كانت البلاد في الأيام الأخیرة من عھد شكري القوتلي ھادئة كالھدوء الذي يسبق العاصفة، ھدوءا مشوباً بالیأس والانكسار والخذلان، خصوصا بعد أن قبلت سوريا، مرغمة، الدخول بمفاوضات الھدنة مع اسرائیل وبعد أن قطعت اتفاقیات الھدنة مع مصر ولبنان والأردن شوطا بعیدا…
كان وضع الشعب يشبه تماما وضع قادة الجیوش عندما يتقدمون من العدو، بعد الھزيمة، طالبین عقد الھدنة ..
كان الشعب يائسا بلا أمل ولا رجاء مسترخیا مستسلما. فاقتصرت آخر جلسات المجلس النیابي على بحث أمور لا علاقة لھا بقضیة فلسطین، ولا بالصراع الحاد الدائر في سورية بین الولايات المتحدة وبريطانیا وفرنسا على النفوذ والمصالح الاقتصادية .
كان ھنالك يأس وذل واسترخاء حتى أصبح عقد الھدنة مع العدو حلا لا بديل له، ذل واسترخاء ويأس من تبديل الأوضاع بما يفتح أبواب الرجاء والأمل بإعداد معركة ظافرة قادمة مع الیھود الرابضین على الحدود، المتحفزين للانقضاض على سورية.
في ذلك الجو الكالح الكئیب وقع انقلاب حسني الزعیم.. في ليلة 29 – 30 آذار 1949م.
إنني لا اتذكر بالضبط ماذا كان يشغلني عندما أخلدت إلى النوم في تلك اللیلة في بیتي الصغیر المعروف باسم “دار الیقظة” في زقاق الصخر، ولكنني أتذكر جیدا أنني افقت، بعد منتصف اللیل، على طرق عنیف على باب بیتي، فنھضت مسرعا من فراشي وأطللت من الشرفة فرأيت سیارة جیب عسكرية وضابطا شابا يطرق الباب بشكل عنیف وجنوني.
نزلت الدرج وأنا لا أزال بین النوم والیقظة، وما أن فتحت الباب حتى أقبل ذلك الضابط علي يصافحني بحرارة وعنف ويخبرني بانفعال “أن الجیش قد احتل دمشق وأن حسني الزعیم يود مقابلتك ” فاستمھلته ريثما أرتدي ثیابي. ثم ركبت معه السیارة إلى مديرية الشرطة التي اتخذھا الزعیم مركزا لنشاطه.
كانت دمشق نائمة، والشوارع خالیة إلا من بعض الآلیات العسكرية، وكنت خلال ذلك مغتما وجلا من ھذا الانقلاب ومما قد يترتب علیه من نتائج. في مبنى الشرطة كان أول من لقیته ھناك أديب الشیشكلي فسألته :
ما الخبر يا أديب ؟ قال :
قام ھذا المجنون بانقلاب عسكري !
صمت ولم اتكلم، فبادرني أديب قائلا :
ما رأيك أن نلقي علیه القبض ونرمي به في السجن؟ قلت له :
ھل أنتم قادرون على ذلك؟
في ھذه اللحظة خرج حسني الزعیم من غرفته ورآني في بھو الطابق الاول مع أديب فأقبل علي وصافحني، ثم دخلت معه الى غرفته التي لم أجد فیھا انسانا آخر.
قال لي حسني الزعیم :
– نحن قمنا بواجبنا وأنقذنا البلاد من الطغمة الفاسدة (ثم أتبع ذلك بسیل من الشتائم، على عادته) ومنذ الآن مسؤولیتكم بتحقیق الأھداف والغايات التي ناديتم بھا وجاھدتم في سبیلھا.
قلت له : ما أنا إلا طرف واحد، وھناك أطراف أخرى من المعارضة لھا شأنھا ووزنھا فعلیك أن تتصل بھا وتبحث معھا.
قال :لقد أرسلت ضباطا إلى بیوتھم وسیأتون الآن، ولم يكد ينھي كلامه حتى دخل علینا الدكتور سامي كبارة وھو من أبرز زعماء المعارضة في دمشق آنذاك وكان يعتبر نفسه كرشدي الكیخیا في الشمال.
كرر حسني الزعیم للدكتور كباره ما قاله لي، وكان جواب كبارة أن ھنالك إخوانا لھم وزنھم وشأنھم ولا يمكننا البحث قبل حضورھم جمیعا، فقال له الزعیم:
سوف يأتون تباعا. دخل علینا أثناء ذلك نائب دمشق زكي الخطیب في حالة يرثى لھا، أصفر الوجه معقود اللسان منھار الاعصاب ظانا بأنه معتقل، وعبثا حاول الزعیم اقناعه بأنه غیر معتقل مما اضطره لأن يأمر الضابط بأن يرجعه إلى منزله.
وقد سبق لي، عند وصولي الى مديرية الشرطة، أن رأيت صاحب جريدة الانشاء السید وجیه الحفار بثیاب النوم، والضابط يأمره بجلافة أن ينزل من السیارة، ولما رآه حسني الزعیم أمر بإرساله إلى السجن، فقلت للزعیم :
ما الداعي لاعتقال وجیه الحفار؟ قال :
انه خصمي وخصمكم أكثر، ألا تتذكر حملاته في جريدة الانشاء؟
قلت : أرجو أن تخلي سبیله وأن تترفع عن مثل ھذه الأمور؟
تم ھذا الحديث بحضور من استدعاھم حسني الزعیم ولا بد أنه نقل للحفار الذي لم يكن ينتظر مني أن أقف منه ھذا الموقف، لذلك فإنه عندما أفرج عنه فیما بعد، وأصدر كالمعتاد صحیفته، لم يتعرض إلى بما يسيء بالرغم من خلافنا الشديد حول القضايا السیاسیة.
ولم تمض فترة وجیزة حتى دخل علینا وزير الداخلیة والمعارف محسن البرازي وھو بثیاب النوم وشعره منفوش. ووجھه ممتقع ودون أن يكلمنا ذھب مع حسني الزعیم الى غرفة مجاورة، ومكث معه حوالي عشر دقائق، ثم غادر بعدھا مديرية الشرطة. أما الزعیم فقد عاد إلینا فسألته عما جرى بینه وبین محسن البرازي فقال : لقد أمرت باعتقاله، ولم يدم اعتقال محسن البرازي سوى أربعا وعشرين ساعة، لذلك قیل أن محسن البرازي أتى إلى حسني الزعیم لیطلب إلیه اعتقاله أسوة برئیس الجمھورية شكري القوتلي ورئیس الوزراء خالد العظم لئلا يتھم بالتواطؤ معه، وقد اعتقل بالاضافة الى القوتلي والعظم فیصل العسلي وحوالي ثلاثین عضوا من حزبه ووجیه الحفار صاحب جريدة الانشاء وخلیل المدرس نائب حلب وآخرون وقد اطلق سراحھم جمیعا بعد ذلك ما عدا فیصل العسلي.