مقالات
محمود جديد: الحشود الإسرائيلية والمصرية عام 1967 بين الحقيقة والواقع الافتراضي
محمود جديد- التاريخ السوري المعاصر
لقد استقيت الكثير من معلوماتي من كتابين لشخصيتين مصريتين عسكريتن بارزتين توفّرت لهما معلومات دقيقة بحكم منصبيهما وخبرتيهما ، وهما الفريق محمد فوزي ( رئيس أركان ، ووزير دفاع ) ، وأمين الهويدي ( مدير المخابرات العامة، ووزير دفاع بعدهزيمة حزيران ) .. وليس لهما مصلحة بالتستّر على تهم تتعلّق بالنظام السوري آنذاك …
ا : حول الحشود الإسرائيلية على الحدود السورية
———————————————-
لا يختلف اثنان موضوعيّان مطّلعان على أنّ السوڤ-;-ييت هم مصدر المعلومة القائلة بوجود حشود إسرائيلية على الحدود السورية ، والجهة التي أبلغت في حينه السلطات السورية والمصرية بذلك ، وقد لقيت صدىً واسعاً عند بداية إطلاقها نتيجة التهديدات المتعاقبة من عدد من المسؤولين الإسرائيليين آنذاك والتي أشار إليها المرحوم الفريق محمد فوزي في مذكّراته الصادرة عن دارالوحدة للطباعة والنشر في بيروت ، وكذلك مدير المخابرات العامة ووزير الدفاع المصري بعد عام 967 السيد أمين
هويدي في كتابه ( أضواء على نكسة حزيران وعلى حرب الاستنزاف) والذي ذكر فيه ما يلي :
” فقد أعلن إسحاق رابين رئيس الأركان العامة الإسرائيلية من إذاعة إسرائيل يوم 12 / 5 / 967: إنّنا سنشنّ هجوماً خاطفاً على سورية ، وسنحتلّ دمشق لنسقط الحكم فيها ثمّ نعود ”
وقال ليفي أشكول رئيس الحكومة الإسرائيلية :” بأنّ حرب العصابات أمر لا يقبله العقل ، ولا يمكن ترك الأمر له في إسرائيل .. ومن الواضح أنّ سورية هي مصدر التخريب والمخرّبين الذين يفدون إلينا .” كما ساهم آباإيبان وزير الخارجية في إشعال الموقف .. وأبلغ سفراء إسرائيل في الخارج على إقناع الدول التي يعملون فيها بخطورة الوضع على الحدود الإسرائيلية .. وسيجبر إسرائيل على أن تتصرّف بمثل مايجب على كلّ حكومة مدركة لمسؤوليتها إزاء مواطنيها ” ، ويتابع أمين هويدي قوله : ”
ووسط هذا الجو المشحون وصلت المعلومات من موسكو عن الحشود الإسرائيلية فكانت كالزيت الذي يُوضع فوق النار فيزيدها اشتعالاً ” (ص: 19 – 20 من كتابه ) .
وإزاء هذه المعطيات كثّفت كافّة وسائط الاستطلاع السورية نشاطها لتدقيق المعلومات الروسية ، وخلُصت إلى عدم وجود دليل مادّي يثبت صحّة هذه المعلومات ..
كما أنّ الأخوة في مصر اهتّموا بالأمر وتابعوه ، وفي هذا السياق كلّف المشير عامر الفريق محمد فوزي رئيس الأركان المصري بالتوجّه إلى دمشق بتاريخ 14 / 5 / 967 ، وهاهو يدلي بشهادته فيقول :
” سافرت فعلاً إلى دمشق في اليوم نفسه ، ومكثت 24 ساعة تفقّدت فيها قيادة جبهة سورية ، كما سألت المسؤولين العسكريين في قيادة الأركان والجبهة عن صحّة المعلومات الخاصّة بحشد القوات الإسرائيلية على الحدود السورية ، وكانت النتيجة أنّي لم أحصل على أي دليل مادّي يؤكّد صحة المعلومات بل العكس كان صحيحاً ، إذ أنّني شاهدت صوراً فوتوغرافية جويّة عن الجبهة الإسرائيلية ، اُلتقِطت بمعرفة الاستطلاع السوري يوم 12، 13 / 5 / 1967 ، فلم ألاحظ أيّ تغيّر للموقف العسكري العادي . “
ويؤكّد السيد أمين الهويدي هذا الكلام عن طريق مصدر سوري آخر فيقول :
” سافرت في ذلك الوقت – وكنت وزيراً للدولة – في وفد برئاسة السيّد زكريّا محيي الدين إلى دمشق ، وفي مطار المزّة أكّد لي المرحوم عبد الكريم الجندي رئيس الشعبة الثانية السورية ، وكان ضمن أعضاء وفد الاستقبال أنّه لا حشود .. بل وتساءل في دهشة : لماذا كلّ هذه الضجّة التي تثيرونها في القاهرة ؟ ولعلّ هذا يفسّر الموقف الفاتر الذي اتّخذته السلطات السورية في المباحثات التي تمّت في ذلك الوقت ”
ويتابع السيّد هويدي فيقول : ” بل أذاعت المصادر الإسرائيلية وقتئذ بأنّها وجّهت الدعوة إلى السفير الروسي في تل أبيب للقيام بزيارة للجبهة الشمالية ليتأكّد بنفسه من عدم وجود أي حشود .. ”
وهكذا مرّت السنون ، وبقي الدافع السوڤ-;-ييتي من اعتماد وتسويق معلومة الحشود ونشرها لغزاً حتى الآن .. وحسب تقديري الشخصي ، يوجد احتمالان :
الأوّل : حصول المخابرات السوڤ-;-ييتية على معلومات تشير إلى وجود توجّه لدى القيادة الإسرائيلية بتنفيذ ضربة عسكرية ضدّ سوريّة ، كعقاب لها بسبب السماح للمقاومة الفلسطينية بالعمل من أراضيها ، ولدعمها ، وبالتالي ، فإنّ تسويق فكرة وجود حشود إسرائيلية سيفضح نوايا وخطط حكام تل أبيب مسبقاً من جهة ، ويجعل القيادتين المصرية والسورية في وضع الاستعداد والترقّب لمواجهة مثل هذا الاحتمال من جهة ثانية ، وبذلك يتم نزع عنصر المفاجأة منه ممّا يحول دون وقوع العدوان الإسرائيلي على سورية من أساسه ، ويجنّب السوڤ-;-ييت التورّط أكثر في المنطقة أو الإحراج عند التلكّؤ في دعم العرب ..
الثاني : وجود خرق أمني إسرائيلي ضمن المخابرات السوڤ-;-ييتية ، وعن هذا الطريق تمّ تسريب معلومة الحشود الإسرائيلية إلى المسؤولين السورين والمصريّين لاختبار مدى جدّية التقارب السوري المصري ، ومصداقية اتفاقيّة الدفاع المشترك الموقّعة بينهما ، وإجهاضها مسبقاً قبل أن تشكّل تهديداً عمليّاً للأمن الإسرائيلي وللضغط على الحكومة السورية لوضع حدّ لنشاط المقاومة الفلسطينية من حدودها.. أو لإثارة القيادة المصرية ودفعها لاتخاذ قرارات متسرّعة وغير مدروسة ودفعها لخوض حرب في وقت تبدو فيه القوات المصرية بجاهزية قتالية لا تؤهّلها لكسب جولة جديدة من الصراع مع الجيش الإسرائيلي ، وخاصّة أنّ قسماً مهمّاً منها كان منهمكاً بمشاكل اليمن ، وبالتالي ، دفع الأمور ليحصل ماحصل …
وعلى كلّ حال ، فقد أرسلت القيادة السورية وفداً إلى القاهرة ، وقد ناشد الرئيس الراحل عبد الناصر بأن لا يتّخذ أيّ قرار متسرّع لمواجهة النوايا الإسرائيلية العدوانية تجاه سورية .. ولذلك نقول لأولئك الملفّقين المضلّلين : إنّ القيادة السورية لم تورّط النظام المصري في الدخول في حرب مع الكيان الإسرائيلي .. وهذا ما سيتّضح أكثر فأكثر عند عرض الأهداف الحقيقية للقرارات المصرية حول إخراج قوّات الطوارئ الدولية ، وإغلاق خليج العقبة ..
ب : حول الحشود المصرية في سيناء ودوافعها :
———————————————
يعالج الفريق: محمد فوزي هذا الموضوع بصدق وشفافية فيقول :
” منذ عام 1957والقيادة السياسية والعسكرية في مصر تريد أن تسحب قوّة الطوارئ الدولية الموجودة على الحدود المصرية الإسرائيلية للسيطرة على المياه الإقليمية – حيث كان في وجودها مساس بالسيادة الوطنية لمصر ( ج . ع . م ).
لقد اتضحت لي رغبة كلّ من الرئيس جمال عبد الناصر ، والمشير عبد الحكيم عامر فيما قبل 1967 ، بانتهاز أيّ ظرف دولي أو إقليمي يسمح بإزالة هذه القوات . وحانت هذه الفرصة عندما أعلنت مصر أنّها على استعداد لدخول المعركة ضدّ إسرائيل إذا تعرّض القطر السوري للعدوان كما جاء في تهديدات ” ليفي أشكول ” و ” آباإيبان ،واسحق رابين والتي وصلت إلى حد الإنذار بغزو سورية . وكان على مصر أن تتحيّن الظروف السياسية والعسكرية لإزالة قوات الطوارئ الدولية على الحدود الشرقية وللسيطرة على مدخل خليج العقبة .”
وهنا ، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ نظام عبد الناصر تعرّض لحملة حاقدة شنّتها وسائل إعلام السعودية والأردن في ذلك الوقت ، كما سعى النظام السعودي آنذاك لتأليب أمريكا وحلفائها من أجل توجيه ضربة عسكرية إلى مصر ، وتحجيم قوّة ودور عبد الناصر في المنطقة ، وخاصة بعد وصول القوات المصرية إلى القرب من الحدود السعودية في اليمن ، (وهذا ما أكّدته الوثائق المسرّبة من الأرشيف الأمريكي مؤخّراً) ..
ولكن على مايبدو ، أنّ عبد الناصر كان يستهدف من حشد القوات المصرية في سيناء تحقيق هدف وطني باستعادة السيادة المصرية المنقوصة على قسم من حدودها ومياهها من جهة ، وهدف قومي بدرء العدوان الإسرائيلي المحتمل ضد سورية من جهة ثانية ، وبدون الدخول في صراع مسلّح واسع مع العدو الإسرائيلي ، أي كان يأمل أن يودّي حشد القوات المصرية الضخمة في شرق القناة إلى لجم العدوان ، وتجنّب الحرب في تلك الفترة … بينما كان عبد الحكيم عامر مغروراً يستهدف الدخول في حرب مع الكيان الإسرائيلي لأهداف وطنية ، ولحسابات شخصية تتعلّق بالصراع الخفي مع عبد الناصر نفسه ، بعد فشل عامر الذريع في حكم سورية وتحميله مسؤولية الانفصال ، وسعيه الملحوظ لتعزيز مركز القوّة الذي أنشأه لحسابه الشخصي داخل الجيش المصري والذي أصبح واضحاً لكل متتبع عسكري ، ومن الطبيعي أن يكون عبد الناصرعلى اطّلاع بما يدور في خلد عبد الحكيم ، ويراقب تحرّكاته ، وأن يصير أكثر اهتماماً وجدّية بمتابعة شؤون القوات المسلّحة بنفسه واختيار قيادات عسكرية عليا كفؤة وجديرة بالثقة ، وعدم ترك أمور الجيش حكراً للمشير عامر .. وبمعنى آخر برزت ملامح ازدواجية السلطة في مصر …
وأخيراً، وعلى ضوء ماتمّ عرضه من حقائق تدحض الوقائع الافتراضية المنسوجة في مخيّلات البعض ، نؤكّد ثانية ، إنّ اتّهام البعث بتوريط عبد الناصر عام 1967 هو مجرّد أكاذيب وتلفيقات لا تخدم سوى الكيان الصهيوني نفسه ، والقوى الرجعية في المنطقة التي تآمرت بشكل دائم ضد ثورة 23 تمّوز يوليو / 1952 والتي وقفت مرجعياتها الخليجية إلى جانب التحالف الإمبريالي – الصهيوني ، وحرّضته ضدّ عبد الناصر وباقي القوى الوطنية والتقدمية في الوطن العربي … ونحن هنا لا نشكّك بصدق نوايا القادة المصريين آنذاك ، فهم من أصحاب المواقف القومية المشرّفة تجاه سورية حيث برزت بوضوح عام 1957 عندماحشدت تركيا قواتها على الحدود السورية التركية ، وفي عام 1960 ضدّ التهديدات الإسرائيلية للإقليم الشمالي ( سورية ) وًمشروع تحويل نهر الأردن ، وقد عشتها حيّة آنذاك عندما كنت أخدم في الجيش الثاني ( المصري )أيام الوحدة حيث تحرّك لواؤنا الذي كان متمركزاً في منطقة السويس إلى بئر حسنة وسط سيناء بسبب تلك التهديدات ، ومن جهة أخرى ، فحسب تقديرنا إنّ التهديدات الإسرائيلية ضدّ سورية كانت تستهدف بالدرجة الأولى إرهابها لتتوقّف عن دعم المقاومة الفلسطينية ، ولم يكن تنفيذها حتميّاً ، لأنّ العقيدة الصهيونية تعتمد عادةً على تحقيق عنصر المفاجأة في مخططاتها العدوانية عند توجيه ضرباتها ضد الأقطار العربية ، بينما التهديد يبطل مفعول هذا العنصر الهام في الاستراتيجية الإسرائيلية .. ولكنّ النتائج المأساوية على الجبهة المصرية والهزيمة العسكرية هناك خلقت الظروف الملائمة لمأساة أخرى ، وهزيمة عسكرية جديدة في الجولان ..
” وهذا ما سنتابعه في حلقة ثالثة ”
في : 8 / 8 / 2015