بعد وصول الملك فيصل وإخوانه وفيهم جميل بك إلى الأراضي الفلسطينية استقر به المقام في حيفا عروس الساحل الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسط.
ولما كانت الأحوال المادية التي عاشها جميل بك تقتضي منه البحث عن مصدر للرزق في بلاد ليس له فيها أحد إلا بعض الأخوة الأصدقاء الذين كانوا بدورهم يعانون مما يعاني منه من صعوبة في العيش اللائق الذي اعتاد عليه جميل في وطنه من بحبوحة وغنى.
كان الملاذ الوحيد له هو مراجعة دائرة الأوقاف في القدس حيث يجبى أوقاف جده الوزير لالا مصطفى باشا وجدته فاطمة خاتون. وكانت أوقاف فلسطين تدر أموالاً طائلة. أرسل جميل بك مردم بك إلى ابن عمه خليل بك مردم بك شاعر الشام الكبير والخبير بأوقاف العائلة، يطلب إليه أن يرسل له وثائق الأوقاف. وقد جرت مراسلات عديدة وطويلة بينهما جمعتها في كتاب أسميته “رسائل الخلان في معرفة طبائع أبناء السلطان من رسائل الخليل إلى الجميل 1341 هـ ـ 1923 م”.
رسالة رقم 1 من القدس عام 1340 في ربيع الثاني
رسالة رقم 2 من القدس
الرسالة رقم 3
رسالة من حيفا ربيع الثاني 1341
وقد أمضى جميل بك مدة غير قصيرة وهو يحاول الوصول إلى قبض أوقاف فلسطين، كما واجه صعوبة في توليته متولياً للأوقاف نظراً لصعوبة الاتصال بين دمشق والقدس، وتعقيد المعاملات بين السلطة البريطانية والسلطة الفرنسية، حتى وصل به الحال إلى الطلب من أخيه محمد بك وهو الأخ الأصغر لجميل بك بأن يبيع ستة حوانيت في العصرونية (وهو سوق يتفرع عن سوق الحميدية المشهور بدمشق) بمبلغ لا يتجاوز 2400 ليرة ذهبية، ليستطيع أن يعيش بعيداً عن أملاكه وأراضيه ورزقه. وقد كان دائم البيع لأملاكه ليصرف على القضية التي عاش من أجلها وتغرّب في سبيلها، كما كان يقضي أكثر أوقاته في فلسطين متنقلاً بين حيفا والقدس لمدة عام تقريباً.
رسالة رقم 4
وفي 25/09/1923 سافر جميل مردم بك إلى الإسكندرية وكان بصحبته صفوت خانم الزوجة الوفية التي بدأت حياتها معه في ترحال وتشرد وانتقال من بلد إلى آخر، وفيّة مخلصة مكرسة نفسها لهذا الرجل الذي سماه محمد سهيل العشي(1) في كتابه “فجر الاستقلال في سورية” دار النفائس 1999 دمشق: “جميل مردم بك المناضل الذكي والثعلب السياسي”.
وفي الإسكندرية اجتمع بشقيقتّي ابن عمه خليل بك مردم بك السيدة أم زهير زوجة الدكتور أحمد قدري وقمر خانم التي أُسميها دائماً “قمر آل مردم بك” لجمال وجهها وروحها.
عاد بعدها إلى فلسطين ليستمر من هناك بنشاطه النضالي في منفاه الاختياري إلى أن صدر عن المحتل الفرنسي عفو عام عاد بعده إلى دمشق مع عدد من المناضلين، لمتابعة حياة الكفاح حتى عام 1925 م.
رسالة رقم 5
صدور العفو عن الوطنيين
في عام 1923 سحبت فرنسا مندوبها السامي في سورية ولبنان الجنرال غورو وعينت بدلاً عنه (الجنرال ويغان Wigaan) الذي وصل بيروت في 9 أيار، وعند قدومه إلى دمشق أوائل حزيران أصدر عفواً عن الوطنيين الذي كانوا خارج البلاد السورية. كذلك قرر منح حكومتّي دمشق وحلب حرية انتخاب مجالس تمثيلية في شهر تشرين أول 1923، على أن يكون التصويت على درجتين وعدد الممثلين 31 عضواً. كما أصدر عفواً عن سلطان باشا الأطرش فعاد إلى قريته في جبل الدروز. كما أصدر عفواً عن جميع المعتقلين السياسيين الموجودين في جزيرة أرواد أو سجن قلعة دمشق. وقد جرت بهذه المناسبة احتفالات عظيمة في جميع المدن السورية.
بمناسبة قرار المفوض السامي بإجراء انتخابات تمثيلية فقد طالب أفراد الشعب على اختلاف طبقاتهم بأن تكون الانتخابات لمجلس تأسيسي، لكن المفوض السامي رفض وأصر على أن يكون مجلساً تمثيلياً فقط، وعندها أضرب الشعب 14 يوماً ولكن دون فائدة، وجرت انتخابات هزيلة فاز فيها عن دمشق: عبد الحميد القلطقجي وعطا العجلاني وحسين الإيبش وسامي باشا مردم بك…
وفي مطلع عام 1924 تألفت في دمشق لجنة لجر مياه عين الفيجة إلى مدينة دمشق وحصلت على الامتياز تحت اسم (لجنة مياه عين الفيجة)، وعلى أن تبيع إلى سكان دمشق خمسة آلاف متر من المياه بسعر 25 ليرة عثمانية ذهب للمتر.
في نهاية عام 1924 وبالتحديد 02/12، استدعت فرنسا الجنرال ويغان وعينت بدلاً منه الجنرال ساراي Sarrail الذي أحضر معه قرار موافقة الخارجية الفرنسية على دمج حكومة دمشق مع حكومة حلب وإعلان الوحدة السورية وإعلان دمشق عاصمة الدولة السورية.
اشتداد الأزمات وبداية ثورة 1925:
وفي عام 1925 كانت منطقة الانتداب الفرنسي تشمل دولة سورية ويرأسها (صبحي بركات) ودولة العلويين ويرسها (المسيو كابيلا)، ودولة جبل الدروز ويرأسها (الكاتبن كاربيه) ودولة لبنان الكبير وكان يرأسها (الجنرال فاندنبرغ).
بعد عصيان سلطان الأطرش في جبل الدروز عام 1922 في زمن الجنرال ويغان وصدور عفو عنه، جاءت أحداث عام 1925 في 21/07 في جبل الدروز بهجوم سلطان باشا الأطرش ورجاله على قرية الكفر للقضاء على الحامية الفرنسية، وحاصروا قلعة السويداء احتجاجاً على إهانة الحاكم الفرنسي لجبل الدروز واعتقال بعض زعمائه.
وحصلت معركة المزرعة في أول آب 1925 فكانت من مفاخر الجهاد السوري.
كان الاتصال بين زعماء سورية وزعماء جبل الدروز وثيقة في تلك المراحل فانعقد اجتماع سرّي في دار آل الحلبوني حضره الدكتور عبد الرحمن الشهبندر رئيس حزب الشعب وعدد كبير من أعضائه منهم فوزي ونسيب البكري وشكري القوتلي وجميل مردم بك وغيرهم، وقد نادوا بسلطان الأطرش قائداً عاماً للثورة التي امتدت إلى جميع أنحاء سورية.
خشيت السلطات الفرنسية أن يقوم أعضاء حزب الشعب بتعميم الثورة في سائر المدن السورية وضم عدد أكبر من الثوار والمجاهدين، لذلك قامت بالقبض على كبار الزعماء ونفتهم إلى جزيرة أرواد في 26/08/1925 م. غير أن ذلك لم يثن الثوار من متابعة ثورتهم، فوضعوا خطة لدخول دمشق بعد أن أحاطوا بها من جميع الجهات، ودخلوا إلى أسواقها متجهين إلى قصر العظم مقر المندوب السامي ساراي (في البزورية)، غير أن الأخير استطاع الفرار متوارياً في سيارة مصفحة.
فتحت الآلات الجهنمية أفواهها فانصبت القنابل على أثمن أحياء دمشق، فدمرت قسماً كبيراً من حي الميدان، وحي الشاغور، والمارستان، وسيدي عامود، المأهولة بالسكان، وهدمت أثمن البيوت وأقدمها، ولم يمض أربع وعشرون ساعة إلا وحمم الحريق والتدمير قد أكلت ما يربو على ستمئة دار من أحسن الدور، ناهيك عن السلب والنهب الذي تعرضت له الأسواق والدور من قِبَل الجنود الفرنسيين الذين كانوا يكسرون أقفال الحوانيت والمخازن ويحملون أمتعتها وأوانيها ورياشها الدمشقية الثمينة والفاخرة.
كما قامت الطائرات بالإغارة على دمشق، وتروي السيدة “أليس بوللو Alice Poulleau” الفتاة الفرنسية الشابة التي كانت تعمل صحفية زمناً طويلاً أيام الحرب العالمية الأولى والتي ألفت كتاب “دمشق تحت القنابل”، مطبعة الحمامي دمشق ط 1 1996 منشورات دار دانية دمشق.
قالت أليس بوللو أنه في يوم الاثنين 19/10/1925: “أمر كهنة الكنائس بأن توضع على أسطحة منازل شعبهم (النصارى) أقمشة بيضاء يرسم في وسطها صليباً أحمر يظهر عن بعد وذلك لكي يعرف الطيارون أماكن الأحياء التي يتوجب عليهم تجنب ضربها حتى أن حيّ باب توما (حي النصارى) أصبح يظهر للطائرات وكأنه مقبرة مظلمة مليئة بالقبور البيضاء المرسومة بصلبان من الدم”.
وكان من بين الأحياء التي دمرت حي المارستان الذي يحتوي على دور آل مردم بك: دار (عزتلو عثمان بك) و(عزتلو علي بك) و(عزتلو سعد الدين بك). والتي يسكنها أبناؤهم جميل بك ومحمد رضا بك وخليل بك وغيرهم… كذلك دمرت دار الركابي والقوتلي تدميراً تاماً.
وعن هذا اليوم الأسود ذكر أمين سعيد في كتابه “الثورة العربية الكبرى” الجزء الثالث ما يلي:
“في ظهر اليوم الثامن عشر من شهر أكتوبر أرسل الفرنسيون الدبابات فجعلت تخترق الأسواق بسرعة هائلة وتصب نيرانها ذات اليمين وذات اليسار، وفي الساعة السادسة مساءً بدأ الفرنسيون بضرب مدينة دمشق العريقة في القدم…”.
وفي صبيحة اليوم التالي سُحبت جميع الجنود فجأة من المدينة ومن جملتها أحياء المسيحيين وحُشدت في حي الصالحية، ونُقلت جميع عائلات الفرنسيين إلى هذا الحي، ثم شرعت المدفعية في الساعة العاشرة صباحاً إلى مدة أربع وعشرين ساعة تطلق القنابل على المدينة وجعلت الطائرات في الوقت نفسه تمطر القذائف وتطلق الرشاشات.
كما أصدر الجنرال ساراي في أوائل شهر أكتوبر أمراً إلى الفصائل الشركسية والفرنسية بإحراق قرى جرمانا والمليحة وزبدين وداريا وحدث في قرية دير بحدل من قرى الأمير كاظم حفيد الأمير عبد القادر الجزائري وأن جميع منازلها صُب عليها البترول وأضرمت النار فيها بلا استثناء فأصبحت أكواماً من الرماد.
ويطول الحديث عن فظائع المحتل الفرنسي الذي أدّعى أنه جاء ليقدم المساعدة لسورية حتى تكون في مصاف الدول المتقدمة، فما كان منه إلا القتل والإحراق والتدمير والذي أدى في النهاية إلى ثورة عام 1925 التي سادت سورية في كل مدنها وقراها.
انضم جميل مردم بك إلى الثورة ضد الاحتلال الفرنسي وأسهم في المعارك التي جرت بين قوات الاحتلال الفرنسي والمقاومة السورية التي كان لواؤها معقوداً لسلطان باشا الأطرش. وفي مزرعته “حوش المتبن” في الغوطة الشرقية جرت عدة اجتماعات للتحضير للثورة..
عندما حاصرت القوات الفرنسية جبل الدروز وأمرت باعتقال زعماء الثورة استطاع جميل بك والشهبندر الفرار والوصول إلى مدينة حيفا في فلسطين وأصدرت سلطات الانتداب الحكم عليهما بالإعدام غيابياً..
والجدير بالذكر أنه في 23/09/1925 قبضت حكومة حيفا (الإنكليزية) على جميل مردم بك، حينما جاءها قادماً من السويداء بعد اندلاع ألسنة الثورة، وسلمته إلى السلطة الفرنسية فأقام عوني عبد الهادي دعوى على حكومة فلسطين أمام المحكمة العليا لمخالفتها القانون في هذا التصرف. وقد كان في معيّة جميل بك عندما قصد حيفا الدكتور عبد الرحمن الشهبندر ونزيه العظمة وقد كانت مهمتهم الاجتماع بالأخوة اللاجئين إلى حيفا والسعي لتوحيد العمل، فمروا بسمخ في طريقهم عوضاً عن عمان خوف الاعتقال.
علمت السلطة الفرنسية بخبر وصولهم إلى حيفا فكتبت إلى السلطة البريطانية طالبة القبض عليهم وتسليمهم. فتم القبض على جميل مردم بك لأنه كان نازلاً في فندق الكرمل، أما الشهبندر والعظمة فقد استطاعا النجاة بسيارة خاصة أقلتهما إلى جبل الدروز. وقد اعتقل مردم بك نحو ثلاثة أشهر في جزيرة أرواد وأطلق سراحه بعد وصول المسيو دي جوفنيل ولم يقدم إلى المحاكمة.
ونكتفي هنا بالقول إن كل ما جرى من أحداث وما قام من ثورات بين عامي 1918 ـ 1925 وغيرها من الثورات التي وقعت في دمشق وحماة وغوطة دمشق ودير الزور وغيرها من المدن السورية لم تكن إلا نتيجة حتمية لعدة سنوات من سوء الإدارة وتجزئة البلاد وفساد وظلم أجهزة الحكم الفرنسية في عهد الانتداب.
اقرأ:
جميل مردم بك والعهد الملكي الفيصلي
جميل مردم بك والحزب الوطني في سورية عام 1920
جميل مردم بك ومؤتمر باريس 1913
جميل مردم بك والجمعية العربية الفتاة السريّة