مقالات
مفقودات دمشق تحولها إلى ذكرى في الكتب .. مخطوطات ثمينة وثريات فاخرة وسجاد الأموي النادر أين المصير؟
عندما يأتي ذلك اليوم وتضع الحرب أوزارها سوف تدرك مدينة دمشق مدى الخراب والتشويه الذي حلَّ بها خلال السنوات الماضية، وعندها سيأتي جيلٌ جديد من السوريين ويسألنا بغضب: «ماذا فعلتم بدمشق؟» سيبحث هذا الجيل عن بقايا مدينة كانت الأجمل بين المدن، ولن يجدها إلاّ في كتب التاريخ وأشعار نزار قباني.
سيكتشف هؤلاء بأن «مدينة الياسمين» شوهت في بعض الأحيان إلى درجة لا يتصورها العقل، فبعض الأحياء حتما لم تعد تشبه دمشق. جميع أرصفة المدينة كسرت أو سرقت ولا مكان للمشاة عليها إما من أجل نراجيل المقاهي ومقاعدها، أو مولدات الكهرباء أو كولابات الحراسة. الحدائق حرقت والجدران شوهت، بردى الجميل جف كلياً وصارت روائحه مصدر إزعاج لكل من كان يتباهى به أو يسكن في جواره. قصور دمشق القديمة مظلمة اليوم، تلعب بها الرياح كبيوت الأشباح. البعض منها انهار جزئياً فوق رؤوس أصحابه، مثل سرايا عبد الرحمن باشا اليوسف في سوق ساروجا، والبعض الآخر قُصف بقذائف الهاون كقصر الأمير عبد القادر الجزائري بحي العمارة، وهناك قصور تتلاشى أمام أعيننا بسبب التراخي والإهمال مثل قصر الرئيس محمد علي العابد. أما ساحة المرجة العريقة أو ساحة شهداء سورية، فحدث ولا حرج، بسطات، فوضى، وتشويه بصري لا مثيل له.
وكأن كل ذلك لا يكفي، فقد ضاع الكثير من نفائس دمشق، أو فقدت، ولا أحد يعرف مصيرها. منذ فترة مثلاً أثيرت قضية ٤٠٠ مخطوط عثماني مخزن في صناديق مياه بقين في غرفة مؤذني الجامع الأموي، وتلاها قضية الثريات القديمة الفاخرة، التي لم يبق منها في مستودعات الجامع إلا واحدة فقط. ومؤخراً تساءل البعض عن مصير سجاد جامع بني أمية الكبير بعدما تمَّ استبداله ببسط حديثة، تماما كما حصل من قبل مع الجامع الكبير في حلب، مع إنه قبل الحرب تم تشكيل لجنة لمعاينة ممتلكات الجامع في دمشق، وقررت إرسال سجاده الفاخر إلى متحف الأموي، تحت إشراف العلامة الشيخ عبد الرزاق الحلبي رحمه اللـه.
نسأل فقط: أين سجاد الأموي؟ قد تكون السلطات المعنية نقلته إلى مكان آمن، حفاظاً عليه، ولكن من حقنا أن نعرف ذلك. في ستينيات القرن المنصرم تمّ نقل معبد أبي سمبل الأثري جنوب غرب أسوان لتجنب غرقه خلال إنشاء بحيرة ناصر، وأُعيد تركيبه في موقع جديد أمام كاميرات التلفزيون المصري والعالمي، لكي لا يعبث به أحد أو تتم سرقة أي من معالمه فهو ملك الحضارة البشرية وليس ملك الحكومة المصرية، تماماً مثل سجاد الجامع الأموي بدمشق، فهو ملك الشعب السوري. قد يتهمني البعض بالترف أو الإسفاف بالدمشقة، ولكن اهتمامي بسجاد الأموي حصراً وبشوارع دمشق الهرمة لا يعني عدم الاكتراث لمصيبة الرقة أو كارثة تدمر أو نكبة دير الزور أو جريمة حلب، فجميعها تدمي القلب، ولكن هذا لا يعني أن نقبل الدمار ونشرعه بسبب ظروف الحرب.
تلك المدن أنهكتها الحرب أما دمشق فقد كانت ضحية الإهمال والفساد فقط لا غير، فباستثناء بعض القذائف وظروف الحياة اليومية القاسية هي لم تعش الحرب بالمقارنة من شقيقاتها من المدن السورية. مع ذلك لقد فقدت دمشق الكثير الكثير في السنوات الماضية، فأين الأرشيف القديم لمبنى التلفزيون مثلاً، الذي كلما سألنا عنه قبل الحرب قيل إنه في «مستودع السبينة». هل دمرته الحرب يا ترى؟ في مبنى البرلمان السوري، كان هناك مكتب فخم من الخشب الفاخر يعود للرئيس فارس الخوري توارثه جيل بعد جيل من رؤساء المجالس منذ مطلع الأربعينيات، ولكنه غير موجود اليوم وتمَّ استبداله بمكتب مشابه ولكن مزيف ولا أحد يعرف أين ذهب المكتب الأصلي. هل ضاع في مستودعات المجلس أم تم نقله إلى مكان آخر؟ لا يوجد أي وثيقة في وزارة الدفاع السورية تحمل توقيع الشهيد يوسف العظمة، ولا أي تسجيل صوتي في إذاعة دمشق للرئيس الراحل شكري القوتلي.
أرشيف مكتب عنبر، أولى ثانويات مدينة دمشق، نقل إلى قبو مدرسة جودت الهاشمي قبل سنوات ولا نعرف مصيره اليوم؟ هل هو بخير؟ أم إنه ضاع أو تلف.
قامت الحكومة الهندية منذ خمس سنوات تقريباً بإتلاف أكثر من 150 ألف وثيقة من أرشيفها الوطني، بحجة أنّ كمية الأوراق الموجودة لم تعد تُحتمل، لأسباب تقنية ولوجستية ومالية. أثار هذا القرار غضب نشطاء ومؤرخين هنود وعالميين، تحديداً فيما يتعلق بملفات اغتيال المهاتما غاندي. وكان الجواب الرسمي بأنّ تلك الأوراق بأمانٍ، مخبّأة داخل 52 علبة تحتوي على 11 ألف وثيقة سرية لم يُكشف النقاب عنها حتى اليوم. في الهند سمعنا جواباً من السلطات ولكن لا جواب يأتي حتى الآن في دمشق وقائمة مفقودات المدينة تطول وتطول. فهل من مجيب وهل يحق لنا أن نسأل عن دمشقنا ومقتنياتها وما مصيرها وماذا حل بها؟ سؤال ننتظر الإجابة عليه.