مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش): تدهور الغطاء النباتي (النبيت) السوري، والتعفيش البيئي
نموذج غابة قرية البريقة في الجولان
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
تعلمنا في المدارس والجامعة أن (الاستعمار العثماني؟ ) لبلاد الشام هو السبب في تراجع الغطاء النباتي الغابي فيها، جراء تزويد قطارات الخط الحديدي الحجازي بأخشاب الغابات السورية بدل الفحم المفقود من البلاد….لكننا ومع تطور معارفنا تبين لنا خطل تلك المقولة، وتبين أن إنسان المنطقة هو المسؤول الأول عن تدمير نبيتها. وما دعاني اليوم للحديث عن هذا الجانب البيئي الحيوي الخطير هومشاهدتي لصورتين لتل عكاش وغابة قرية البريقة الشركسية في الجولان السوري، إحداهما قبل عام 2011 والثانية بعده وحتى تاريخه (2019). وكذلك مشاهدتي جريمة قطع أقدم شجرة كينا في مرج السلطان على الأرض. (ر. مقالنا -أشجار كينا ساحة مرج السلطان -الحقد الأسود-، وخبر قطع أقدم شجرة كينا (عمرها 132 سنة) المنشور في كانون الأول من عام 2015 ).
وبادئ ذي بدء، يستحيل أن يجد المرء في سورية بقعة واحدة، مهما صغرت مساحتها، لم تتعرض لتدخل الإنسان في بنيتها النباتية وتركيبتها الحيوية، ومن ثم تغييرمشهدها الطبيعي الأول والأصيل. علما أن سورية والبقاع المحيطة بها كانت تتمتع بمناخ مناسب جعلها تكتسي بغطاء نباتي غني وواسع الانتشار. فخريطة نبيت الألف الثامن قبل الميلاد للشرق الأدنى، في أطلس توبنغن للشرق الأوسط (تافو. آ- 5- 12، 1990 توبنغن/ فيسبادن) تؤكد حقيقة أن نبيت سورية كان يغطي معظم الأرض السورية قبل 10.000 سنة. تراجعت مساحته بنسبة لا تذكر قبل نحو 5000 سنة مضت، حين بدأ قطع الأشجار، لا للاستهلاك المحلي وحده بتوسع الإنسان بالاستقرار والعمل في الزراعة والرعي مع ميل الأوضاع المناخية نحو الجفاف (المحدود نسبياً)، وازدياد أعداد السكان وتطور تقنياتهم منذ بدايات ظهور الزرعة والاستقرار في موقع المريبط في حوض الفرات بحدود 7700 سنة قبل الميلاد….. بل ولتصدير الأخشاب لأغراض البناء إلى بلاد الرافدين، وإلى وادي النيل. إذ ترجع أقدم إشارة إلى نقل الخشب السوري إلى زمن السلالات السومرية، وتذكر أن حاكم مدينة (أ- د- اب) استورد أخشاب بناء من سورية عام 2350 قبل الميلاد. مما يشير إلى قدم قطع أشجار الغابة السورية. حتى أن سكان مدينة جبيل اللبنانية كانوا يعرفون في وثائق المصريين باسم (قاطعو الأخشاب). وكان آشور ناصر بال الثاني (884- 859 ق. م.) قد أوعز بقطع أشجار غابات اللكام (الأمانوس) ولبنان، و نقلها إلى آشور.
ولقد استمر تدهور الغطاء النباتي في عصور التاريخ القديم والوسيط، لكنه استفحل في العصرالحديث، واستشرى بسرعة. إذ يعد عقد الخمسينات من القرن العشرين بداية تسريع عجلة تخريب نبيت سورية على يد الإنسان بوتائر متصاعدة. ففي هذا العقد ألغي قانون العشائر، وأصبحت البادية مفتوحة للجميع، وزال مبدأ (الحمى)، فاستباح البدو البادية وهوامشها ومراعيها، ولم يعودوا يهتمون بحمايتها والحفاظ على نبيتها. ولا بتطبيق الدورة الرعوية المعروفة بالتشريق والتغريب، أ ومبدأ (النجعة) فيها. كما توسعت فلاحة أراضي النطاق الهامشي بين المعمورة والبادية، بل وشملت مساحات من البادية الداخلية وبطون أوديتها. وتزامن ذك مع صدور القانون رقم 655 لعام 1953، وفيه مادتان تنصان على تصفية حيوان الماعز، أو منعه من الرعي في المناطق الغابية -الحراجية. تلاه قانون حماية الأحراج رقم 128 لعام 1958. فكانت النتيجة عكسية تمثلت بازدياد اعتداء الإنسان على الغابة بأساليب مختلفة، وصلت حدود افتعال الحرائق بغية توفير أرض للزراعة. وعلى الرغم من حظر قطع الأشجار بقيت الغابة مصدر المادة الأولية للبناء والطهي، والتدفئة في الجبال الباردة، وكذلك لصنع الأدوات الزراعية في الريف الجبلي، وبصورة خاصة للأسر الفقيرة في قرى الغابات وهوامشها.
ونتيجة لما تقدم، وإضافة إلى تزايد سكان سورية من 3.006.028 نسمة عام 1946، إلى 21.338.000 نسمة لعام (2010 تقديراً)، وارتفاع وتائر الطلب على الحاجات، تزايد الضغط على الموارد الطبيعية، واستفحل التوسع المساحي في الزراعة، و انتشرعمران المدن وبقية التجمعات السكانية على مساحات تتزايد يوماً بعد يوم، إضافة إلى ارتفاع كثافة الطرق الحديثة وتزايد المساحات التي تبتلعها (يقدرمتوسط المساحة التي يستأثر بها طريق اوتوستراد دمشق- حلب وحده، وطوله 355 كم، بنحو70 كم2 للإتجاهين)، وكذلك انتشار المنشآت الاقتصادية والعمرانية المختلفة في المعمورة وهوامشها….. كل هذا وغيره نما وتطور على حساب الغطاء النباتي والتربة الصالحة للزراعة. لا سيما في المناطق المعمورة. ومع ذلك حافظت غابات الغرب السوري الجبلي ومناطق أخرى غيرها، على ما نجا منها من الدمار، ومن بينها أرض الجولان الذي كانت بقايا غطائه الغابي المتقهقر تغطي أغلب أنحائه المرتفعة، ومعظم قسمه الشمالي، الذي يدعوه القلقشندي (توفي عام 1418م) وتراثيو القرن الخامس عشر الميلادي بـ (الشعرا) أ و(عمل الشعرا)، لغناه بالأحراج والأشجار الغابية وكثافتها، وتنتشر بقاياها اليوم في ثلاث بقاع كبيرة المساحة نسبياً، هي : الأحراج الواقعة في شمالي الجولان، إلى الجنوب والجنوب الغربي من مسعدة، وصولاً إلى أحراج (تدعى أحراش محلياً) التكلة، القريبة من سكيك، وإلى الغرب من طريق القنيطرة- مسعدة، حول تل الأحمر الشمالي. أما الغابة الثانية فتغطي أشجارها جبال الجولان بين أراضي القرى الشركسية، السلمنية (الصرًمان- العدنانية) والمدارية في الشمال وبير عجم والبريقة، وطريق النعيمية (كودنة)- الجويزة في الجنوب. وتقع الغابة الثالثة في الوسط الغربي من الجولان، في أحواض أودية حوا، والصفا، واليعربية (الدالية)، ممتدة جنوب طريق القنيطرة -فلسطين، وصولاً إلى أطراف سهل البطيحة على بحيرة طبريا.
إن قطع أشجار الغطاء النباتي للأسباب المذكورة أمر قد يكون مبرراً حتى ولو أخذ طابع الاعتداء بسبب الحاجة والفقر، ويفسر المقولة البيئية المعروفة بـ: (ان البدوي والماعز هما ألد أعداء الشجرة في البلاد العربية)، حيث قدرت دراسة (أكساد) لحوض الحماد، أن وزن ما يحتطب منه من الجنبات والأنجم والشجيرات سنوياً بـنحو 31.200 طن. كما ذكرت الدراسة الروسية لنباتات البادية السورية، أن عدد ها ، يزيد على 400 مليون نبتة سنوياً. وتشير تقديرات المنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى أن تحضير إبريق من الشاي في البادية، يتطاب خمس جنبات. وأن عدد النبتات التي تحرق لتحضير الشاي فقط في البادية يقدر بنحو 51 مليون نبتة سنوياً. وأكثر من ذلك بعشر مرات سنوياً، من أجل التدفئة والطهي والخبز و صنع مشتقات الألبان وغيرها..
هذا في البادية السورية….. لكن ما تعرضت له غابة قريتي البريقة وبيرعجم الشركسيتين في الجولان وغيرهما من مساحات غابية في الجولان، أو مشجرة بالأشجار المثمرة في غوطة دمشق وحوض الزبداني وبقاع سورية أخرى من قطع وتدمير، لايمكن وصفه بالاعتداء بل بالهمجية الموغلة في الحقد الأسود والضغينة والتلوث السلوكي- الأخلاقي، الذي يصعب على الإنسان السوي تصوره، والذي تعجز الكلمات للتعبير عنه، لذا أترك الصور المرفقة تترجم ذلك. إذ أثبت الصراع في سورية أن عدواة انسان المنطقة للشجرة لا تقتصر على البدو، بل شملت كافة فئات شرائح الشعب التي شاركت في الصراع السوري – السوري.
والأدهى والأمر من ذلك أن تدمير غابات الجولان ترافق مع الانتقام من أصحاب الأشجار ورعاتها، الذين حموها من الزوال والدمار لعقود طويلة سبقت الحرب السورية – السورية. فبعد طرد سكان القرى الشركسية في الجولان وبصورة خاصة سكان قريتي البريقة وبير عجم، وتهجيرهم من قبل االمتقاتلين، قام هؤلاء مع من أحلوه محلهم بنهب بيوتهم وتعفيشها وبقطع أشجار الغابة وتدميرها دورالبريقة ومساكنها،ففي الصورة الاولى تظهر غابة تل عكاش التي حافظ عليها الشركس وحموها من الدمار والاعتداء حتى 2013 . أما في الصورة الثانية الملتقطة للمنظر نفسه بعد إقل من ثلاث سنوات (2017) فلا يشاهد المرء أثراً لأية شجرة أو مسكن سليم تمامأ.
وهكذا وبعد (ذوبان الثلج وانكشاف المرج) أصبح الجميع يعرف اليوم (2019) أن المصاب السوري لن يقف عند أشجار تُقطع، وأخشاب أبواب ونوافذ تُخلع و تُسرق للبيع وللتدفئة، وتعفيش منظم للبيوت يتم، وأبنية تُسوى بالأرض، ولن يقف عند آلاف أرواح سورية شابة منتجة تُزهق ….. بل هو مصاب يميت الأمل بما سيحل بسورية، ويرعبنا ما ينتظرها؟؟؟؟؟،. إذ ليس بوسع العقل والخيال والإحساس الإنساني استيعاب مصاب سورية، فيَد المرء السوي تعجز عن سطر ذلك كله بكلمات، دون الانزلاق في مهاوي تخبطات فكرية مؤلمة. فرجاءأ… ارحمونا من ترديد ترنيمة (سورية بخير)…حتى عبور النفق المظلم……
عادل عبدالسلام (لاش)
دمشق :29 -1 – 2019.