ضمن هذا السياق، صدر مؤخّراً كتابه “السلطة والمجتمع والعمل السياسي العربي أواخر العهد العثماني: وسائط السلطة في بلاد الشام” عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة، والذي يهدف من خلاله إلى تبيان سمات السلطنة العثمانية وخصائص مجتمعها التقليدي، من خلال دراسة مفهوم الدولة السلطانية في التاريخ الإسلامي.
كما يثبّت المؤلّف مدخلاً مفاهيمياً لمعالجة إشكاليات ترتبت على التقاطع بين صيغة الالتزام في النظام العثماني القديم والإدارة العثمانية التي اعتمدت على تنظيمات جديدة، وعلى التداخل والتمايز بين نظام الملل والامتيازات الأجنبية، وأثر ذلك في المجتمع، وكذلك على العمل السياسي العربي الحديث من خلال تقاطعه مع الإستراتيجيات الغربية قبل الحرب العالمية الأولى، حيث شكّل ذلك كلّه حالة تاريخية مأزقية في تحوّلات السلطة والمجتمع، يحاول الكتاب تفسيرها من خلال تكوّن وسائط السلطة بين الأطراف والمركز، وبين القديم والجديد.
يشتمل الكتاب على مدخل بعنوان “المسألة والمصادر والمصطلح والمنهج”، وأربعة فصول وخاتمة. في الفصل الأول، “الدولة العثمانية قبل التنظيمات: مؤسسات التاريخ الإسلامي ووسائط السلطة بين المجتمع وأهل الدولة”، يتناول كوثراني التبرير الفقهي للدولة – العصبية في التاريخ الإسلامي، والمؤسسة الدينية بين الدولة والمجتمع، والتنظيم الحِرفي وطرق الصوفية، والإقطاع العسكري ودوره الوظيفي بوصفه سلطة بين المجتمع والدولة، والعصبيات والسلطات المحلية، والمِلل غير الإسلامية وبدايات الوعي القومي، ومسألة الاستقلال الوطني.
ينتقل صاحب “مشروع النهوض العربي” (1995) في الفصل الثاني “دولة التنظيمات وأنماط السلطة” إلى القول إن الهمّ الأول للإصلاحات العثمانية والأفكار التي رافقتها إيجاد حل للتقهقر العسكري الذي أصاب المؤسسات العسكرية العثمانية، والتي حلّ محلها نظام الالتزام، والإنكشارية القائمة على التربية الدينية – العسكرية المغلقة.
كما يتناول المؤلف العلاقات بين سلطة المدينة والريف بناءً على أمثلة من واقع العلويين والدروز والبدو، فيقول إن “تاريخ هاتين الطائفتين في جبال النصيرية وجبل حوران يكاد يكون تاريخ سلسلة من أشكال المقاومة ضد التدخّل العثماني المتمثّل في إصرار الولاة العثمانيين على إلحاق هذه المناطق ضمن نطاق الالتزام الضرائبي، الذي كان يقوم به غالباً مرابو المدن وتجارها.
أما الفصل الثالث “بدايات العمل السياسي الحديث في ظل التنظيمات والسلطان الفردي”، فيبحث في الأوضاع الدولية لنزعتَي الاستبداد والمعارضة في الدولة العثمانية، فالتوازن الدولي على قاعدة التسوية بين السياستين الفرنسية والبريطانية المتنافستين عدّلته عوامل جديدة، أطلقت العنان للدول الكبرى لتدخل في سباق محموم نحو السيطرة والإلحاق واقتطاع مناطق النفوذ في العالم.
في الفصل الرابع “نزعة الإصلاح والاستقلال في العمل السياسي في العهد الدستوري: السياقان المحلي والدولي 1908-1914″، يتناول صاحب “تأريخ التاريخ” (2012) بالبحث حركة الإصلاح في ولاية بيروت، والمؤتمر العربي الأول (1913)، والسياسات الدولية تجاه العمل السياسي المحلي (سوريا والموقف الفرنسي)، واستنتاجات من نظام الولايات في مرحلة التنظيمات في عام 1864 إلى نظام الولايات الجديد في العهد الدستوري عام 1913.
في خاتمة الكتاب، وعنوانها “من مأزق المشروع العثماني إلى تعدّدية السلطات ومشروعات الدول”، يقول المؤلف إن ما يراه العقل الإستراتيجي الغربي ثوابت شرقية أو خصائص دائمة للاجتماع العربي – الإسلامي، لا يعدو حالةً من حالات التفكك التي آل إليها الاجتماع الإسلامي – العثماني في مرحلة انحطاطه ومرحلة اختراقه الغربي.