من مذكرات أكرم الحوراني- في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
في مدرسة ترقي الوطن :
كنت صغیرا جدا عندما ذھبت إلى المدرسة لأول مرة،ولكنني لا أزال أذكر بوضوح أنھا كانت تقع بجوار بیت جدي لأمي الحاج خالد السھیان، كانت مدرسة ممتازة لا تقل في مستواھا عن مدارس ھذه الأيام وكان اسمھا مدرسة ترقي الوطن [1]. وقد أحببتھا كثیرا، ولكن لم يطل دوامي فیھا لتعذر عناية المدرسة بي نظرا لصغر سني، فتركتھا وبقي فیھا أخواي الكبیران واصل وعبد الحلیم.
أيام كئیبة عند الشیخة :
لم يكن في حماه في أواخر العھد العثماني سوى مدرسة إعدادية واحدة لا تتجاوز صفوفھا الصف السابع إلى جانب مدرسة أو مدرستین ابتدائیتین لم تكونا تقبلان من الأطفال من ھم في مثل سني، ولم يكن ثمة رياض للأطفال فأرسلني أھلي إلى كتاب “الشیخة أم نايف” القريب من منزلنا لأتعلم القرآن، ولا تزال صورة ذلك الكتاب الكئیب المقیت ماثلة في ذھني، فقد كنت أحشر مع عشرات الأطفال الصغار في غرفة ضیقة جالسین على الحصیر ومع كل منا كیسه القماشي الصغیر الذي يضم طعام الغداء وجزء عم. كان أھلنا يتصورون أن الشیخة أم نايف تعلمنا القرآن بعصاھا وقسوتھا وإرھابھا، على أنھا رحمھا لله كانت فوق كل ذلك تشغلنا بتنقیة حبوب الحمص لأن زوجھا كان حمصانیا ..
لذلك كنت أكره الشیخة وأكره الذھاب إلیھا لكن أھلي كانوا يرغمونني على المواظبة، وكثیرا ما كان الناس الجیاع يخطفون كیسي وما فیه من طعام وأنا في طريقي إلى الشیخة، فقد كانت المجاعة تجتاح المدينة خلال الحرب العالمیة الأولى، ولا أزال أذكر أنني شاھدت في الطريق امرأة تقطع اللحم من جیفة متفسخة وحولھا أطفالھا الصغار يتضورون جوعا ويبكون.
كانت ھذه المناظر مألوفة، كما كان موت الناس على الطرقات من الجوع والمرض أمرا عاديا، حیث كانت الجثث تجمع “بالطنابر” وتنقل إلى ظاھر المدينة لیدفن العشرات في قبر واحد، وكان طرق أبواب المنازل وصراخ الشحاذين: “جوعانین … من مال لله” لا ينقطع لا لیلا ولا نھارا.
كان الجوع والتیفوئید والكولیرا والجدري منجلا يحصد الناس، وكانت أعشاب البرية في الربیع مرعى للناس والبھائم معا، وكانت الدولة توزع الخبز في خان تسمیه (المطعم) ويسمیه الفقراء الجائعون (المطعن) لأنه كان مباءة لانتشار الأمراض، بالإضافة إلى أن التوزيع كان نذرا يسیرا، وبالرجاء والالتماس (أي الواسطة)، ولا أتصور بأن تعداد سكان حماه، عند نھاية الحرب العالمیة الأولى، كان يتجاوز العشرين ألفا، فقد فرغت البیوت الكثیرة من أھلھا.
كان اللاجئون الأرمن، برغم ما يفتك بھم من أمراض، يزاولون الصناعات، كما كانت بناتھن يعملن خادمات في بیوت الأغنیاء، وقد تعايشوا مع السكان وصاھروا بعض الحمويین، وكان ملحوظا عطف الشعب علیھم وتقديره لكفاءتھم واستقامتھم ومھارتھم بالرغم من كل الدعايات والشائعات التي كانت تنشرھا تركیا عن الفظائع التي ارتكبوھا ضد المسلمین في شرقي الأناضول. ونتیجة لتمردي وامتناعي عن المواظبة على الشیخة فقد رجا أھلي مدير مدرسة “النموذج” السید محمد البارد فقبلني فیھا مع إخوتي واصل وعبد الحلیم، رغم صغر سني.
طفل مشاغب في مدرسة بھیجة :
سررت سرورا كبیرا لقبولي في مدرسة النموذج، فقد كان يحیط بھا بستان واسع للعب والنشاط، وقد واظبت على الدروس برغبة وشغف، وكنت أصغي بشوق وانتباه للدروس التي كان يلقیھا الأساتذة على من ھم أكبر مني سنا فأستمتع بھا، ولا تزال مطبوعة بذاكرتي صورة ذلك المعلم الذي كان يلقي درسا عن الدورة الدموية، وصورة اللوحة ومخطط القلب والشرايین. إن الأطفال يمكنھم أن يفھموا أشیاء كثیرة تتجاوز أعمارھم، ولكن عدم قدرتھم على التعبیر تجعل الكبار يجھلون أفكارھم
وأحاسیسھم.
لم يطل مقامي في مدرسة النموذج، فبعد شھر انذر المدير أخوي بعدم اصطحابي إلى المدرسة، والسبب أنني كنت
دائم الحركة والعراك مع الآخرين، وھذا يمثل خطرا على النظام بنظر المدير الذي لم يكن بمقدوره أن يحد من نشاطي بالضرب أو العقوبة، لصغر سني. كنت أتصارع في باحة المدرسة مع التلامیذ الأكبر مني سنا فأصرعھم مما اضطر المدير لصرفي من المدرسة، فبقیت في البیت حزينا ولكنني تخلصت على كل حال من الشیخة وعصاھا الطويلة التي كانت تطالنا في أقصى الغرفة الضیقة، فتنزل بھا على رؤوسنا كلما اخطأنا في التلاوة، وبرغم شدتھا وقسوتھا فإنني لم أحفظ بفضلھا ولا آية واحدة.
[1] زودني الاستاذ أحمد الوتار بالمعلومات التالیة عن مدرسة ترقي الوطن: ) قام جماعة من أھل الخیر في حماه بتأسیس مدرسة أھلیة فیھا وتبرعوا لھا وذلك بعد اعلان الحرية والدستور العثماني عام 1909 وسمیت (ترقي الوطن)، وقد قام بادارتھا أول الأمر أحد شباب بیروت السید (نجیب بلیق) نحوا من سنتین ثم عین الشیخ طاھر النعسان مديرا لھا حتى اعلان الحرب العالمیة الأولى عام 1914 حیث دعي ھو وأكثر اساتذتھا الى خدمة العلم حینذاك فضعفت المدرسة تدريجیا وقد تولى ادارتھا بعض شباب حماه تطوعا حتى اغلقت نھائیا عام 1917 م تقريبا.
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة