مختارات من الكتب
جميل مردم بك .. اغتيال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر
تميم مردم بك- صفحات من حياة جميل مردم بك (14)
في السابع من تموز عام 1940 اغتيل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، فحاول بهيج الخطيب إلصاق تهمة القتل بالوطنيين، حيث اعتقل منهم ما يقارب من ثمانين وطنياً. وبالرغم من اكتشاف القتلة الحقيقيين، وكان بينهم: رجل يدعى أحمد عصاصة والشيخ معتوق، فإن بهيج الخطيب طلب من القاتل أن يزج بأسماء زعماء الكتلة الوطنية مقابل السعي للتخفيف عنه، فادّعى عصاصة بأسماء مثل: عاصم النائلي وشكري القوتلي وجميل مردم بك ولطفي الحفار وسعد الله الجابري، مما دفع بزعماء الكتلة للهرب من دمشق، بينما بقي شكري القوتلي في حماية قنصل السعودية. وتوجه جميل بك ولطفي الحفار إلى العراق ولحق سعد الله الجابري بهما فيما بعد.
تفصيل عملية اغتيال الشهبندر لعلاقة ذلك بجميل مردم بك وصحبه:
ما أن غادر آخر مريض عيادة الدكتور شهبندر وقت الظهيرة، حتى أقبل عليها خمسة من المجرمين، يحمل أحدهم سلة تفاح كهدية، سلمها للخادم إبراهيم الكردي، ودخل اثنان العيادة، وانتظر آخران خارجها، وبقي الخامس أمام مدخلها قريباً من سيارة أجرة.
تقدم أحد المجرمين “أحمد عصاصة” من الشهبندر الذي همّ بمعاينته، فأطلق عليه رصاصة من مسدس أصابته في رأسه فاستشهد على الفور، وفر المجرمون دون أن يشاهدهم أحد سوى الخادم الذي أفزعه المنظر وشلّ حركته، بينما امتطى المجرمون السيارة التي كانت بانتظارهم لتنقلهم إلى البساتين المحيطة بدمشق حيث يتوارون فيها.
انتشر نبأ الجريمة كالبرق، فعم الحزن والأسى. وفي اليوم التالي شيعت البلاد شهيدها إلى مثواه الأخير، ودفن في جوار صلاح الدين الأيوبي.
تمكنت قوات الأمن وبسرعة فائقة من إلقاء القبض على المجرمين الخمسة:
1 ـ عادل عصاصة الملقب بأحمد.
2 ـ أحمد طرابيشي.
3 ـ محمد معتوق.
4 ـ عزت الشماع.
5 ـ سعيد الحصري.
وبعد استجوابهم أصدر النائب العام مذكرة بتوقيف عدد من المواطنين كان من بينهم بعض قادة الكتلة الوطنية ورجالاتها في دمشق.
مذكرة توقيف الأظناء التالية أسماؤهم:
1 ـ عادل بن محمد عصاصة الملقب بأحمد ـ مواليد دمشق 1921.
2 ـ أحمد بن قاسم الطرابيشي ـ مواليد دمشق 1920.
3 ـ محمد صالح بن الشيخ أحمد معتوق ـ مواليد دمشق 1919.
4 ـ سعيد بن أحمد الهندي الملقب بالحصري ـ مواليد دمشق 1920.
5 ـ عزت بن توفيق الشماع ـ مواليد دمشق 1920.
6 ـ سامي بن سعدو الحفار ـ مواليد دمشق 1912.
7 ـ محمد بن خيرو الحافي ـ مواليد دمشق 1919.
8 ـ خليل بن إبراهيم الغندور ـ مواليد دمشق 1922.
9 ـ عاصم بن غالب النائلي ـ مواليد دمشق 1913 .
10 ـ جميل بن عبد القادر مردم بك ـ مواليد دمشق 1893.
11 ـ سعد الله بن عبد القادر الجابري ـ مواليد حلب 1892.
12 ـ لطفي بن حسن الحفار ـ مواليد دمشق 1890 .
13 ـ محمد الحرش ـ مواليد دمشق 1920 (فار).
14 ـ فوزي القباني ـ مواليد دمشق 1898 (فار).
الجدير بالذكر أن السبب في حشر أسماء بعض قادة الكتلة الوطنية ورجالاتها في مذكرة التوقيف، أن عصاصة اعترف في إفادته الأولية بعد توقيفه بأن عاصم النائلي (مدير مكتب جميل بك) وسامي الحفار أكدا له أن الشهبندر كافر خائن وعميل للإنكليز ولهذا لا بد من اغتياله وبأنه بعد الاغتيال ستنقلهم سيارة إلى العراق، وأن جميل مردم بك وسعد الله الجابري ولطفي الحفار سيدفعون لمن يقوم بهذه الجريمة مبلغاً من 300 ـ 400 ليرة ذهبية. إن هذه الإفادة التي نفاها النائلي منذ البداية، ثم تراجع عنها عصاصة أمام المحكمة ليست سبباً كافياً للزج بالكتلة الوطنية في هذه الجريمة لولا نوايا سلطات الانتداب وحكومة المديرين برئاسة بهيج الخطيب في إحداث انشقاق وطني بين الكتلة الوطنية والهيئة الشعبية (الموالية للشهبندر).
المحاكمة:
أصدر المفوض السامي الفرنسي قراراً بتشكيل محكمة مختلطة خاصة للنظر في الجريمة. تألفت من رئيس فرنسي هو القاضي “فورييه” وعضوين فرنسيين، وعضوين سوريين. ومثّل النيابة العامة فيها السيد “مصطفى حكمت العدوي”، وعين الجنرال “كويتو Couetoux” محققاً عسكرياً، وسميت هذه المحكمة “بالمجلس العدلي”. وفيما يلي (قرار الاتهام) الصادر عن النيابة العامة بدمشق لدى المجلس العدلي في قضية مقتل الشهبندر الصادر في 26/10/1940. وإني أذكره كاملاً ليرى كل أعمى بصيرة، وكل من لا يرغب أن يعرف الحقيقة، وكل من يتجنى على عمالقة الكتلة الوطنية، ويعرف أن أبناء العائلات العريقة لا تقتل خصومها، فهي أطهر من ذلك وأكثر نبلاً:
إن النائب العام لدى المجلس العدلي القائد مصطفى حكمت البدوي بناء على التحقيق الجاري… يعرض ما يلي:
منذ عدة سنوات كان أحمد عصاصة يجتمع بصورة منتظمة إلى المدعوين صالح معتوق وأحمد الطرابيشي وسعيد الحصري وعزت الشماع، وكان يجتمع من جهة أخرى إلى سامي الحفار ومحمد الحرش وخليل غندور ومحمد الحافي.
وأنه قبل الجريمة بشهر ونصف تقريباً، أي في 29/05/1940، بينما كان أحمد عصاصة ماراً في سوق الحميدية دعي من قبل سامي الحفار إلى الجامع الأموي فدخلا إلى الجامع حيث التقيا بأبي صياح الحرش ومحمد الحافي وبأبي فياض الغندور وفوزي القباني وشاب عُرف أثناء المقابلات أنه عاصم النائلي، وكان هذا الأخير يقول: إن الدكتور شهبندر جاسوس إنكليزي وهو عامل على تفريق الكلمة وتمزيق الكتلة الوطنية. وقد دار الحديث عن وجود خونة كالدكتور، وقد قيل عنه بأنه عدو الدين والكتلة، فاتفق جميع الحاضرين على اغتياله وعلى الاجتماع في اليوم التالي في منزل عصاصة.
وفي 30/05/1940 اجتمعوا كلهم ما عدا فوزي القباني في منزل عصاصة، وقد طال الاجتماع ساعة تقريباً، وكان الحديث يدور حول الموضوع السابق، وكان عاصم النائلي يقول إن الشهبندر إنكليزي السياسة ويرغب في إدخال الانكليز إلى هذه البلاد، وهو الذي فرّق الكلمة في البلاد وأوصلها إلى هذه الحالة، وكان الجميع يوافقون على هذا الكلام ويقولون عن الدكتور أنه “خائن ومضر بالبلاد” ويمدحون الكتلة، وجرى بحث في كيفية تنظيم الاغتيال، فأصروا جميعهم عليه، وأن سامي قال لهم: بعد الاغتيال ستنقلنا سيارة إلى العراق فيما إذا عُرفنا، وإن معيشتنا مؤمنة هناك من قبل جميل مردم بك وسعد الله الجابري ولطفي الحفار، وأيد هذا الوعد عاصم النائلي، وقال عصاصة أن جميع المسلمين سيعطفون علينا بعد الجرم، وكل شيء مؤمن لنا في العراق، وأننا سنقبض بعد ارتكاب الجريمة ثلاثمائة أو أربعمائة ليرة عثمانية بواسطة عاصم النائلي، يدفعها جميل مردم بك وسعد الله الجابري ولطفي الحفار، وتقرر أن يقوم عصاصة بالكشف على مكتب الدكتور وسيحضر بالاشتراك مع سامي الحفار الأسلحة اللازمة بواسطة الشاب المذكور أعلاه.
في اليوم الثاني في 01/06/1940 اجتمع في الجامع الأموي بناء على اتفاق سابق، كل من سامي الحفار والغندور والحافي وعصاصة، وقالوا بأن الرجل الشريف هو جميل مردم بك وجماعة الكتلة الوطنية وأن جميل مردم بك كان قد تحمل مشاقاً وذهب إلى باريز. وقالوا أيضاً بأن الفرج قريب، وقد حان وقت العمل فاتفقوا جميعاً على اغتيال الدكتور شهبندر وإعلان الحرب على حزبه، واتفقوا أن يجتمعوا في اليوم التالي.
وفي اليوم التالي، 02/06/1940، اجتمع في الجامع الأموي بناء على اتفاق سابق كل من عصاصة والحرش والغندور والحفار، وطلبوا من عصاصة أن يجد مريضاً ليذهب معه إلى عيادة الدكتور شهبندر ليكشف المحل، وقالوا له أنه سيجد الحافي في منتصف سوق الحميدية، وإن هذا الأخير سيعطيه دراهم. وبالفعل وجد عصاصة الحافي أمام الجامع الصغير ينتظر في سوق الحميدية، ولما رآه الحافي سلمه خمساً وعشرين ليرة سورية بدون أي طلب من عصاصة، فسأله عصاصة عن السبب فأجابه الحافي: إن ذلك أجرة معاينة الطبيب.
في 03/06/1940 أخذ عصاصة صديقه أحمد الطرابيشي إلى عيادة الدكتور شهبندر، فعاينه الدكتور ودفع له عصاصة ثلاث ليرات سورية أجرة المعاينة، ولما سأل الدكتور عن اسم المريض أجابه عصاصة فوراً أنه يدعى حيدر رمضان، وكان ذلك بناءً على التعليمات المعطاة له من قبل سامي الحفار، وقد أيدّ ذلك دفتر أسماء المرضى للدكتور شهبندر.
ولما عاد عصاصة إلى الجامع الأموي وجد الحفار والحافي والحرش والغندور والقباني، وأن هذا الأخير عندما شاهد عصاصة آتياً قال: ها هو قد أتى، وذهب بعد ذلك فسرد لهم عصاصة كل ما جرى معه وكل ما رآه عند الطبيب، وأعاد إلى محمد الحافي 22 ليرة سورية المتبقية، عندئذ قال له سامي الحفار والحرش: يجب أن تتفرغ عدة أيام لإيجاد أشخاص يرافقونك إلى عيادة الطبيب.
في 5 أو 6 حزيران 1940 مساءً قرع باب دار عصاصة رجل لم يتمكن التحقيق من معرفته، فسلم عصاصة كيساً يحتوي على مسدس وغلاف ومشطين قائلاً له: خذ هذا فإن الجماعة أرسلوه إليك. وقد أثبت التحقيق أن الحرش كان قد اشترى الغلاف من عند السروجي إسماعيل سوار وكان في ذلك الحين يرافقه عصاصة.
في يوم 8 أو 9 حزيران 1940 تقابل عصاصة مع أبي صياح الحرش فسأله الأخير عما إذا كان استلم المسدس فأجابه عصاصة بالإيجاب.
وفي يوم 15 أو 16 حزيران 1940 قضى أبو صياح الحرش ليلته في منزل عصاصة، ولما سأله عصاصة عن هذه المؤامرات انبرى أبو صياح الحرش بمدح جميل مردم بك قائلاً: “إنه على استعداد أن يضحي بحياته في سبيل حزب جميل بك وأنه بعد خمسة عشر يوماً يكون الناس جميعهم ضد الدكتور شهبندر”.
وبعد مدة، عقد اجتماع في دار محمد الحرش ضم الحرش والحفار والغندور والحافي، وقد تذاكر هؤلاء بالخطة التي يجب اتباعها في الاغتيال، فاتفقوا على أن يكون ذلك يوم الأربعاء في 3 تموز 1940 مساءً، على أن يكون الاجتماع في المسجد الأموي، واتفقوا أن يقوم الغندور بإطلاق الرصاص يساعده الباقون بإتمام الجريمة.
ولما أعلمهم الغندور أن ليس لديه سلاح، فأجابه الحفار أنه سيزوده بمسدس، وطلب الحفار إلى عصاصة أن يذهب معهم ليرشدهم إلى دار الدكتور، فذهب الحفار وعصاصة والحرش والحافي والغندور، وأرشدهم عصاصة إلى الدار. وفي هذا الاجتماع قال الحرش والحفار: بعد الاغتيال ستقبضون من جميل مردم بك ولطفي الحفار وسعد الله الجابري ثلاثمائة أو أربعمائة ليرة ذهبية وسيرسلونكم إلى العراق عن طريق قرايا الملح.
في 25 حزيران 1940 ذهب عصاصة بناءً على طلب محمد الحافي إلى الجامع الأموي، فوجد فيه الحرش والغندور والحافي والحفار ولم يتمكن التحقق من معرفة الحديث الذي دار بينهم في هذا الاجتماع، إنما ثبت من اعتراف الأظناء أنهم كانوا متفقين على اغتيال الدكتور الشهبندر في ذلك اليوم، وأن الغندور أظهر استعداده للقيام بهذه المهمة، فوزع سامي الحفار مسدسان على الغندور والحافي وكان هو والحرش مسلحين، فأصبحوا كلهم مسلحين عدا عصاصة على ما يظهر، فخرجوا من الجامع قاصدين مكتب الشهبندر، فدخلوا جامع دك الباب حيث أدوا صلاة المغرب ثم توجهوا إلى عيادة الشهبندر، فرأوا أمام مكتب الدكتور شخصاً قال لهم: عودوا فإن الدكتور لم يحضر، وقد قيل عن هذا الشخص أنه ابن الطباع أو ابن الطباخ، ولكن التحقيق والمقابلات العادية التي جرت لم تتمكن من معرفة هذا الشخص، فذهبوا بعد ذلك إلى دار عصاصة واعتذر الحفار والغندور إلى دار عصاصة وظل الحرش والحافي في تلك الليلة في دار عصاصة، وقد اعترف الحرش إلى عصاصة بناء على طلب وإلحاح الثاني للأول أنهم قادمون لاغتيال الشهبندر، بناءً على طلب جميل بك وسعد الله الجابري ولطفي الحفار، وأن هؤلاء الثلاثة سيساعدونهم مادياً ومعنوياً فيما إذا قُبض عليهم، وهم الذين أخبروا الحرش عن وجود الدكتور في مكتبه في ذلك النهار، وأن المسدس الذي أُرسل إلى عصاصة هو ملك أحد فلاحي الغوطة من رجال جميل مردم بك.
في 3 تموز 1940 اجتمع سامي الحفار والحافي وعصاصة في الجامع الأموي. وقد انتقي الغندور لاقتراف الجريمة، إنما خاف هذا الأخير نتيجة هذا العمل فترك الاجتماع وفرّ إلى السويداء، ولم يسفر هذا الاجتماع عن شيء.
في نهار الخميس المصادف 4 تموز اجتمع عصاصة إلى سامي الحفار بناءً على طلب هذا الأخير بواسطة غلام في جامع الياغوشية في الشاغور، وقد شاهد هناك أيضاً الحرش والحفار، وقد طلب هذان الشخصان إلى عصاصة أن يقوم باغتيال الشهبندر وشجعاه على هذا العمل بتحريض من جميل مردم بك وسعد الله الجابري ولطفي الحفار وأقنعاه بلزوم القيام بهذه المهمة مع بعض رفاقه لكونهم غير مشبوهين، وقال سامي الحفار أنه أراد أن يقوم عدة مرات بهذه المهمة إنما لم ينجح لكونه مشبوه، ولهذا السبب أسندوا إلى عصاصة هذه المهمة، فقبل عصاصة حينئذ، ورسم له سامي الحفار الخطة التي يجب اتباعها، واتفقوا أن يجتمعوا في اليوم الثاني أي يوم الجمعة في جامع دنكز حيث يسلمونه الأسلحة اللازمة.
في نفس اليوم اجتمع عصاصة مع رفاقه الطرابيشي والشماع والمعتوق والحصري في جامع النورية، فأعاد على مسامعهم أقوال الحفار والحرش وطلب إليهم أن يشتركوا معه بجريمة الاغتيال، فاتفقوا جميعاً على ذلك، وقد زاد صالح معتوق قائلاً: “إن الدكتور شهبندر ملحد ويجوز قتله شرعاً”.
في يوم الجمعة 5 تموز 1940 ظهراً اجتمع عصاصة إلى الحفار والحرش في جامع دنكز فاستلم منهما صرة ضمنها ثلاثة مسدسات وأخذ منهما أيضاً ثلاث ليرات بناء على اتفاقهم. وفي نفس النهار ذهب عصاصة والمعتوق والشماع والحصري والطرابيشي إلى الربوة على سبيل النزهة، وكان الحديث بينهم عن الدكتور شهبندر، ومن المحتمل أنهم قد تباحثوا في كيفية الاغتيال، فاتفقوا جميعهم أن يجتمعوا غداً في جامع النورية.
في اليوم المعين أي يوم السبت الواقع في 6 تموز ما بين الساعة السابعة والثامنة اجتمع كل من عصاصة والمعتوق والشماع والطرابيشي والحصري في جامع النورية، فوزع عليهم عصاصة المسدسات، وكان مع المعتوق مسدس قديم، وأخذ من عصاصة أفضل منه، وأعطى مسدساً إلى الشماع، ثم خرجوا من الجامع وذهبوا حتى سوق التبن وافترقوا في هذا المكان، فذهب عصاصة والحصري لشراء سلة تفاح لاعتقادهم أن ذلك يكون دليلاً على نيتهم الحسنة نحو الدكتور، وقد سبقهم المعتوق والشماع والطرابيشي إلى شارع البرلمان حيث انتظروا الحصري والعصاصة، وقد وصل هذان الأخوان ومعهما سلة التفاح، ثم عاد عصاصة وحده حتى سوق الخيل، فاستأجر سيارة، وشارط السائق أن ينقل له مريضاً من شارع البرلمان حتى محلة الفحامة، وطلب إليه أن ينتظر مدة من الزمن. ولما أتى عصاصة إلى شارع البرلمان في السيارة وجد الشماع أمام دائرة الصحة، فأوقف السيارة في هذا المكان، وظل الشماع بالقرب منها ثم ذهب عصاصة، وبعد قليل أوعز الشماع إلى السائق أن يتجه بسيارته إلى مفرق الفرنسيسكان وأن يوقفها مقابل الشارع الذي يقطن فيه الدكتور، وتوجه في هذه الأثناء العصاصة والحصري والمعتوق والطرابيشي إلى عيادة الدكتور، فظل الحصري في الشارع أمام المنزل يراقب الطريق، ودخل المعتوق وعصاصة والطرابيشي غرفة الانتظار، فعرف الخادم عصاصة والطرابيشي؛ إذ أنهما كانا قد زارا الدكتور من قبل، فأخذ منهما سلة التفاح وأخبر الدكتور بوجودهما.
بعد انتظار قليل أذن لهما الدكتور بالدخول، فدخل عصاصة والطرابيشي إلى غرفة المعاينة، وبينما كان الدكتور منحنياً على الطاولة يدقق في دفتر زيارات مرضاه ويبحث عن الوصفة التي كان قد أعطاها للمريض، أطلق عصاصة عليه عياراً نارياً فأصابه في الناحية الحلمية اليمنى، فوقع الدكتور على الأرض، فخرج الاثنان من مدخل ثانٍ مارين بغرفة الاستقبال حيث اجتمعا بالخادم فهدده عصاصة بسلاحه فخاف الخادم وفر إلى المطبخ، ثم اجتمعا على الدرج بالمعتوق، وفي أسفل الدرج بالحصري، فانطلقوا جميعهم هاربين نحو السيارة. وهناك هددوا جميعهم السائق بمسدساتهم وطلبوا إليه أن يسرع، وكان عصاصة يوجهه إلى حيث يريد حتى وصلوا إلى محلة الفحامة فالتجأوا إلى دار شقيقة عصاصة، حيث سلم كل منهم مسدسه إلى عصاصة، وتفرقوا بعد أن تناولوا طعام الغذاء.
وفي نفس النهار ذهب عصاصة إلى جامع الياغوشية ومن ثم إلى منزل فوزي القباني بناء على الموعد المتضمن أنهم سيجدون سيارة تقلهم إلى العراق، فوجد الجامع مغلقاً ولم يجد أحداً في دار فوزي القباني، فعاد إلى منزله حيث قضى ليلته، ثم في صباح اليوم الثاني الأحد ذهب إلى المهاجرين فقضى فيها ليلتين أو ثلاث مع المعتوق والشماع، وفي يوم الأربعاء عاد عصاصة إلى الشاغور وسلّم المسدسات إلى رجل يعرف أن له صلة دائمة مع الحفار والحرش، ومن ثم ذهب إلى منزل محمد الحافي وقضى فيه ليلة، وأخبره الحافي بأن الحرش والحفار قد استلما المسدسات وأنهما سيجتمعان إليه.
في اليوم الثاني اجتمع عصاصة إلى الحرش في بساتين الميدان، وكان مع الحرش رجلان، فأخذ عصاصة من أحدهما مسدسه “البرابلو” الذي كان قد استعمله في الجريمة، وقضى الليل في البساتين مع الحرش.
وفي نهار الجمعة 12 / تموز 1940 فوجئ عصاصة والحرش أثناء وجودهما في البساتين برجال الشرطة فأطلقا النار عليهم وفرا هاربين، وبعد ذلك عادا إلى محلة الميدان وافترق عصاصة عن الحرش، وراح عصاصة ينتقل من منزل إلى آخر حتى ألقي القبض عليه يوم الاثنين في 15 تموز 1940.
ويُستنتج من كل ذلك أن المدعو عصاصة قد أقدم على اقتراف جريمة القتل عن سابق تصور وتصميم أي منذ أواخر شهر أيار، وإن هذه الفكرة ظلت في ذهنه حتى يوم اقتراف الجريمة، وأنه هو الذي أقنع شركاه المعتوق والطرابيشي والحصري والشماع بلزوم اقتراف تلك الجريمة، وأنه هو الذي قام بتنظيمها، وأنه حاول أثناء التحقيق الاستنطاقي أن يخفف عن نفسه المسؤولية فقال: إنه كان أطلق النار على الشهبندر من دون قصد لأن مسدسه كاد يقع من حزامه فالتقطه، وإذ ذاك انطلق العيار الناري من دون أدنى إرادة.
إن هذا الأسلوب هو مناقض لجميع الأدلة التي جاءت ضده أثناء التحقيق ومتناقض حتى مع إفادته السابقة التي اعترف فيها اعترافاً صريحاً أنه هو الذي أطلق النار بملء إرادته.
ولا شك بأن المدعوين المعتوق والطرابيشي والشماع والحصري قد وافقوا عصاصة على اقتراف جريمة قتل الشهبندر، واشتركوا في هذه الجريمة وهم عالمين بها وعلى إطلاع تام بها، وإن كل ذلك ثابت في إفادتهم لدى الشرطة والمستنطق الأهلي. وقد حاولوا أن يرجعوا عن هذه الإفادات أمام المستنطق وينفوا التناقضات التي ظهرت في إفاداتهم السابقة. وإن الشيخ صالح معتوق قد لعب دوراً هاماً إذ أنه سهّل لعصاصة مهمة قبوله قتل الدكتور قائلاً له: (إن قتل الدكتور مسموح شرعاً). وهو الذي أوعز إلى عصاصة وهو في السجن أن يبدل إفادته لدى المستنطق كما هو ثابت من الكتاب الذي صودر منه في السجن وهذا الكتاب يؤيد بصورة جلية الوقائع المسرودة أعلاه.
أما الحرش والحفار والحافي والغندور فإن هؤلاء الأظناء قد عملوا على تهيئة الجريمة أثناء الاجتماعات العديدة التي اشتركوا فيها وكوّنوا فكرة الاغتيال، وكان الحرش والحفار يشجعان هذه الفكرة ويبذلان كل ما في وسعهما من جهد لإقناع رفقائهما، ولما تم الاتفاق بينهم على الاغتيال، أخذ الحرش والحفار يهيئان الخطط اللازمة لإتمام الجريمة، وقد بيّتا للقتلة الخطة الواجب اتباعها، كما أنهما زوداهم بالأسلحة اللازمة، وأنه أثناء الاستنطاق قد أنكر سامي الحفار جميع الأعمال المنسوبة إليه، ولكنه كان قد اعترف أمام المستنطق الأهلي وأمام مدير الشرطة ومترجمه العريف بهجت كمال بأنه كان قد اشترك في الاجتماع الذي عقد في الجامع الأموي وحضره شاب قال الحرش عنه أنه عاصم النائلي.
وأما الغندور والحافي فإنهما بعد موافقتهما على مشروع الاغتيال اشتركا فعلاً في جميع المؤتمرات التي كان من شأنها تهيئة الجرم وتسهيل تنفيذه، وأن الفكرية المجرمة قد اختمرت في أذهانهما لدرجة أنهما لم يكتفيا بالاشتراك في محاولة القتل التي جرت في 25/06/1940 بل قدّم الغندور نفسه للقيام بمهمة الاغتيال.
وقد ثبت أيضاً من التحقيق أن فوزي القباني كان على إطلاع تام بكل ما يجري بين المتهمين العصاصة والحفار والحرش والحافي والغندور، وأنه كان حضر أول اجتماع في الجامع الأموي وكان كلما شاهد أحد المتهمين حاول أن يمده بالمال فيما إذا كان محتاجاً لذلك. ويستنتج أيضاً من أقوال المتهمين أن موعد اجتماعهم بعد القتل كان في دار فوزي القباني أو في جامع الياغوشية حيث كانوا موعودين أن تنتظرهم هناك سيارة لتأمين فرارهم.
ويُستنتج أيضاً بان المدعو عاصم النائلي كان قد اشترك بالاجتماعين الأولين اللذين عقدا في الجامع الأموي وفي منزل عصاصة، وقد توصل النائلي في هذين الاجتماعين إلى إقناع رفقائه بقتل الشهبندر قائلاً لهم: إن الدكتور شهبندر خائن ومضر للوطن. وقد حرضهم على الاغتيال وسهل لهم ذلك بالوعود والتأمينات وخلافها. وقد عرفه عصاصة لدى أول مقابلة جرت وفقاً للشروط القانونية، كما أن الحافي قد اشتبه فيه.
ويستنتج أيضاً من إفادات العصاصة والحفار والحافي والغندور أن الدافع والمحرض لهم على اقتراف جريمة قتل الشهبندر هي الوعود والتأمينات والحيل والدسائس التي قام بها بصورة غير مباشرة كل من جميل مردم بك وسعد الله الجابري ولطفي الحفار، والتي يتضمن أكثرها مساعدتهم مساعدة مالية وتأمين سفرهم للعراق وتأمين معيشتهم هناك. وإن فكرة اغتيال الشهبندر كانت في نية جميل مردم بك قبل وقوع الجريمة كما تبين من شهادة المدعو محمد الدرخباني.
وقد ثبت أيضاً أن المتهمين لم تكن غايتهم الوحيدة قتل الشهبندر فحسب، بل كانوا يرمون من وراء ذلك إلى إيقاد نار الفتنة بين الأحزاب ليتمكنوا بعدئذ من الوصول إلى بغيتهم، ألا وهي نشوب اضطرابات تؤدي إلى حرب أهلية طاحنة.
وقد أيدّ التحقيق أيضاً المعلومات الآتية باختصار:
أولاً ـ خلافاً لما قاله عصاصة وعاصم نائلي فإن الشاهد محي الدين بدوي أفاد أنه رآهما واقفين أمام دكان صبحي مالك…
ثانياً ـ تبين من شهادة الدكتور منير شيخ الأرض أنه كان سعى مراراً للتوفيق بين جميل مردم بك والدكتور شهبندر غير أنه فشل في مسعاه…
ثالثاً ـ أفاد الشاهد محمد الدرخباني أن كان كُلف مراراً من قبل جميل مردم بك للقيام بمهمة اغتيال الشهبندر لقاء وعده بمبلغ من المال، وقد أفاد هذا الشاهد أن الشيخ الصابوني قد توسط لديه كي لا يعطي شهادة ضد جميل بك…
رابعاً ـ أفادت الآنسة هيلين عجمي لدى المستنطق الأهلي خلافاً لأقوال جميل مردم بك وعاصم النائلي، من أن جميل بك قد زار النائلي أكثر من مرة، وقالت أنها كانت تكلمت مع شقيقتي عاصم النائلي بهيجة وخديجة وقال لهما أن آل المؤيد العظم مستعدون لإسقاط الدعوى عن عاصم النائلي فيما إذا اعترف بالحقيقة.
وبناء على ذلك:
أولاً ـ إن المدعو أحمد عصاصة متهم كونه ارتكب في دمشق في 06/07/1940 وفي وقت لم يمر عليه الزمن، جريمة القتل عمداً على شخص الدكتور الشهبندر، وهذا الجرم منصوص عنه ومعاقب عليه في المادة 170 من قانون الجزاء.
ثانياً ـ إن المدعوين أحمد الطرابيشي وصالح معتوق وسعيد الحصري وعزت الشماع متهمون كونهم في نفس الظروف والوقت والمكان، قد اشتركوا في الجريمة المذكورة بمساعدتهم ومعاونتهم جرم منصوص عنه ومعاقب عليه بالمادتين 170 و45 من قانون الجزاء.
ثالثاً ـ إن المدعوين الحرش والحفار متهمان كونهما في دمشق خلال شهر أيار وحزيران وتموز اشتركا في جريمة عصاصة، أولاً: بتحريضهما بواسطة مبلغ من المال والوعود لارتكاب جريمة القتل عمداً، ثانياً: بإعطائهما الأسلحة التي استعملت في اقتراف الجريمة، ثالثاً: بمساعدتهما ومعاونتهما عصاصة بإعطائهما إياه التعليمات والخطط جرم منصوص ومعاقب عليه في المادتين 170 و45 من قانون الجزاء.
رابعاً ـ المدعوون خليل الغندور والحافي والقباني متهمون كونهم في نفس الظروف والمكان والزمان اشتركوا في جريمة القتل عمداً، المرتكبة من قبل عصاصة لتسهيلهم وتحريضهم على اقتراف هذه الجريمة المعاقب عليها بالمادتين 170 و45 من قانون الجزاء.
خامساً ـ المدعوون عاصم النائلي وجميل مردم بك وسعد الله الجابري ولطفي الحفار متهمون كونهم في نفس الظروف والمكان والزمان، حرضوا على ارتكاب الجريمة بواسطة مبلغ من المال والوعود والدسائس والحيل، وبذلك اشتركوا في جريمة القتل العمد. جرم منصوص عنه ومعاقب عليه في المادتين 170 و45 من قانون الجزاء.
سادساً ـ إن المدعوين أحمد عصاصة ومحمد الحرش متهمان أيضاً كونهما حاولا في دمشق خلال شهر تموز في وقت لم يمر عليه الزمن، اقتراف جريمة القتل من دون تعمد على أفراد القوة المسلحة أثناء قيامهم بالوظيفة، مع الملاحظة بأن هذا الجرم كانت الغاية منه تأمين فرارهما، جرمٌ منصوص عنه ومعاقب عليه في المادتين 74 و46 من قانون الجزاء.
سابعاً ـ إن المدعوين عصاصة والحرش والحافي والغندور والحفار، حاولوا بالاشتراك مع بعضهم بالاتفاق، اقتراف جريمة القتل عمداً على شخص الدكتور شهبندر، جرمٌ منصوص عنه ومعاقب عليه بالمادتين 170 و46 من قانون الجزاء.
ثامناً ـ إن المدعوين عصاصة ومعتوق وطرابيشي والشماع والحصري والحرش والحفار والحافي والغندور متهمون أيضاً، كونهم حملوا مسدسات دون رخصة جرم معاقب عليه في المادة 2 من القرار رقم 736.
قائمة شهود الحق العام: محي الدين بدوي، صبحي مالك، عاشور مالك، منير شيخ الأرض، محمد الدرخباني، عوض الكناكري، فوزي الحمري، الشرطي هاشم المهايني، محمد عبد الرحمن الصعيدي، سعدو بن إبراهيم حميد، إسماعيل آشيتي، فلاديمير سبع، هيلين عجمي.
ترجمة طبق الأصل في 29 تشرين أول 1940
دمشق 26 تشرين أول 1940
صدر من النيابة العامة دمشق
لدى المجلس العدلي ـ النائب العام
“وقد أوردتُ النص كاملاً كما ورد، محافظاً على الأمانة التاريخية رغم ما فيه من أخطاء لغوية وضعف في الصياغة”.
شغلت محاكمة المتهمين باغتيال الشهبندر الناس ردحاً من الزمن إلى أن صدر الحكم.
سأروي هنا ما قاله السيد منير الريس الذي سُجن على ذمة التحقيق في قضية الشهبندر. يقول:
كنا نتتبع في سجننا قضية الشهبندر لأن الإفراج عنا متعلق بانتهاء التحقيق فيها، وعلمنا أن بهيج الخطيب رئيس مجلس المديرين لعب دوراً قذراً في قضية الشهبندر فقد وجه التحقيق منذ الخطوة الأولى إلى الوطنيين واعتقل نحو ثمانين شاباً منهم في سجن القلعة، وعين من بين القضاة محققاً يسير حسب أهوائه ويوجه التحقيق في القضية إلى اتهام خصومه ولكن القبض على أكثر القتلة لم يوصله إلى غرضه؛ فقد تبين أنهم من طبقة الصناع والأجراء ومن الذين يتأثرون برجال الدين ويلازمون مجالسهم في المساجد والبيوت، وليس بينهم وبين الوطنيين صلة اللهم إلا صلة الإخلاص…
ثم يتابع الريس: ابتدأت المحاكمة… وأجلت إلى موعد لاحق ثم أجلت مرة أخرى… وبعد الاستماع إلى قرار الاتهام وبدأ سماع الشهود… إلى أن قرر المجلس بعدها دعوة الشيخ الجليل مكي الكتاني للاستماع إلى شهادته فحضر وأدى الشهادة أمام المجلس العدلي، وأيدّ معرفته المتهمين أحمد عصاصة ورفاقه الجالسين في قفص الاتهام، وأنهم من الذين يحضرون حلقة درسه. وسُئل الكتاني عما إذا كان يذكر أن أحد المتهمين سأله واستفتاه في قول الشهبندر: “إذا كان حب الديمقراطية كفراً فأنا كافر!…” فقال الكتاني أنه لا يذكر. وإذا كان استفتي في من يقول: “إذا كان حب الكفار كفراً فأنا كافر” فإنه يقول الآن وأمام المجلس العدلي بكفر القائل، فالشرع الإسلامي واضح من هذه الناحية، ولكنه كرجل دين لم يسمع حديث الشهبندر عن الدول الديمقراطية، حتى يفطن للفتوى التي يقول أحمد عصاصة أنه وجهها إليه وأنه يعني بها رجلاً سياسياً.
(كان رئيس المحكمة وهو قاضي فرنسي لاحظ عند مثول الشيخ الكتاني أمام المجلس وقوف أحمد عصاصة ورفاقه المتهمين في قفص الاتهام إجلالاً للشيخ الجليل واحناءهم هاماتهم زيادة في الاحترام).
فلما انتهى الشيخ من شهادته واستدار وقف المتهمون ثانية منكّسي الرؤوس لوداعه، ففطن رئيس المحكمة لهذا التبجيل والإجلال ونادى الشيخ الكتاني وهو يتخطى القاعة ودعاه إلى العودة، فرجع الشيخ كتاني والمتهمون ما يزالون وقوفاً يضمون أذرعهم إلى صدورهم ومنكسي رؤوسهم وقال له: لقد لاحظت يا أستاذ شدة احترام هؤلاء المتهمين لشخصك فهلا وعظتهم بأن يقولوا الحق وألاّ يعرقلوا سير العدالة في هذه المحكمة، وألاّ يكتموا عن المحكمة شيئاً حتى يظهر الحق، ويأتي حكمها عادلاً؟…
فالتفت الشيخ مكيّ الكتاني نحو المتهمين وقال: “يا أحمد، يا صالح، يا سعيد، اذكروا أنكم بين يدي الله، حين تنظر هذه المحكمة في قضيتكم فقولوا الحق ولا تخافوا شيئاً يسبب ظلماً قد ينزل بأحد الناس!… إنكم قد تلاقون وجه ربكم فلا تلاقوه إلا خالصي النية أنقياء الضمير!..”
فجأة انفجر أحمد عصاصة بالبكاء وصاح بأعلى صوته:
سأقول الصدق سأقول الصدق مهما كانت العواقب وانبرى يسرد للمحكمة كيف تلاقى مع أخوانه في خدمة الوطن وتعاهدوا على قتل الخونة ونظموا قائمة بأسماء الذين اعتقدوا أن في قتلهم رضاء الله والوطن، وكان في عداد الأسماء جميل مردم بك…
واعترف أن بهيج الخطيب قد جاء به من السجن إلى منزله ليقول له إنني الوحيد القادر على إنقاذ عنقك من حبل المشنقة إذا أنت اتهمت معك أحداً ممن لهم صلة بالوطنيين، وأنه وقّع على إفادة في منزل الخطيب عندما نقلوه ليلاً إليه ووعدوه بإطلاق سراحه، ووصف البيت من الداخل وصفاً دقيقاً زيادة في إثبات تآمر بهيج الخطيب على رجالات الكتلة الوطنية، وكيف اضطر أمام ما زين له بهيج الخطيب أن يوجه التهمة إلى عاصم نائلي حتى يصل منه إلى جميل مردم بك ولطفي الحفار وسعد الله الجابري وشكري القوتلي. “فكانت اعترافات عصاصة وهو يجهش بالبكاء مذهلة للمحكمة والحضور وصاعقة نزلت على رأس بهيج الخطيب العميل المزور وعلى رأس أقرباء الشهبندر الذين أرادوا رؤوس أقطاب الوطنية السورية ثمناً لقتلهم” وعلى رأسهم فيصل عبد الرحمن الشهبندر ونزيه المؤيد العظم وبهيج الخطيب الذين ذهبت محاولاتهم اللاحقة أدراج الرياح في إعادة المحاكمة مرة أخرى للإيقاع بجميل بك ورفاقه.
“وصدر الحكم في يوم الخميس الثاني من كانون الثاني عام 1941 بإعدام المتهمين أحمد عصاصة وزمرته الفارين والمعتقلين، وبالسجن على بعضهم”.
هذا وقد تحاملت بعض الصحف ومنها صحيفة “الأيام” لنصوح بابيل وصحيفة “النضال” وبعض أعضاء الكتلة وأصدقائها كالأستاذ “يوسف الحكيم” في مذكراته التي نشرت عام 1983.
وتم تبرئة ساحة عاصم النائلي وجميل مردم بك وسعد الله الجابري ولطفي الحفار وشكري القوتلي وغيرهم من الذين زج بهم بهيج الخطيب في مؤامرته هو ومن وراءه من الكارهين لزعماء الكتلة الوطنية، وحاولوا تشويه سمعتهم بأن نشروا صورهم مع المجرمين في الصحف.
وتُوج انتصار الحق على الباطل بإعدام المجرمين شنقاً في ساحة المرجة بدمشق، وانتهى بذلك الكابوس الذي خيم على رؤوس الوطنيين باستقالة حكومة المديرين وعلى رأسها بهيج الخطيب. وسأكتفي بهذا القدر من الحديث عن مصرع الشهبندر برصاصة غادرة وأذكر بعض ما جرى لزعماء الكتلة الفارين إلى العراق والذين ثبتت براءتهم ثبوت براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
تروي السيدة “سلمى لطفي الحفار” في كتابها “مذكرات لطفي الحفار” وقبله في كتاب “يوميات هالة” الصادر عن دار الملايين، وهو من أجمل الكتب التي قرأتها في طفولتي، ما يلي:
“في ليلة الخامس عشر من شهر تموز عقد رجال الكتلة الوطنية اجتماعاً في منزل جميل مردم بك بعد أن علموا من ترجمان المفوض السامي “بيو” الوطني الشريف الأستاذ “عبد الله العبسي” أن النية معقودة على توقيفهم في الغد، وأن طلبهم للإفادة في آن واحد هو بالتأكيد للقبض عليهم رهن التحقيق. تداول المجتمعون واتفقوا على مغادرة سورية قبيل الفجر والالتجاء إلى العراق ريثما تتم المحاكمة وتظهر براءتهم التي كانوا متأكدين منها كل التأكيد. غادر جميل بك ولطفي بك عن طريق الصحراء حتى بلغا مركز الفلوجة العراقي بعد أن اجتازوا الجوازات والجمارك السوري بسرعة هائلة من غير توقف، وأعلما المركز العراقي بهويتهما وطلبا من الموظفين فيه أن يتصلوا بمديرية الأمن العام في بغداد. وعندما تأكدت الأوساط العليا من شخصيتهما قبلت لجوءهما السياسي مرحبة بهما، فنزلا ضيفين على العراق محفوفين بالتكريم والاحترام، وأقاما في فندق “زيّا” مدة ثلاثة أشهر إلا قليلاً، إلى أن أصدر المجلس العدلي بدمشق الحكم بتبرئتهما هما وسعد الله الجابري، الذي وصل إلى بغداد بعد وصولهما بقليل وأقام ضيفاً مكرماً على الحكومة العراقية في فندق آخر.
ولقد كان كرم الضيافة واهتمام الوصّي على العرش العراقي عبد الإله ورئيس الوزراء سبباً في مواساة ورفع معنويات الزعماء السوريين. وقد جرى وداع جميل بك ولطفي بك وداعاً حاراً يليق بهما، واستقلا سيارة شركة “نرن” وعادا إلى دمشق أما سعد الله بك فقد عاد إلى حلب وحده بعد أداء فريضة الحج انطلاقاً من بغداد “.