلى صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية جزيل الشكر على تفضله بإيفاد من يمثله تقديراً لما يتمتع به الراحل الكبير من مقام سَني في القطر الشقيق اللبناني.
كما وإنني أزجي من الشكر أَبْلَغَهُ ومن الثناء أغزره لكبار رجالات العرب الذين تكرموا بالحضور أو بإرسال كلماتهم مشاركةً لنا في هذا الرزء الأليم، الذي هو في الحقيقة رزء العرب أجمعين.
عاش الجابري ومات في سبيل هذا الوطن، لم يخفق قلبه إلا لمجد أمته، ولاصَبَتْ نفسه إلا لصيانة بلاده، ولا شعر بألم غير ألمها، ولا سعد إلا بسعادتها. ما عرف الوهن في اللقاء، ولا الخور في العزيمة والمضاء، ولا ألان قلبه يأس، ولا حطم إرادته طغيان.
كان المثل الكامل للرجولة، عف السريرة، متوقد الذكاء، سريع الخاطر، حاضر البديهة، لا يبالي ما يعترض طريقه في الجهاد من عقبات وعثرات، مضحياً بالنفس والنفيس في سبيل مَثَله القومي وهَدَفه الوطني، حتى زهد في متع الحياة، وما فكر إلا في بلاد الشام وطنه الصغير، وبلاد العرب وطنه الكبير.
وكانت كرامته بكرامة وطنه، بل كان يجعل كرامة الوطن فوق كل كرامة وعزة الوطن فوق كل عزة، كما كان في وفائه لصحبه وإخوانه نسيجٌ وحده، فلم يحاول أن يبني مجده الشامخ وشرفه الباذخ على أشلاء أخدانه وهياكل أترابه، بل أنه يقر بفضل كل ذي فضل، ويقدر عمل كل عامل مخلص، مصرحاً بذلك في خطبه وأحاديثه على رؤوس الأشهاد.
ولقد احتل مكانة سامية ومنزلة عالية لدى رجالات العرب في مختلف أقطارهم ومتباعد ديارهم، لما لمسوا فيه من المزايا الرفيعة والخصال المنيفة التي عزّ مثالها وبعد منالها، فهفت إليه القلوب وتطلعت إليه النفوس وانعقدت على حبه الخناصر وضمت على إجلاله الجوانح.
وكان في جميع المحافل الأجنبية مثال الرجل الجريء في صراحته، القوي في حجته الصلب في حق وطنه وأمته.
سيدي الرئيس: في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا ونضالنا القومي نفتقد سعد الله الجابري في إخلاصه وشدة مراسه وفيض عبقريته وذكائه فلا نجده، ونشعر بالفراغ العظيم الذي خلّفه فقده، فإذا غاب عنا وجهه وتوارى تحت أطباق الثرى شخصه فإن أحدوثته الذكية وسيرته الرضية وأعماله الطيبة ستبقى أبداً ماثلة لعيوننا، وسنمضي قُدماً لتحقيق ما تعاهدنا عليه من رفع اسم بلاد الشام عالياً، وتحرير البلاد العربية وتحطيم ما ترسف فيه من أغلال الرق وقيود العبودية، حتى تعود الأمة العربية سيرتها وتواصل رسالتها في خدمة الحضارة والإنسانية، لأننا نؤمن إيماناً ثابتاً لا يتزعزع بأن الناس قد ولدوا أحراراً ولا حق لأحد أن يسومهم ذل الرق وخسف الاستعباد أو يرضخهم إلى هوان الاستعمار وقيد الإسار.
وإن هذه الجمهورية السورية المستقلة التي ساهم سعد الله الجابري في تشييد بنيانها وترسيخ أركانها برغم حداثة عهدها وبداءة نشأتها سائرة نحو أهدافها الكبرى ومثلها العليا.
وإن جامعة الدول العربية التي كان لفقيدنا العزيز قسطه الوافر ونصيبه الكبير في مراحل تطورها ورفع صرحها الرفيع وتأثيل عزها المنيع، ماضية في سبيل جمع شمل العرب والدفاع عن حقوقهم وبلوغ أعز أمانيهم وأكرم آمالهم.
ذلك هو العهد الذي تنعم روح سعد الله الجابري بالوفاء به وتحقيقه، لا الدمع الصبيب والأسى الكثيب. وهو من نستمد من روحه السامية القوى لإتمام ما بدأناه وإنجاز ما حاولناه من تحرير دنيا العرب وتذليل كل عثرة تعترض سبيلهم وتعوق نهضتهم وتؤخر بعثهم، ومهما كانت الأنواء شديدة والعواصف ثائرة صاخبة فإن سفينة العالم العربي سائرة باسم الله مجراها ومرساها إلى الشاطئ الأمين، وهي بالغة بحول الله وعونه وبفضل إخلاص القادة والوعي القومي والشعور المرهف والآمال والآلام التي أورثنا إياها تاريخ مليء بالمفاخر الباقية والمآثر الخالدة، إلى ما تهفو إليه وترجوه.
فعلى رجال الحكم في بلاد العرب أن يتخذوا من حياة سعد الله الجابري مثالاً يحتذى، وأسلوباً يسطر على غراره وينسج على منواله إذا كانوا يحرصون على بلوغ الغاية وإدراك الوطر القومي والأرب العربي، ويرغبون في أن يخلد التاريخ أعمالهم وتبقى على الدهر صحائفهم، حتى لا تدهمنا الحوادث ولا تنغصنا المفاجئات ولا تبعد بنا عن إدراك أهدافنا الخطوب والنوائب.
فمن عاش كما عاش سعد الله الجابري، وتحلى بما تحلى به من وطنية في الحكم وفي خارج الحكم، واستقر في صميم الشعب كما استقر، وسهر على مصالحه كما سهر، وأدرك ما يضطرب في فؤاده ويهجس في نفسه أخلق به أن يحقق الأمل ويدرك الوطر ويبلغ الغاية ويخلد في ديوان الإنسانية وسفر النهضة القومية الوطنية.
شكّل جميل بك الوزارة الجديدة في 27/12/1946، وانعقد في القاهرة مؤتمر الجامعة العربية برئاسته وعضوية نعيم أنطاكي وزير الخارجية، وأهم الموضوعات التي عالجها المؤتمرون كان موضوع فلسطين، الذي أخذ يزداد سوءاً وتعقيداً وتآمراً سافراً من بريطانيا وأمريكا على حقوق أبنائها والعرب جميعاً.
في عام 1947 جرت في سورية انتخابات جديدة في 07/07/1947 فنجح قسم من لائحة “الحزب الوطني” المنبثق عن “الكتلة الوطنية” فاز فيها: فارس الخوري ـ سعيد الغزي ـ صبري العسلي ـ أحمد الشرباتي ـ جورج صحناوي ـ نسيب البكري ـ جميل مردم بك، ومن قائمة حزب الشعب: سامي كبارة ـ منير العجلاني ـ زكي الخطيب، والشيخ محمد المبارك من قائمة العلماء، وحبيب كحالة صاحب جريدة المضحك المبكي من الحزب القومي العربي، ونوري الابش ـ نوري الحكيم ـ محمد آقبيق ـ فريد أرسلانيان من المستقلين.
في 29 تشرين الثاني 1947 قررت هيئة الأمم المتحدة تقسيم فلسطين بين العرب الفلسطينيين واليهود الصهاينة. كان رئيس الوزراء آنذاك جميل مردم بك التي شكلها بتاريخ 06/10/1947. وفي منتصف شهر أيار 1948 وقعت كارثة فلسطين، ولم تجد البلاد العربية بداً من محاربة إسرائيل، فدخلت جيوشها فلسطين لإنقاذها من الغاصبين وحققت معارك رابحة، ولكن مجلس الأمن الذي انعقد في العاشر من حزيران فرض هدنة على الطرفين كانت في البداية مؤقتة ثم أعقبها هدنة بُنيت على المفاوضات، فأعلنت الأحكام العرفية في سورية، وسُمّي رئيس الوزراء جميل مردم بك حاكماً عسكرياً لها. وتم حل جيش الإنقاذ في 15/ أيار 1948 وتقرر استبداله بالجيوش النظامية.
زحفت الجيوش العربية من مراكز تحشّدها في الساعة العاشرة من صباح يوم 15 أيار 1948 إلى هدفها فلسطين، كما روى ذلك فوزي القاوقجي قائد جيش الإنقاذ في مذكراته. وكانت محطات الإذاعة في العواصم العربية تذيع خطب رؤساء الدول والحكومات على الشعوب واعدة إياها باقتراب ساعة تصفية الحساب مع اليهود، مؤكدة لهم النصر، ومظاهر الأفراح قائمة في كل مدينة عربية وفي كل قرية، ولم يكن أحد من العرب يشك في النصر الموعود، سوى القيادة العامة لهذا الجيش (ويذكرني ذلك بما حدث عام 1967 وخطابات عبد الناصر وصوت العرب إذاعة أحمد سعيد وغيرها من الإذاعات العربية)!!…
ابتهج الفلسطينيون وتحمسوا كثيراً لدخول الجيوش النظامية، لاعتقادهم أنه قد جاء الفرج واقتربت ساعة النصر النهائي. قام جيش الإنقاذ برفد الجيوش العربية بقواته وسلاحه وخبرته التي اكتسبها في معاركه السابقة، وجرت معارك ضارية منها معركة المالكية العظيمة التي رفعت معنويات الجيوش العربية. وتتالت الضربات على القوات اليهودية. يقول عبد الرحمن عزام باشا لفوزي القاوقجي عندما سأله: ما رأيك بطلب الهدنة؟ فأجابه فوزي: لست أرى معنى لها فنحن نتقدم على العدو في كثير من المعارك. فأجابه عزام باشا: “إن الأميركان والإنكليز يضغطون علينا ضغطاً شديداً، لنقبل الهدنة. وقوات الجيوش العربية يشكون من قلة العتاد، ويطلبون قبول الهدنة” قال القاوقجي: “إنني استغرب هذه الشكوى وهم لم يخوضوا بعد أية معركة كبيرة تستنفد العتاد وتحملهم على الشعور بالضعف”!!… قال عزام باشا: “إنه أمر لا بد منه؛ فالحكومات العربية مشتركة مع القواد في الرأي بضرورة قبول الهدنة” قال القاوقجي: “إن الهدنة معناها إعطاء فرصة لليهود ليزيدوا من تسلحهم…”
وفي نهاية الحديث قال القاوقجي لعبد الرحمن عزام باشا: “أرجو منك أن تبذل ما بوسعك لإحباط مشروع الهدنة فقد تكون مبدأ كارثة فلسطين”.
ساد الجبهة مع اليهود هدوء نسبي مرده إلى انشغال اليهود باستعداد واسع النطاق نتيجة ما يصلهم من أسلحة وعتاد وأفراد، بينما العرب في لهوهم يعمهون وفي اجتماعاتهم والمؤتمرات السياسية ضائعون وعن اليهود ساهون.
في 11 حزيران 1948 قام اليهود بهجوم مضاد بعد قصف شديد. ثم تلاه هجوم آخر في 20 حزيران. وكانت أمريكا وانكلترا ترسلان البوارج من البحر لقصف القوات العربية. وصمد العرب صموداً مشرفاً لكن عُقدت هدنتان: الأولى في 11 حزيران 1948 والأخرى في 18 تموز 1948، وانسحبت الجيوش العربية من فلسطين، وانقلب الوضع رأساً على عقب.
كان جميل بك قد عارض بشدة الموافقة على الهدنة الأولى والثانية، والتي كانت الموافقة عليها سبباً مباشراً للهزيمة. ولكنه اضطر في المرتين للموافقة تحت ضغط المصريين والعراقيين والأردنيين الذين كانوا لا يزالون يعانون من الاحتلال البريطاني.. وكانت الحكومة الوحيدة التي تساند سورية هي حكومة لبنان المستقلة التي يرأسها السيد رياض الصلح. وكذلك رفض اتفاقية الهدنة التي دعيت إليها سورية لتوقيعها في رودس.
وفي خضم هذه الأحداث أطلق اليهود النار على “الكونت برندوت”، وهو الوسيط الدولي الذي عينته الأمم المتحدة للتفاوض مع العرب والصهاينة.
وبما أنني لست في معرض التأريخ للكارثة الفلسطينية المفجعة، التي لا زال الشعب العربي يدفع دماء أبنائه ثمناً لها ويدفع ثرواته البشرية والمادية في سبيلها. لذلك لن أتوسع في تفاصيل أحداثها الدقيقة ومواقف رؤساء الدول العربية والعالمية من هذه المأساة.
في 22 آب 1948 شكل جميل مردم بك وزارة جديدة عقب استقالة وزارته السابقة في 18 آب. وفي 01/12/1948 قدم جميل مردم بك استقالة وزارته الأخيرة التي كانت مؤلفة من: جميل مردم بك رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية والدفاع، وسعيد بك الغزي وزيراً للمالية. ومحمد العايش وزيراً للاقتصاد الوطني. وقُدمت الاستقالة إلى رئيس الجمهورية شكري بك القوتلي. وتألفت الوزارة الجديدة برئاسة خالد بك العظم الذي احتفظ بوزارة الخارجية والدفاع. ثم وقع انقلاب حسني الزعيم.
“قبل الحديث عن مجريات وأسباب انقلاب حسني الزعيم لا بد من الحديث عن كيفية عودته إلى الجيش بعد أن سُرح منه”.
ولي وقفة مع الأستاذ عدنان الملوحي في كتابه “أيام الشام” الذي يتحدث فيه عن أسرار ودقائق المجريات التي عاشها وهو الصحفي المخضرم والمواكب للأحداث عن قرب خلال الفترة العصيبة من حياة سورية.
يقول الأستاذ عدنان الملوحي:
في أحد أيام نيسان 1947 أقام أحد أنصار العهد الوطني حفلة كبرى حضرها حوالي ألف مدعو في مقدمتهم الرئيس شكري القوتلي وأقطاب العهد الوطني وكبار رجالات البلاد… في مزرعته الخاصة في غوطة دمشق.
كان الرئيس شكري القوتلي يجلس في صدر السرداق الذي أقيم في المزرعة يحيط به عدد من الوزراء والنواب وكبار المسؤولين ورجال الدولة، وكلهم يكنّون لفخامته التقدير والاحترام…
ولكني لاحظت بعض الفتور بين الرئيس القوتلي ورئيس الوزراء السيد جميل مردم بك. وبدا واضحاً أن بين الرجلين الكبيرين بعض الخلاف حول الموقف من قضية إعادة حسني الزعيم إلى الخدمة، كما فعل الرئيس القوتلي، بينما كان الرئيس مردم بك يرفض هذه البادرة ويحذر ويصف الزعيم بأنه متهور مغامر… وقد يُعرّض البلاد للخطر ويتصرف تصرفاً غير مسؤول. وكان رأي السيد جميل مردم بك في الحقيقة صائباً وصحيحاً أيضاً في هذا الأمر. وهو أن من كان يخدم في صفوف الجيش الفرنسي العدو، وتحت علمه الأسود، ويؤدي له التحية في الصباح والمساء، لا يصح أن يخدم أو يعاد إلى الخدمة في الجيش الوطني، خاصة وأن حسني الزعيم كان مدمناً على شرب الخمر وتعاطي القمار، ولم يُعرف عنه موقف وطني مشرّف في حياته على الإطلاق.
بينما كان الرئيس القوتلي برقة قلبه وحبه للإحسان إلى الناس يقول للرئيس جميل مردم بك: “عفا الله عما سلف… وحسني مسكين ودرويش ولا شوكة ولا دباحة… وبدو سلتو بلا عنب!!…”
يتابع الملوحي حديثه قائلاً:
وأذكر أن الرئيس جميل مردم بك أشار إليّ بيده وهو يجلس بجانب رئيس الجمهورية في صدر السرادق في تلك الحفلة الكبرى، فلما اقتربت منه نظر إلي الرئيس القوتلي بطرف عينه، فقال لي السيد مردم بك: (أحضر غداً الساعة الحادية عشرة إلى مكتبي في رئاسة الوزراء لتنضم إلى الوفد المرافق، ولتسافر معنا إلى لبنان حيث سأُمثل سورية في الاحتفال بعيد استقلال لبنان الشقيق وجلاء القوات الأجنبية عن أرضه..)
فرحت كثيراً وشكرت الرئيس مردم بك على بادرته الطيبة نحوي، وكان بيني وبينه معرفة طيبة… وإن لم أكن على اتفاق معه في الرأي، ولكنه والحق يقال، ذكي وألمعي وعلى قدر كبير من المعرفة بالسياسة، وإنك لتعجب لهذا الرجل النحيل القصير القامة الصغير الرأس، كيف استطاع أن يتقدم على سائر رفاقه من رجال الرعيل الأول، وأن يتولى رئاسة الحكومة وأكثر من ثلاثة وزارات معها في بعض الأحيان عدة مرات!!… وفي ظني أن السيد جميل مردم بك كان ذكياً إلى حد يفوق الوصف، وربما كان يفوق في ذكائه فيصل بن عبد العزيز وإن اختلف الكثيرون فيمن هو أذكى!!…
أعود إلى الحديث عن حسني الزعيم في كتاب عدنان الملوحي:
بعد نقل حسني الزعيم وتسلمه لمنصبه الذي قفز منه إلى السلطة، ساءت العلاقة كثيراً بين رئيس الحكومة السيد جميل مردم بك ورئيس الجمهورية السيد شكري القوتلي، وكان من نتيجة ذلك وبسبب الدسائس التي كانت تحاك في القصر الجمهوري ضد السيد جميل مردم بك لحمله على الاستقالة، أن أضطر مُكرهاً إلى التخلي عن الحكم والسفر إلى منفاه الاختياري في القاهرة. وبذلك تمكن خالد بك العظم من تأليف الوزارة الجديدة.
يقول عدنان الملوحي:
في تلك الفترة العصيبة بعد هزيمة العرب في فلسطين 1948 رأيت من واجبي بل من صلب عملي ومهمتي أن أهرع إلى دار السيد جميل مردم بك رئيس الوزراء يومئذ، لأسأله عن هذا الذي يجري في الخفاء والعلن، على حد سواء، للإطاحة بالعهد الوطني والنظام الديمقراطي والقيام بانقلاب على أثر الهزيمة الأولى المُرّة في فلسطين، على يد الولايات المتحدة الأميركية والصهيونية العالمية وصنيعتها إسرائيل… وسألته وهو في حالة من الذهول والإحباط بسبب ما جرى وما وقع، فقال لي وكأنه يحاول إيجاد المبررات والأعذار عن كل ما حدث: “لقد حذرت فخامة الرئيس، خاصة في الآونة الأخيرة، من مغبة عودة حسني الزعيم إلى الخدمة، ومن خطر بقائه في منصبه الذي يشجعه ويغريه للقيام بانقلاب تدفعه إليه وتغريه للقيام به الولايات المتحدة الأميركية، التي تخطط لإثارة الفوضى في سورية والبلدان العربية الأخرى، وللقيام بانقلاب فيها، لتقوية إسرائيل وتمكنها من الوصول إلى أهدافها العدوانية، وبالتالي لتحقيق أهدافها وهي التغلغل والتسلل إلى بلادنا العربية وفرض وجودها وسيطرتها عليها، ومع ذلك فإن فخامته لم يأبه لتحذيري، وها هم، يا بُني يريدون حملي على تقديم استقالة حكومتي ليخلو لهم الجو. وليجدوا في الوزارة القادمة، مجالاً للوصول إلى الانقلاب المنشود والموعود!!…
وأذهلتني المفاجأة، بل هذه المكاشفة والمصارحة، وقلت في نفسي: لعل السيد جميل مردم بك، وهو يقول ويصرح بذلك، لا يريد ترك الحكم، بل يريد البقاء فيه، لاسيما هو الذي اشتهر كثيراً بأنه متمسك أكثر من غيره بالحكم والسلطة. ولكن الرجل بحكم موقعه وتأثيره الكبير والمباشر على الأحداث ودوره الفاعل فيها، ربما كان حريصاً على أن يجنب البلاد ـ وهو أحد أبرز رجالاتها ـ خطر هذا الانقلاب الذي يحذر منه، والذي يهدد البلاد التي لم تنعم بالاستقلال والاستقرار إلا منذ عهد قريب لا يزيد عن عامين!!..
قال لي السيد جميل مردم بك والكلام لعدنان الملوحي: “ربما قدمت استقالة حكومتي لرئيس الجمهورية في وقت قريب جداً، وسأغادر البلاد بعد ذلك إلى القاهرة لأقيم فيها… وإذا قدّر لي، يا بُني، أن أعود، ولا أظن أنني سأعود، وإذا قُدّر لبلادنا أن تَسْلم من شر هذا الانقلاب الذي يطل برأسه الأسود، ولا أظن ذلك، وإذا استيقظ فخامة الرئيس من غفلته، ولا أظن ذلك…
لقد كنت على خلاف مع السيد جميل مردم بك، لتمسكه الشديد بالحكم والسلطة… ولكن الرجل، والحق يقال، كان ذكياً وشجاعاً، وكان ديمقراطياً أيضاً، وكان معارضاً شديد البأس للانقلابات والدكتاتوريات، وهو يعرف خطرها الشديد على البلاد، والتي تقلب الحياة رأساً على عقب وتسبب الدمار والإرهاب والفوضى والعذاب للشعب والأمة!!…
وإذا نادى السيد جميل مردم بك بإنقاذ البلاد من خطر الانقلاب وحذر منه، فإنني أُقدّر له هذا الموقف الذي لم يقفه يومئذ رجال العهد الوطني وعلى رأسهم رئيس الجمهورية السيد شكري القوتلي، الذي كانت المياه تجري من تحته وهو لا يدري، وكان مع غيره من رجال العهد الوطني المحيطين به في غفلة عن هذا الخطر الداهم القادم، وكانوا يظنون أن السيد جميل مردم بك يحذر من خطر غير موجود ومن شيء لا أساس له!!…
بعد سفر السيد جميل مردم بك إلى القاهرة، وقد ودعته على سلم داره، قامت حكومة خالد بك العظم، كما هو معدّ ومخطط، وبدا واضحاً أن ساعة الانقلاب تقترب، وأن نهاية العهد الوطني والحياة الديمقراطية قد اقتربت هي أيضاً، وأن سورية مقبلة على أحداث خطيرة جسام… ولكن بعض الأعين كانت مغلقة وغافلة، ورئيس الجمهورية السيد شكري القوتلي في غفلة عما يجري في الخفاء وعلى بعد خطوات منه!!…
وقد حدثت حالة من الفوضى والضياع والاعتقاد بأن البلاد على أبواب انقلاب، وأن حسني الزعيم سيقوم به نيابة عن الولايات المتحدة الأميركية!!…
لكن الرئيس شكري القوتلي كان يستبعد قيام انقلاب في سورية رغم أنه سمع به من بعض المقربين إليه ومن بعض الموظفين… وبدا واضحاً تماماً أنه كان لا يشعر بشيء مما يجري حوله، أو كان يُقنع نفسه بأنه لم يخطئ بإعادة حسني الزعيم إلى الخدمة!!…
يقول الأستاذ عدنان الملوحي:
وأنقل هنا أوراقي التي كتبتها واحتفظ بها منذ تلك الأيام من عام 1949 هذه الواقعة:
أرسلني ابن عمي الحاج رشيد الملوحي، وهو صحفي وطني قديم، ومن أقرب المقربين إلى الرئيس شكري القوتلي يوم 12/02/1949 إلى دار الرئيس القوتلي القريبة من داره في حي (بستان الرئيس) قرب محلة الجسر الأبيض، وقال لي: إنه تحدث إلى فخامته حول الانقلاب الوشيك الوقوع وقال له: “إن ابن عمي عدنان، قد علم بهذا الأمر الخطير من رئيس الوزراء المستقيل السيد جميل مردم بك الذي سافر إلى القاهرة بعد أن يئس من إقناع الرئيس القوتلي بوجوب إبعاد حسني الزعيم وإنهاء خدمته قبل أن يورط البلاد فيما ينوي توريطها به”.
وصلت بيت فخامة الرئيس وأدخلني رجل شركسي إلى غرفة الضيوف، ولم يلبث الرئيس القوتلي أن دخل من غير اكتراث ولا اهتمام، ووقفت احتراماً له وبادرني قائلاً: “أنت ما تزال يا بني صغيراً للخوض في مثل هذا الأمر الذي حدثني الحاج رشيد عنه وأنك على معرفة به، فأنا الذي أعرف كل شيء!! وأعرف أن حسني الزعيم لا يفكر في انقلاب ولا في شيء آخر وما يهمه هو تأمين عيشه وسلامته وسعادته، ولا شوكة له ولا دبّاحة… اذهب يا بني، وسلم لي على ابن عمك الحاج رشيد، وأرجو لك النجاح في عملك الصحفي الجديد”!!…
وانصرف الرئيس القوتلي وتركني وحدي ولم أجد بداً من الخروج والعودة إلى ابن عمي لأخبره بما وقع لي مع فخامته.
إن الغرفة التي عاد إليها الرئيس القوتلي، وهو البطل الوطني والمناضل الكبير من أجل الاستقلال، بعد أن ودعني على تلك الصورة التي وصفتها وأثرتْ في نفسي كثيراً، هي نفسها الغرفة التي اقتحمها عليه ليلة الانقلاب رجال حسني الزعيم وأيقظوه من نومه وحملوه إلى سجن المزة بلباس النوم جزاء ما قدمه لبلاده وشعبه وأمته وما بذله في سبيل استقلالها وسيادتها وحريتها.
ولعل عدم الخوض والاسترسال في ما ورد في كتاب عدنان الملوحي حفاظاً على كرامة وشرف المواطن العربي الأول كما سماه عبد الناصر. وأكتفي بما سبق ذكره وأنوه إلى أن أول عمل قام به حسني الزعيم غداة انقلابه هو توقيعه بناء على طلب أمريكا اتفاق “التابلاين” الذي رفض جميل بك وشكري بك توقيعه والذي كان من أحد أسباب الانقلاب.
وأختم الكلام عن حسني الزعيم بما ورد في كتاب محمد سهيل العشي “فجر الاستقلال في سورية منعطف خطير في تاريخها”:
يقول محمد سهيل العشي:
في حوالي 25 آذار 1949 استدعت السفارة البريطانية في دمشق السيد المحامي الأستاذ (عصام الإنكليزي) وأعلمته وجود محاولة انقلاب على القوتلي. وفي السابع والعشرين من آذار استدعت سفيرنا (إدمون حمصي) وطلبت إليه إبلاغ القوتلي بأن انقلاباً يعدّه حسني الزعيم قائد الجيش ضده.
“نادى الرئيس شكري القوتلي حسني الزعيم في مساء 29/03/1949 ليلاً، فدخل إلى مكتبي وقال: خيراً يا سهيل ماذا يريد فخامة الرئيس؟ أجبته: لا أدري لكنه يريدك فوراً. ورافقته إلى مكتب الرئيس في الطابق العلوي، وعدت إلى مكتبي وبعد حوالي نصف ساعة، رأيته يدخل إلى مكتبي وعيناه مغررتان بالدموع وقال لي: يا سهيل، إذا كان في سورية رجل تُقَبَّل قدمه وليس يده، فهو هذا الرئيس شكري القوتلي!! أنا أُتّهم بالقيام بانقلاب؟ معاذ الله، لقد أقسمت لفخامة الرئيس أن هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة، وهي ملفقة وكاذبة ومغرضة!!…
وقد أجاد التمثيل لدرجة صدقته، كما صدقه فخامة الرئيس قبلي. وبدأتُ أُطيبُ خاطره حتى هدأ، وقفل عائداً من حيث أتى إلى القنيطرة مركز قيادة الجبهة.
وفي حوالي الساعة الثالثة من صباح يوم 30 آذار 1949 وقع الانقلاب.