مما لا شك فيه أن معظم المثقفين العرب قد قرأوا الأبيات الشعرية التي عُدَّت من أفضل ما قيل في التعبير عن الحس القومي العربي:
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان
كما مما لا شك فيه أيضاً أن قلة من هؤلاء المثقفين يعرفون قائلها، وهو المناضل السوري الكبير، والرجل الذي يقترن اسمه بالحركة الوطنية السورية على مدار القرن العشرين ( فخري البارودي 1887-1966)، وبما أن الوصول إلى المعلومة، أية معلومة، هذه الأيام لا يكلف صاحبها سوى الضغط على زر البحث في أي محرك بحث على الشبكة العنكبوتية، فإن هذا المقال لا يهدف إلى سرد سيرة حياة هذا الرجل العظيم، بل إلى إلقاء الضوء على بعض ما تميزت به شخصيته من سعة علم، واتساع أفق، ووطنية وعروبة متدفقة، وقبل ذلك وبعده، التواضع الذي لا مثيل له في هذا المستوى من الرجال، وذلك عن قرب بحكم صداقتي معه، ولو لفترة قصيرة.
ولد البارودي في حي القنوات بدمشق لأسرة ترجع أصولها إلى الشيخ ضاهر العمر، حاكم الجليل شمال فلسطين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر زمن الدولة العثمانية، وقد أنهى فخري تعليمه في مكتب عنبر بدمشق، وانخرط في الحركة الوطنية التي تألبت على الدولة العثمانية كنتيجة لسياسة التتريك التي اتبعها حكام تركيا الجدد بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني، وكان معظم هؤلاء الحكام من يهود سالونيك، الذين عزلوا السلطان عبد الحميد بسبب رفضه منح فلسطين لليهود في مقابلته الشهيرة مع هيرتزل.
بعد طرد الأتراك من سوريا كنتيجة مباشرة للحرب العالمية الأولى، وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، بدأ نضال الحركة الوطنية السورية ضد سلطات الانتداب الفرنسي، وقد كان البارودي في طليعة رجالات هذه الحركة، فنفي وسجن عدة مرات، لكنه لم يساوم على قضية وطنه وشعبه، وبعد الاستقلال استمر وجوده في المجتمع الدمشقي كأبرز وجوهه، وتفرغ في هذه الأثناء للمطالعة والتأليف، فكتب في التاريخ والأدب والشعر والموسيقى، وغيرها من فنون الكتابة، وكم كانت سعادته غامرة بقيام الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير عام 1958، حيث،- وكما أخبرني فيما بعد – بأن أحلامه في الوحدة العربية قد بدأت تتحقق.
بعد العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956، وقفت سوريا إلى جانب مصر، وأذكر أنه تشكلت في تلك الأيام كتائب المقاومة الشعبية في كافة المدن السورية، ووزعت عليها الأسلحة، وبدأت التدريب في ملاعب كرة القدم وغيرها من المرافق ( أذكر أننا كنا أولاداً نتفرج على الشباب وهم يتدربون على إطلاق النار في ملعب الميسات بدمشق )، وربما كان تشكيل هذه المقاومة الشعبية رداً سوريا للجميل على إرسال عبد الناصر فرقة مصرية لكي ترابط على الحدود السورية التركية بعد أن حشدت أنقرة قواتها العسكرية على الحدود السورية الشمالية عام 1955 ( كما ستفعل سوريا فيما بعد عام 1963 عندما أرسلت كتيبة اليرموك بقيادة العقيد فهد الشاعر للقتال إلى جانب حكومة بغداد ضد الأكراد المدعومين من شاه إيران وإسرائيل )، وبعد قيام الوحدة السورية المصرية، منح فخري البارودي رتبة عقيد فخري، وأصبح قائداً لكتائب المقاومة الشعبية.
وربما أسمح لنفسي بالتميز في هذه المقالة لكي أقول بأنني سعدت بلقاء الرجل وصداقته – رغم الفارق في السن بيني وبينه -، ذلك أنني، وفي بداية حياتي العملية عام 1964، استأجرت داراً في حي ركن الدين بدمشق، صادف أن كان منزل البارودي ملاصقاً لمنزلي، وذات مساء طرق باب منزلي شاب وسيم قدم نفسه لي على أنه مساعد فخري بك (كما كان يطلق عليه )، وقال بأن البيك قد علم بقدومي إلى هذا الحي، وهو يدعوني لشرب فنجان قهوة معه. عجبت لهذه المبادرة، فأين أنا من هذا الرجل العظيم الذي كان اسمه وشخصه في تلك الأيام ملء السمع والبصر، لذا لم يكن بإمكاني سوى تلبية الدعوة، وبالفعل لم يكد مساعده يفتح لي الباب حتى رأيت (البيك )، على كبر سنه، يتقدم مني بصعوبة مصافحاً باشاً مرحباً بي بحرارة كما لو كان يعرفني منذ زمن طويل. منذ تلك المقابلة الأولى بدأت علاقتي الدائمة بالرجل، تلك العلاقة التي استمرت لمدة سنتين حتى وفاته، رحمه الله، في مايو 1966.
خلال جلساتي المطولة معه، لمست بحق مدى شفافية روح هذا الإنسان العظيم، فإلى جانب علمه الغزير، ووطنيته الدافقة، تواضع جم ينم عن تربية وسمو خلق لم أجد لهما مثيلاً في حياتي، وفي داره المؤلفة من خمس غرف، أفرد البيك غرفتين ملأهما بالأرفف الخشبية من الأرض إلى السقف على مدار الجدران الأربعة، وعليها كدس كمية هائلة من الكتب، وضعت على كل كتاب أختام توضح أنها مقدمة هدية إلى المكتبة الظاهرية بدمشق بعد وفاة صاحبها، ولم تكن هذه الأعداد الهائلة من الكتب فقط هي التي اقتناها البارودي، ولكن لمكتبته الأصلية قصة محزنة. كان للبارودي – قبل هذا المنزل المجاور لمنزلي – فيلا من طابقين تقع في بستان يطل على ساحة الأمويين (حيث حديقة تشرين الآن )، في منطقة الحواكير، وقد كانت عامرة بالكتب من كل فن ولون، وفي يوم 18 تموز من عام 1963 قام العقيد جاسم علوان (ذو التوجه الناصري) بتمرد عسكري هدف إلى الاستيلاء على مقر الإذاعة والتلفزيون والأركان العامة للجيش الواقعة في ساحة الأمويين، ونتيجة للمعارك الشرسة بين المهاجمين والمدافعين، سقطت قذيفة مدفعية على منزل فخري بك فأحرقته بما فيه، وذهبت مكتبته هباء خلال دقائق، وفي هذا الوقت كان صاحب الفيلا يقضي إجازة الصيف في مصيف الزبداني ( وقيل بلودان، ولا بأس في ذلك فهما متجاوران)، وكان كلما تذكر الحادثة، تفر الدموع من عينيه حزناً لا على شيء سوى على المكتبة.
كان رحمه الله سخي الدمعة، تسيل من عينيه بسهولة، سهولة ضحكته التي كان يطلقها عند سماع أو قول نكتة، وأذكر أنه – لشغفه بالموسيقى – كان يطلب من مساعده “فهد المرشد” أن يضع له شريط التسجيل لموسيقى الكلارينيت التركية، وعندما كان يستبد به الطرب، يطلب من فهد أن يناوله الرق، فيبدأ بالضرب عليه والدموع تسيل من عينيه وهو يهز رأسه حبوراً وطرباً، وعندما تتوقف الموسيقى، كان يمسح دموعه ويدعوني، مع صديقين آخرين، إلى شرفة منزله المطلة على غوطة دمشق (يوم أن كانت هناك غوطة)، ثم يطلب من “فهد” إحضار أوراق اللعب لتزجية الوقت والتسلية. كان البارودي شاعراً مجيداً، مرهف الحس إلى درجة كبيرة، ذواق للموسيقى والشعر بشكل يدعو إلى العجب والإعجاب، وربما كانت قلة من الناس تعرف بأن المطرب السوري صاحب القدود الحلبية هو من اكتشاف وتشجيع البارودي، وهو الذي قدمه إلى الإذاعة السورية، وكان اسمه (صبحي أبو قوس) لكنه اتخذ اسماً فنياً هو صباح (تحريف صبحي) وفخري نسبة لفخري البارودي، كما يعود الفضل إلى البارودي في تشجيع وتطوير رقصة السماح، والتي تعود أصولها إلى بلدة “منبج” القريبة من حلب، والتي تؤدى من قبل العنصر النسائي على وقع غناء الموشحات.
لم أرَ البارودي يوماً يجلس في بيته وحيداً دون أن يكون عنده زوار من أصدقاء قدامى أو جدد، فقد كان – رحمه الله – يجد نفسه في الناس، وكان يقول لي هامساً: (الناس بالنسبة لي مثل الماء بالنسبة للسمك، بدونهم أموت)، فقلما كان يتناول الغداء أو العشاء وحيداً، بل كانت موائده عامرة بالضيوف في جميع الأوقات، ونظراً للمودة التي جمعتنا، فقد أهداني ديوانين من شعره وبتوقيعه، قلب يحترق، وتاريخ يتكلم، ربما كانا أغلى ما أملك من كتب.
في أواخر سني حياته، كان يبدو قصير القامة بشكل لافت، بينما كانت صوره في شبابه، والتي كان يعتز بها عندما كان يعرضها علي في ألبوماته الكثيرة، كان يبدو طويل القامة بشكل لافت أيضاً، ولسوء حظي، فقد غادر البارودي هذه الدنيا في أوائل أيار – مايو – 1966، بينما كنت خارج دمشق، فلم أتشرف بمواكبة جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة الباب الصغير، الواقعة على أول الطريق إلى حي الميدان بعد حي الشاغور، وقيل بأن دمشق بكافة رجالاتها من أدباء ومفكرين وقدماء المجاهدين وما تبقى من السياسيين – بعد أن شتت نظام ثورة! آذار شملهم، فلجأوا إلى دول مجاورة – جميعهم شاركوا في التشييع.
وحتى هذا اليوم، وكلما ابتعدت ذكراه زمنياً عن ذهني، كلما شعرت بحنين جارف إلى حضوره.
رحم الله فخري بك البارودي فقد كان من نوع الرجال الذين لا يجود بهم الزمان إلا نادراً.
اقرأ:
كتاب فخري البارودي إلى المفوض السامي الفرنسي
عريضة فخري البارودي إلى الجنرال كاترو
كلمة فخري البارودي في مجلس النواب السوري حول تقسيم فلسطين 1947
ما هي قصة فخري البارودي والحارس الليلي “أبو تيسير”
وليد الحلبي: الصديق فخري البارودي صاحب -بلاد العرب أوطاني-
بيت فخري البارودي بدمشق يتحول إلى معهد للحفاظ على المدن التاريخية
د. عزة علي آقبيق: فخري البارودي .. شخصية وطنية ثائرة.. ودعابة حاضرة
للإطلاع على تسلسل أحداث التاريخ السوري المعاصر بحسب الأيام
انظر أيضاً :
أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات