عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
افتتاح المؤتمر السوري:
استبق المؤتمر السوري العام وصول لجنة كينغ-كراين، وعقد أولى جلساته في 3 حزيران من عام 1919 في مقر النادي العربي بدمشق الذي كان يقع على الجهة الغربية من الطريق المؤدية إلى جسر الصالحية، أي قبل عشرة أيام من وصول لجنة الاستفتاء الأمريكية إلى يافا ومباشرتها عملها، حيث انتخب بالإجماع كل من:
– هاشم الأتاسي مندوب حمص رئيساً؛
– مرعي باشا الملاّح مندوب حلب نائباً أول للرئيس؛
– يوسف الحكيم مندوب طرابلس نائباً ثانياً للرئيس.
وذلك بعد أن انسحب من موقع رئاسة المؤتمر كل من الرئيس محمد فوزي باشا العظم ونائبه عبد الرحمن باشا اليوسف.
وتطالعنا هنا روايتان متباينتان لشخصيتين من داخل المؤتمر حول انتخابات الرئاسة، إذ يروي يوسف الحكيم النائب الثاني للرئيس أن هيئة جزئية اقتصرت على نواب ولايتي دمشق وحلب قامت بانتخاب كل من محمد فوزي باشا العظم رئيساً وعبد الرحمن باشا اليوسف نائباً للرئيس قبل انعقاد المؤتمر وافتتاح جلساته رسمياً. ومن ثم دعا العظم إلى داره في دمشق من كان قد وصلها من النواب، ثم اجتمع هؤلاء مرة أخرى في دار عطا باشا البكري، ويبدو أن الاتجاه الوطني للنواب، ولاسيما لجهة تعليق الأمير فيصل الأمل على ما تبذله الجبهة الشعبية من جهود في سبيل الوحدة والاستقلال في المناطق الثلاث، لم يتلاءم وأفكار الارستقراطيين المحافظين، وفي مقدمتهم محمد فوزي باشا العظم وعبد الرحمن باشا اليوسف، فانسحبا من رئاسة المؤتمر.
وبعد تكامل أعضاء المؤتمر سواء بالانتخاب أو التوكيل أو التعيين، تم افتتاحه في 3 حزيران من عام 1919 في مقر النادي العربي بدمشق حيث انتخب بالإجماع كل من هاشم الأتاسي رئيساً، ومرعي باشا الملاّح ويوسف الحكيم نائبين للرئيس.
أما عزت دروزة أمين السر فيذهب إلى القول إن المؤتمر عقد أولى جلساته في أواخر حزيران من عام 1919، حيث تم انتخاب كل من محمد فوزي باشا العظم رئيساً وعبد الرحمن باشا اليوسف نائباً للرئيس، ولكن موقع الرئاسة كان قد شغر بوفاة العظم، فانتخب الأتاسي رئيساً للمؤتمر في اجتماعه في 6 آذار من عام 1920.
ونحن نرجح رواية الحكيم على سواها لما عرف عن الرئيس العظم ونائبه اليوسف من موالاتهما للاتحاديين، ومناهضتهما للحركة العربية لما يزيد على عقد من الزمن، ومعارضتهما الثورة العربية، واتهامهما الهاشميين بخيانة الإسلام والخلافة الإسلامية ممثلة بالسلطنة العثمانية، وميلهما لاحقاً للفرنسيين وبالتالي لم تعتبرهما العناصر القومية الشخصيتين الملائمتين لرئاسة الهيئة المنتخبة للدولة السورية الجديدة. وبالفعل، فمع بداية الجلسات التمهيدية للمؤتمر دب خلاف بينهما وبين أعضاء حزب “الاستقلال العربي”، وكانت له السيطرة على المؤتمر، واضطرا إلى الاستقالة من الرئاسة، التي انتخب محلهما فيها كل من الأتاسي رئيساً، والملاّح والحكيم نائبين للرئيس. وقد توصلت الباحثة ماري ألماظ شهرستان في كتابها المرجعي “المؤتمر السوري العام 1919-1920” إلى استنتاجات مماثلة وأوردت الروايات المتباينة، ومن ثم أتبعتها بنقاش حول الوقائع والقرائن والمنطق السياسي خلصت فيه إلى ترجيح رواية الحكيم على تلك التي ساقها دروزة.
قرار المؤتمر أو ما يسمى “برنامج دمشق“:
استقطب المؤتمر مجمل الحركة الشعبية آنذاك، واعترفت لجنة الاستفتاء الدولية بصحة تمثيله لمعظم أوجه الحياة السياسية في البلاد، ورأت فيه دلالة على النضج السياسي والأهلية، مع أنها جهدت في البحث عن الثغرات فيه.
وفي 3 تموز من عام 1919 سلم وفد من عشرين نائباً يمثلون المناطق السورية كافة برئاسة هاشم الأتاسي اللجنة قرار المؤتمر حول مطالب البلاد، والذي عرف بـ”برنامج دمشق”، وأضحى أنموذجاً لمعظم العرائض التي قدمت إليها. وقد تضمن القرار البنود العشر التالية:
1-الاستقلال التام لسوريا الطبيعية، الممتدة من جبال طوروس شمالاً إلى رفح والعقبة جنوباً، ومن الفرات والخابور حتى الجوف شرقاً، إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً؛
2-سوريا دولة ملكية دستورية، على قاعدة اللامركزية، ومليكها الأمير فيصل نجل الحسين ملك الحجاز؛
3- الاحتجاج على مبدأ الانتداب (المادة 22 من قرار جمعية الأمم) بالنسبة لسوريا، باعتبارها صالحة لحكم نفسها بنفسها، أسوة برومانيا وصربيا واليونان؛
4- إذا لم يقبل مؤتمر الصلح احتجاج سوريا على الانتداب، فإنها تفضل انتداب الولايات المتحدة الأمريكية لبعدها عن روح الاستعمار وعن كل مطمع سياسي في هذه البلاد، كما جاء في تصريحات الرئيس ويلسن؛
5-إن لم تقبل الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون منتدبة على سوريا، فلتكن بريطانيا العظمى منتدبة لمدة عشرين عاماً، بشرط ألا يتجاوز انتدابها حد المساعدة الإدارية والاقتصادية؛
6-رفض انتداب فرنسا، وعدم الاعتراف بأي حق تدعيه في سوريا؛
7- رفض إحداث وطن قومي صهيوني في فلسطين، ورفض الهجرة الصهيونية إلى أي جزء من سوريا؛
8-أن تكون وحدة سوريا مضمونة وسليمة من كل تجزئة مع الاحتجاج على كل معاهدة ترمي إلى تجزئتها؛
9- الاستقلال التام للقطر العراقي دون أن تكون حواجز اقتصادية بينه وبين سوريا؛
10- السماح لسوريا أن ترسل وفداً يمثلها في مؤتمر الصلح للدفاع عن حقوقها (1).
قوبلت مقررات المؤتمر السوري تلك بحماس منقطع النظير، وتجمعت الوفود من أنحاء البلاد كافة في العاصمة دمشق لتحيي الأمير فيصلاً وتهتف للمؤتمر. وكما قال البحاثة الدكتور بديع بشور في كتابه “سوريا: صنع دولة وولادة أمة”: “إن أشخاص الحكام يزولون والأنظمة الاجتماعية تتبدل، لكن المصالح الحيوية للأمة والدولة تبقى، ولئن أخفق المؤتمر في تحقيق مقرراته، فإنه قد تركها تراثاً للأجيال الحية لتحقيقها متى أمكن ذلك! والعظماء… حتى في قبورهم يلهمون الأحياء(2) !”
وكما ورد في تقرير اللجنة الأمريكية: “إن برنامج دمشق [قرارات المؤتمر] كان أكثر الوثائق التي عرضت على اللجنة أهمية.. ولما كان نتيجة لعملية سياسية واسعة وشاقة فإنه يشكل أساساً يمكن للسوريين أن يجتمعوا عليه.. وهو أرسخ أساس لنظام قوي في سوريا.. ومما لا ريب فيه أن النقاط الأساسية في هذه القرارات –أو ما يسمى برنامج دمشق- تمثل الإرادة الشعبية كما يمكن التعبير عنها في أي بلد.”
تحقيقات اللجنة في حلب:
اختتمت لجنة الاستفتاء الأمريكية أعمالها في حلب، التي بقيت فيها ثلاثة أيام قضتها في مقابلة الوفود والهيئات الرسمية وممثلي الشرائح الاجتماعية كافة.
وما كادت تصل اللجنة عاصمة شمال سوريا في 24 تموز من عام 1919، حتى تحرك نواب حلب في المؤتمر السوري العام بالتنسيق مع الأمير فيصل تجاه الدعاية الفرنسية، فقاموا بتنظيم الصفوف الوطنية لجعل “برنامج دمشق” مطلب أهالي حلب وأقضيتها أمامها، واستطاعوا أن ينجحوا في ذلك نجاحاً باهراً، حيث كان هو المطلب الذي لم يكد يشذ عنه إلا القلائل، ذلك أن مطلب المؤتمر كان يمثل مطالب الأمة بأكملها.
وكان ممن قابل اللجنة في مقر إقامتها بفندق بارون وفد من ممثلي أعيان حلب ضم عشرين عضواً كان لأعضاء المؤتمر السوري حضور قوي فيه. فبمقارنة أسماء أعضاء الوفد مع أسماء نواب المؤتمر نقع على خمسة نواب هم: مرعي باشا الملاّح (النائب الأول لرئيس المؤتمر)، والشيخ عبد الحميد الجابري، والمحامي محمد المدرس، وجلال القدسي، والدكتور عبد الرحمن الكيالي. وأما بقية أعضاء الوفد فهم: الحاج مراد الجابري، وعارف إبراهيم باشا، ومحمد ويس آغا، والفريق كامل باشا القدسي، وفؤاد العادلي، والدكتور كاظم الكواكبي، وبهاء الدين الأميري، والدكتور فؤاد حمدي عيسى، والدكتور نافع السباعي، وراغب الكيخيا، وصادق الرفاعي، ورضا الجابري، وتوفيق الحياني، وراشد المرعشي، وأسعد العينتابي. وقد جرى بينهم وبين أعضاء اللجنة الحديث التالي:
س: هل مطالبكم منطبقة مع مطالب المؤتمر السوري؟
ج: هي بعينها حرفياً إلا أن لنا بعض إيضاحات تفصيلية بخصوص الحدود نعرضها عليكم وهي مدرجة في لائحتنا هذه المقدمة إليكم. وذكروا لهم أن (وادي حوران) هو الحد الطبيعي بين حلب والعراق، وطلبوا إدخاله إلى حدود الولاية ليكون (دير الزور) داخلاً ضمنها.
س: بلغنا أنه لولا الضغط لكانت أكثرية المسلمين يطلبون فرنسا.
ج: أولاً- الضغط غير متصور وقوعه لأن حكومتنا الحاضرة عربية، وهي لسان حالنا ونحن لسان حالها.
ثانياً- طلب فرنسا لا يتصور حدوثه من المسلمين، لأنهم يطلبون استقلالهم، وفرنسا تدعي حقوقاً في البلاد وهذان أمران متناقضان لا يمكن الجمع بينهما (3).
الإحالات المرجعية:
- قاسمية، د.خيرية، الحكومة العربية في دمشق 1918-1920، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1982، ص 108-109.
- للاستزادة عن المؤتمر السوري ودوراته، انظر: الماظ شهرستان، ماري، المؤتمر السوري العام 1919-1920، بيروت، دار أمواج، 2000.
- الحكيم، يوسف، سورية والعهد الفيصلي، بيروت، دار النهار، ط2، 1980، ص 90-91؛ الغزي، كامل، نهر الذهب في تاريخ حلب، تحقيق د. شوقي شعث ومحمود فاخوري، حلب، دار القلم العربي، ط2، 1993، ص 568.
اقرأ:
عمرو الملاّح: الحلبيون ودورهم في المؤتمر السوري العام (3/1) |
وايضاً: