عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
النخبة المحلية ودورها في نهضة حلب العمرانية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني: الپاشوان مرعي الملاّح وزكي المدرّس أنموذجاً 1876 – 1909
أولاً- بين يدي البحث:
“لقد توسعت حلب كثيرًا وامتد عمرانها خارج نطاق المدينة القديمة. ووجدت أنها تشهد تطوراً عمرانياً رائعاً يعد بالخير العميم يعود الفضل فيه إلى الحكومة السنية وإفادتها من الخدمات الجليلة التي يسديها اثنان من المخلصين لخدمتكم هما حضرة مرعي پاشا الذي يحتل المكانة الأولى، وحضرة زكي بك أفندي مدرّس زادة الذي يحتل المكانة الثانية.
ويمتاز المخلص لخدمتكم حضرة مرعي پاشا بحسن السيرة، ورفعة المكانة بين الناس، والخبرة في السياسة والإدارة، والعفة، والاستقامة.
وإنه لمن دواعي الفخر والعزة أن أثبت وأبين لكم ما تجدونه من صورة استقامتهما، وأنهما يتشرفان ويفتخران بخدمة مولانا“.
تلكم كانت مقتطفات من التقرير الذي رفعه أحمد ممتاز پاشا متصرف نجد إلى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني في العام 1908، ويشير فيه إلى النهضة العمرانية التي شهدتها حلب في عهده، بعدما خبرت إبان مرحلة الضعف العثماني ابتداء من منتصف القرن الثامن عشر ولغاية حقبة التنظيمات العثمانية في أواسط القرن التاسع عشر سلسلة من النكبات والصراعات على السلطة والموارد الاقتصادية بين أعيانها المنقسمين بشدة بين عصبتين محليتين شبه عسكريتين متناحرتين، ألا وهما “الأشراف” الذين كانوا يقيمون داخل أسوار المدينة و”الإنكشارية” الذين كانوا يقيمون في الأحياء الشرقية والجنوبية خارج الأسوار، وإن كانتا تتحدان معاً أحياناً في مواجهة عسف بعض الولاة، وتخلل ذلك تعرضها في العام 1822 إلى زلزال دمّر نصف مبانيها، والخراب الذي لحق باقتصادياتها التي تعتمد على تجارة المسافات البعيدة بافتتاح قناة السويس في العام 1869 من جملة أزمات أخرى.
ويشكل هذا التقرير وثيقة بالغة الأهمية تكشف عن الدور المحوري الذي اضطلعت به النخبة البيروقراطية المحلية ممثلة باثنين من كبار أعيان المدينة و”أصحاب المراتب” في الهرمية العثمانية هما مرعي پاشا الملاّح وعبدالرحمن زكي پاشا المدرّس في خروج حلب من داخل أسوارها القديمة وتوسعها لتشهد نهضتها العمرانية المتنامية على يديهما.
ومما لا ريب فيه أن هذا التقرير يندرج ضمن مساعي السلطان عبدالحميد الثاني الرامية إلى مراقبة الأوضاع في الولايات العربية عبر تكليفه لبعض كبار موظفي حكومته ممن يتمتعون بثقته بتزويد قصر يلدز بتقارير دورية تتعلق بهذا الشأن.
والملفت للانتباه أن التقرير مؤرخ في 22 تموز/ يوليو من العام 1908، أي في أواخر العهد الحميديّ وقبل إعادة السلطان عبدالحميد الثاني العمل بالدستور العثماني (المشروطية الثانية) بيومين.
ثانياً- حلب في عصر التنظيمات العثمانية:
شهدت الدولة العثمانية تحولات عميقة في مطالع القرن التاسع عشر، بتأثير من تنفيذها برنامجاً طموحاً للإصلاح يستلهم النظام الأوروبي ويُعرف في الحوليات التاريخية باسم “التنظيمات”، وتقوم فلسفته على فكرة التماهي مع “التحديث” الذي كانت النخب العثمانية من رجال دولة ومفكرين عصريين ترى فيه مدخلاً لإنقاذ الدولة من حال التدهور والتفكك الذي خبرته إبان القرن الثامن عشر.
واحتل إصلاح المؤسسة العسكرية رأس سلم الأولويات بعد إلغاء الجيوش العثمانية التقليدية (الإنكشارية والسباهية) والاستعاضة عنها بجيوش نظامية عصرية على يد السلطان محمود الثاني (1808-1839)، الذي يعد بحق واضع الأسس الأولى لمشروع إصلاح الدولة العثمانية. ومثل إصلاح المؤسسة الإدارية بمختلف اختصاصاتها حقل الاهتمام اللاحق ابتداء من العام 1839، الذي شهد إصدار أول مراسيم التنظيمات المعروف بخط “كل خانة” لأنه تلي في القصر المعروف بهذا الاسم. ولتصدر بعدئذ سلسلة من المراسيم والقرارات التنظيمية والقانونية، أهمها الخط “الهمايوني” للعام 1856 الذي أصدره السلطان عبدالمجيد (1839-1861).
ولعل أهم تطور عرفته حلب في مرحلة “التنظيمات الثانية” (1856-1908) كان تحولها من إيالة إلى ولاية في العام 1866؛ وذلك ضمن إطار عملية إعادة هيكلة التنظيم الإداري-المؤسسي للدولة بموجب “قانون الولايات” للعام 1864 الذي أصدره السلطان عبدالعزيز الأول (1861-1876).
وكان إدخال مفهوم “الولاية” -الذي حل مكان “الإيالة”- في عصر التنظيمات العثمانية في الستينيات من القرن التاسع عشر يعد خطوة متقدمة على صعيد منح قدر أكبر من الصلاحيات في إدارة الولايات، والتأكيد على مشاركة المجتمع المحلي في عملية صنع القرار، مما أدى إلى بروز نخبة من البيروقراطيين المحليين الذي جرى دمجهم في المؤسسة العثمانية عبر استحداث هيئات محلية شبه تمثيلية كمجلسي إدارة الولاية والبلدية، اللذين كان باب الترشح لانتخابات عضويتهما متاحاً للأعيان ممن يدفعون سنوياً “ويركو”، وهي ضريبة كانت مفروضة على أصحاب الأراضي غير المبنية، لا تقل عن ليرة ذهبية عثمانية لمرشحي المجلس البلدي وخمس ليرات ذهبية عثمانية لمرشحي مجلس الإدارة، مما يعني أن عضويتهما كانت محصورة بـ “كبار الملاك”. ولكن بينما كانت رئاسة مجلس إدارة الولاية مناطة بالوالي بحكم المنصب، فإن رئاسة المجلس البلدي كانت تُسند دوماً إلى أحد كبار الأعيان المحليين.
والواقع إن قانون الولايات أحدث لأول مرة تغييراً هيكلياً في الإدارة المحلية على أساس مؤسسي عصري تمثل في فصل السلطة الإدارية للوالي عن السلطة العسكرية لقائد الجيش، وفصل السلطة القضائية عن الإدارية، وتشكيل جهاز إداري وقضائي مدني متكامل اجتذب الأعيان المحليين إلى إدارة الدولة بوصفهم “أرستقراطية بيروقراطية” من ملاك الأراضي ذات مكون إسلامي غالب، جنباً إلى جنب مع منح قدر أكبر من المساواة لرعايا الدولة من غير المسلمين مع المسلمين وإشراكهم في أجهزة الحكم والإدارة الآخذة بالتوسع.
ثالثاً- حلب في عهد السلطان عبدالحميد:
أدرك السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) حينما ارتقى عرش السلطنة العثمانية أنها قد بلغت آخر أطوارها، وأن الضعف الذي تعاني منه كان بنيوياً في مرحلة نشوء نظام الدول-الأمم، وانبثاق عصر القوميات في القرن التاسع عشر، مما حتّم عليه السير في طريق الإصلاح، الذي كان يعده مسألة ملحة.
ولئن أقام عبدالحميد الثاني نظام حكم سلطاني مركزي ذي صبغة أوتوقراطية على صعيد التنظيمات “السياسية”- وهي المسألة لتي لطالما شكلت مصدر صدام بينه وبين معارضي نهجه في الحكم- إلا أننا نرى بالمقابل أنه عمل على تعميق نهج التنظيمات “العمرانيّة” العثمانيّة، عبر إطلاقه برنامج الإعمار والتمدين الأضخم في تاريخ الدولة العثمانية منذ عهد السلطان سليمان القانوني، على نحو يمكننا معه وصف عبدالحميد الثاني بـ”السلطان المعمار”، وهي التسمية التي يطلقها عليه المؤرخ السوري “جمال باروت”؛ وذلك انطلاقاً من شمال شرق وجنوب ولاية حلب ووصولاً للجزيرة السورية، وهي المنطقة التي كانت تعاني من التصحر بعدما دمرها تيمورلنك بشكل تام في القرن الخامس عشر، وأهملها أسلافه من سلاطين بني عثمان؛ فأصبحت خراباً يباباً إلى أن أحياها برنامج الإعمار الحضري “الحميديّ” منذ السبعينيات من القرن التاسع عشر. وهي، بعد، المنطقة التي كان يرى السلطان عبدالحميد الثاني أنها بمثابة الرافعة الاقتصادية لازدهار بلاد الشام بأكملها وتنميتها.
وقد عمل السلطان عبدالحميد الثاني، ضمن إطار برنامج الإعمار الحضري “الحميديّ” الذي طبقه في كل من ولاية حلب ومتصرفية دير الزور (منطقة الجزيرة الوسطى السورية)، على تطوير دينامية جديدة تمثلت في إحداث إدارة مستقلة عن إدارة الدين العام المهيمن عليها من جانب الدائنين الأوروبيين أطلق عليها اسم “الأراضي السلطانية” (الجفتلك الهمايوني)، وجعلها تابعة لنظارة الخزينة الخاصة في اسطنبول، تمكنت طوال العهد الحميديّ من إعمار ما يزيد على (500) قرية في ولاية حلب وحدها، والاستفادة من ريعيتها في تمويل المشروعات العمرانية المنفذة في عهده للتقليل من الاعتماد على القروض الخارجية.
ولا يملك الباحث إلا أن يلحظ، ضمن هذا السياق التاريخي، بأن حقبة السلطان عبدالحميد الثاني، ولاسيما في ولايات بلاد الشام وفي عدادها حلب، كانت سمتها الأبرز الازدهار التمديني والاقتصادي، وما واكبه من ارتفاع كبير في معدلات النمو السكاني، وتوسع في المؤسسات الصحية والتعليمية، وتحسن كبير في شبكة المواصلات والاتصالات، والاندماج النسبي للسوق الداخلية مقارنة بما كانت عليه قبل عهده، في دلالة واضحة على تحقيق الحكم المركزي لعصر التنظيمات العثمانية في بلاد الشام نجاحاً أكبر مما حققه في بقية الولايات النائية كاليمن والحجاز، أو الأشد تعقيداً من بلاد الشام في تركيبها العشائري البدوي مثل العراق، ومما مرده أيضاً إلى أن تطبيقه في ولايات بلاد الشام قد جرى قبل غيره من الولايات العربية الأخرى وبوتيرة أسرع.
وعلى الرغم من أن الدافع وراء اهتمام السلطان عبدالحميد الثاني بولايات بلاد الشام ومتصرفياتها- ومن بينها ولاية حلب- كان سياسياً ويتمثل في عمله على تعزيز سلطته المركزية، واحتواء الاتجاهات القومية الآخذة في الانبثاق، والحد من التغلغل الاقتصادي والسياسي الأوروبي، متوسلاً في ذلك بالجامعة العثمانية والجامعة الإسلامية، إلا أنه كان ينطوي على أبعاد تنموية اقتصادية تمثلت في سعيه إلى رفع مستوى ازدهارها، وتنمية ثرواتها من أجل تأمين مصادر جديدة للدخل القومي في مرحلة كانت سمتها الأبرز نقص الموارد.
صورة ملتقطة لحلب بين عامي 1842-1844 بعدسة المصور الفرنسي الرائد جيرو دي برونجيه (Girault de Prangey) وتظهر حجم الدمار الذي ألحقه زلزال العام 1822 وظلت آثاره ماثلة بوضوح حتى وقت متأخر من الأربعينيات من القرن التاسع عشر. [مصدر الصورة: متحف المتروبوليتان للفنون]
وذلكم كان نهجاً انعكس إيجاباً على إعادة إعمار حلب وتطوير اقتصادياتها، وأدى إلى تعافيها من خرابها العمراني الذي تسبب به زلزال العام 1822 وظلت آثاره وبقاياه ماثلة بوضوح حتى وقت متأخر من الأربعينيات من القرن التاسع عشر، ودمارها الاقتصادي من جراء افتتاح قناة السويس في العام 1869 وتحول طريق التجارة الدولية عنها، بل وأدى إلى ازدهارها أيضاً بفضل نشوء سوق داخلية أكثر ترابطاً وأقل تكلفة مع كل من الأناضول الشرقي والأوسط والموصل وبغداد حيث رئاتها التجارية، ورفع مستوى الادخار العقاري، وتوجيه الريع الناتج عن الزراعة والتجارة في أعمال التشييد والبناء والتعمير، جنباً إلى جنب مع تعاظم الأهمية الاقتصادية التي باتت تتمتع بها ولاية حلب في الدولة العثمانية؛ إذ أصبحت تمثل صادراتها وصادرات بقية ولايات بلاد الشام ومتصرفياتها طوال الفترة الممتدة بين عامي (1884-1914) قرابة خمس الصادرات الإجمالية العثمانية.
وقد تجلى اهتمام السلطان عبدالحميد الثاني بولاية حلب أكثر ما تجلى في تأكيده على أن يكون تصنيفها من الدرجة الأولى بين ولايات السلطنة، وحرصه على أن تحظى بموقع متميز على الخارطة الإدارية للدولة، واختياره خيرة رجال دولته ليكونوا ولاة عليها، ومن بينهم رجل الدولة والصدر الأعظم الشهير محمد كامل پاشا القبرصي (1877-1878)، والمشير حسين جميل پاشا (1880-1887)، والوزير عارف پاشا (1890-1893)، والمشير عثمان نوري پاشا (1893-1894)، والوزير محمد رائف پاشا (1895-1900)، ومحمد ناظم پاشا (1905-1908).
رابعاً- الپاشوان الملاّح والمدرّس وقيادتهما النخبة البيروقراطية الحلبية في عهد السلطان عبدالحميد:
تمثل الجانب الأهم في السياسة العامة التي انتهجها السلطان عبدالحميد الثاني في رعايته تكوين نخبة مدينية حلبية من البيروقراطيين والملاك المحليين من ذوي الأفق العصري، والقادرين على طرح مبادرات تنموية-اقتصادية، وحرصه على إدماجهم في المؤسسة العثمانية بوصفهم “أرستقراطية بيروقراطية”، وجعلهم يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالبيروقراطية المركزية عبر منحهم الرتب الشرفية وما يرافقها من ألقاب النبالة العثمانية (پاشا، وبك، وأفندي) على اختلاف درجاتها، والأوسمة على اختلاف أنساقها وطبقاتها، وإشغالهم مناصب عليا في الولاية، وأن يكون لهم حضورهم في مجالسها المحلية من إدارية وبلدية وتعليمية (معارف) وقضائية (عدلية)، وهيئاتها الاقتصادية والمالية (مجلس إدارة المصرف الزراعي، وغرفة التجارة والزراعة والصناعة)؛ وذلك في مسعى منه ليشد ارتباطهم بعرشه، والإفادة مما يتمتعون به من مكانة ونفوذ في استقرار الأمن وحسن تصريف الأعمال، ودعمهم لبرنامجه الإصلاحي “الإعماري”.
والواقع إن انبثاق النخبة البيروقراطية المحلية أسهم في بث الروح العثمانية في المدينة، ونشوء مجال سياسي محلي كانت سمته الأبرز التفاعل بين أهالي حلب واﻹدارة المركزية العثمانية عبر “الأعيان”، الذين اضطلعوا بدور الوساطة بين الدولة العثمانية من جهة والمجتمع المحلي من جهة أخرى، مما ساعد على توسع وتفعيل مؤسسات الحكم المحلي وتنظيمها، وقيام نهضة عمرانية واقتصادية شاملة.
وقد اتسمت السياسة التي انتهجها السلطان عبدالحميد الثاني إزاء أسر الأعيان في حلب بالانفتاح عليها بشرائحها الاجتماعية والدينية المختلفة، وإعراضه عن الاعتماد على أسرة حلبية بعينها للإفادة منها في تدعيم حكمه، مفسحاً المجال واسعاً أمام البارزين من رجال أسر الأعيان المختلفة للاندماج في المؤسسة العثمانية، في زمن لم تعد فيه التمايزات الاجتماعية كبيرةً بين الأحياء الواقعة داخل السور وبين نظيراتها الواقعة خارجه، لا سيما بعدما راكم المستحدثون الحلبيون من تجار وملاك أراض ممن كانوا يقيمون في أحياء الضاحيتين الشرقية والجنوبية للمدينة- مثل بانقوسا، وقرلق، وباب النيرب- وجلهم من بقايا الانكشارية المحلية ثروات طائلة من جراء الاعتماد المتزايد على الحبوب والماشية بوصفها سلعاً قابلة للتصدير الناجم عن حرب القرم وما تلاها ابتداء من أواسط الخمسينيات من القرن التاسع عشر، وبسبب من أن الأحياء تلك كانت تشكل تقليدياً صلة الوصل بين حلب وريفها، وتحتوي على الخانات المختصة بتجارة الحاصلات الزراعية والسمن والصوف والماشية، التي كانت تهيأ فيها القوافل التجارية المغادرة إلى نهر الفرات وما وراءه وتُفرغ فيها حمولة القوافل العائدة منها، مما أدى إلى إحداث تحول في ميزان القوى السياسي والاقتصادي في المدينة.
ولئن رأى تكتل من أسر أعيان حلب- وجلهم ممن يمثلون الزعامة السياسية في المدينة في مرحلة ما قبل العهد الحميديّ- في السياسة المركزية التي انتهجها السلطان عبدالحميد انتقاصاً من نفوذهم، وما كانوا يتمتعون به من امتيازات وحقوق محلية، على نحو ما تجلى في اصطدام بعض آل الكيخيا والكواكبي والجابري والقدسي مع الولاة العثمانيين طوال العهد الحميديّ بسبب من الضغوط السياسية والاقتصادية التي مورست عليهم بغية الحصول على المال لتمويل المشروعات العمرانية على نحو ما، والتي كانوا يعتبرونها بمثابة تقويض للقاعدة الاقتصادية التي كانوا يستندون إليها، وبخاصة في عهد الوالي المشير حسين جميل پاشا (1880-1887)؛ إلا أنه بالمقابل كان ثمة فريق آخر من الأعيان المحليين ممن يجمعون بين صفتي البيروقراطيين-الملاك تعاونوا مع ولاة السلطان عبدالحميد الثاني ودعموا برنامجه الإعماري، ولكنهم كانوا دوماً تنظيماتيين-إصلاحيين-عمرانيين، ويصدرون في سلوكهم وفهمهم عن مفاهيم الدولة الحديثة.
وكان مرعي پاشا الملاّح (1853-1930) وعبدالرحمن زكي پاشا المدرّس (1849-1909) جراء تكونهما في خضم موجة الحداثة السياسية والفكرية والمؤسسية “التنظيماتية” العثمانية، وارتقائهما إلى أرفع المناصب في الولاية، وبلوغهما أعلى مراتب الپاشوية في الهرمية العثمانية الوجهين الأبرز في النخبة البيروقراطية المحلية، اللذين اضطلعا بدور محوري في النهضة العمرانية التي شهدتها حلب في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، على نحو على نحو يمكننا معه اعتبارهما بمثابة الوكيلين المحليين لتنفيذ برنامج الإعمار الحضري “الحميديّ” في ولاية حلب، وفقاً لما تشير إليه وثائق الأرشيف العثماني.
مرعي پاشا الملاّح (1853-1930)
وكان الملاّح حين ولادته في حي بانقوسا، الذي يعد من أهم أحياء حلب القديمة خارج الأسوار ويقع بالقرب من باب الحديد، يننتسب إلى أسرة ذات نفوذ ومكانة، تتحدر من عشيرة الدليم العراقية، استوطنت حلب في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت تنتمي في مرحلة ما قبل التنظيمات العثمانية إلى شريحة “الأغوات”، واستأثرت حتى عهد متأخر من القرن الثامن عشر بـ”مالكانه” مملحة الجبول التي تقضي بمنحهم التزام ضرائبها مدى الحياة، ومن ثم أصبحوا من كبار تجار الأغنام والحبوب وملاك الأراضي في مرحلة التنظيمات العثمانية، إلى جانب تعيينهم متولين ونظاراً على وقف جامع بانقوسا.
وكانت المناصب التي شغلها مرعي پاشا الملاّح متنوعةً تنوعاً ملحوظاً، وموزعةً بين القضاء والإدارة والمالية والاقتصاد والتعليم والأشغال العامة والمواصلات، إلى جانب رئاسته أو عضويته في الهيئات التمثيلية المحلية (مجلس إدارة الولاية، والمجلس البلدي)، وبلوغه درجة “المتصرف” في أواخر عهد السلطان عبدالحميد الثاني، قبل أن يمثل ولاية حلب في مجلس النواب العثماني (المبعوثان) في العام 1908، حاصلاً على العدد الأعلى من أصوات الناخبين في مدينة حلب، إلى جانب اضطلاعه بعدد من المهام التفتيشية الحساسة، شملت تحقيقه في تجاوزات أمير اللواء إبراهيم پاشا الملّي القائد الأعلى للكتائب الحميديّة. وسيواصل الملاّح دوره المحوري في نهضة حلب العمرانية في عهد الانتداب الفرنسي إبان إشغاله منصب حاكم دولة حلب العام.
بينما كان المدرّس المولود في باب النصر، وهو أحد أشهر أحياء البلدة القديمة الواقعة داخل الأسوار، ينحدر من أسرة ذات نفوذ ومكانة، استوطنت حلب قادمة من بلدة كلز في القرن الثامن عشر، وتنتمي إلى المؤسسة الدينية، وتولت الإفتاء في مرحلتي ما قبل عهد التنظيمات العثمانية والتنظيمات الأولى، ومن ثم تحولت لإشغال مناصب عالية في البيروقراطية العثمانية في مرحلة التنظيمات الثانية، وكانت تعد الأكثر ثراء وغنى من بين أسر حلب الملاكة للأراضي، ويأتي ترتيبها الثاني بعد آل باقي من بين أسر حلب التي بلغ أفرادها مراتب الباشوية من الدولة العثمانية في عصر التنظيمات بواقع أربع پاشوات (تقي الدين پاشا، وحسين رشدي پاشا، وعبدالرحمن زكي پاشا، ومحمد سامي پاشا)، وكان اثنان منهم من الپاشوات أصحاب المراتب (الوزير تقي الدين پاشا، والبكلربكي عبدالرحمن زكي پاشا).
وقد تقلب عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس في العديد من المناصب العالية كان أولها تعيينه قاضياً في المحاكم النظامية، فمدققاً لدى الأمانة العامة لولاية حلب (مميز في قلم مكتوبي الولاية)، ثم حل محل والده حسين پاشا المدرّس (1827-1885) بعد وفاته في عضوية مجلس إدارة الولاية؛ فبقي فيه مدة طويلة، جنباً إلى جنب مع تعيينه عضواً في كل من لجنة دائرة الأوقاف، والمهاجرين، والنافعة (الأشغال العامة والموصلات).
وفي جميع المناصب التي أسندت إليهما حقق الپاشوان الملاّح والمدرّس مشروعات عمرانية وإصلاحات إدارية واجتماعية، لا تزال مدينتهما حلب تذكرها بالخير، ومنها: تبرع الملاّح بإقامة مستوصف خيري في محلة جب القبة لمعاينة الفقراء مجاناً فُسمي باسمه (مستوصف مرعي پاشا الملاّح الخيري)، ثم ما لبث أن أزيل اسمه عنه ويشغله حالياً (مركز جب القبة الصحي)؛ وتنظيمه مقبرة العبارة الصغيرة وتحويلها إلى حديقة عامة عرفت باسمه أيضاً (حديقة مرعي پاشا الملاّح)، وقد عدها مؤرخ حلب الغزي في «نهر الذهب» واحدة من أعظم حدائق سورية في حينه، ومن ثم أزيل اسمه عنها وأضحت مقهى ومتنزهاً عرف باسم (المنشية) ثم مقصفاً ومتنزهاً تابعاً لاتحاد العمال إلى أن أزيلت في العام 2007 لبناء موقف طابقي ضخم للسيارات. كما بلغ من صيته عند أهالي حلب أن جادة خان السبيل المتفرعة من ساحة “باب الحديد” و”جامع بانقوسا” باتجاه جب القبة مروراً بجامع الأرمنازي عرفت، وما زالت تعرف حتى الآن، بـ (حارة الپاشا) نسبة إليه، نظراً لإقامته قصره (قناق مرعي پاشا الملاّح) فيها بعد ارتقائه إلى مراتب الپاشوية، وهو القصر الذي هدم في مطالع الخمسينيات من القرن المنصرم وقامت مكانة عبارة عظيمة تزيد مساحتها على ألفي متر مربع تُعرف اليوم باسم (عبارة جبسة). وأما عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس فمن مآثره العمرانية الخالدة تشييده على نفقته الخاصة جامعاً على طراز جامع المدرسة الرضائية المعروفة بالعثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، وكان أول الأبنية الدينية المقامة في محلة الجميلية التي كانت آنذاك منطقة توسع عمراني حديث، مما دعا الحاجة لبنائه بسبب بعد ذلك الحي نسبياً عن المدينة القديمة. وقد عُرف الجامع في طور نشأته الأولى باسم “الجامع الحميديّ” نسبة إلى السلطان عبدالحميد الثاني، ثم أصبح يعرف باسم “جامع زكي پاشا”، وأوقف عليه بعض أملاكه عليه. كما أُطلق اسمه على الشارع الذي يقع فيه هذا الجامع (شارع زكي پاشا).
وكان كل من الملاّح والمدرّس من “أصحاب المراتب” في الهرمية العثمانية؛ إذ بلغا رتبة “روم ايلي بكلربكي”، وهي من أرفع الرتب ذات المنشأ المُلكي (المدني) التي يلقب حاملها بالـ”پاشا” وتعادل رتبة (الفريق) العسكرية، وكذلك المرعية في المقابلات السلطانية، مما خولهما نفوذاً واسعاً وصلاحيات خاصة في دوائر الدولة كافة، وجعلهما متقدمين بذلك في مراتب الهرمية العثمانية ومراسم التشريفات على سائر پاشوات حلب المحليين الحائزين على رتبة “ميرميران”. ولم يكن يتقدم عليهما في مراتب الپاشوية سوى أصحاب رتبة “الوزارة”، التي لم تكن تمنح فعلياً إلا لكبار رجال الإدارة المركزية في العاصمة اسطنبول، بينما لم تكن الدولة تُنعم بها على أحد أعيان الولايات مهما كان مقامه عظيماً، وإنما تخصهُ برتبة “روم ايلي بكلربكي” الرفيعة. ومما هو جدير بالذكر أنه منذ بلوغ الملاّح والمدرّس هذه الرتبة العالية جرى إدراج اسميهما في قوائم “أصحاب مراتب” التي كانت تتصدر مجموعة الكتب السنوية للدولة العثمانية (سالنامه دولت عليه عثمانيه) الصادرة في استانبول. بالإضافة إلى نيلهما أرفع الأوسمة والميداليات في الدولة العثمانية؛ وذلك إشادة بفضلهما، وتقديراً لإخلاصهما، وما أسدياه من خدمات جلى، وما قدماه من إعانات مالية متتالية للدولة ومشروعات البنى التحتية التي أقامتها، وبخاصة مشروع الخط الحديدي الحجازي.
خامساً- المنجزات العمرانية في عهد السلطان عبدالحميد:
أدى نشوء مجال سياسي محلي داعم لنهج التنظيمات العمرانية العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني قادته النخبة البيروقراطية الحلبية ممثلة بوجهيها الأبرز مرعي پاشا الملاّح وعبدالرحمن زكي پاشا المدرّس اللذين كانا بمثابة الوكيلين المحليين لتنفيذ برنامج الإعمار الحضري “الحميديّ” في الولاية، وتفعيل النظام البلدي القائم في حلب منذ العام 1866 بعد إصدار السلطان عبدالحميد الثاني في العام 1877 قانوناً خاصاً بالبلديات نُظمت بموجبه مهامها وجعلها تتمتع بنظام مالي متعدد الإيرادات والنفقات، وارتفاع حصيلة الإيرادات الضريبية للحكومة، والتبرعات المالية التي ساهم بها المحسنون من أهالي حلب بسخاء وحماس إلى تحسن ملموس على صعد الخدمات الاجتماعية والقضاء والإدارة والتعليم والصحة، وتطوير البنية التحتية، وتنفيذ مشروعات عمرانية وتنموية عصرية بارزة، وازدياد حركة البناء والعمران على أيدي المستحدثين الحلبيين من تجار وملاك أراض ممن راكموا ثروات طائلة من الاستثمار العقاري والزراعي، جنباً إلى جنب مع إعادة إعمار أحياء المدينة القديمة التي تضررت ضرراً بالغاً من جراء الزلزال المدمر الذي ضربها في العام 1822.
ولعلنا نورد هنا بعضاً من أبرز المشروعات العمرانية التي جرى تنفيذها بحلب في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، ومن بينها: تأمين الاتصال البرقيّ (التلغرافيّ) المباشر بين حلب والعاصمة اسطنبول وبقية ولايات الدولة، وتحديث البنية التحتية في مجال المواصلات (شق طرق تربط حلب بكل من الاسكندرونة حيث المرفأ الحيوي بالنسبة لتجارة حلب الخارجية، ودير الزور لتيسير حركة انتقال القوافل من حلب إلى بغداد، ومنبج لتيسير حركة انتقال القوافل من حلب إلى أورفة والموصل)، وتطوير المجمع الحكومي (السرايا القديمة) في جوار قلعة حلب الذي أصبح يعتبر بمثابة الحي الإداري في المدينة بعدما شيد بجواره كل من مبنى البلدية التاريخي والمصرف الزراعي.
جرى النهوض بالواقع الصحي في المدينة (تدشين مشفى الحميديّة للغرباء في جوار قلعة حلب، وهو ثاني المشافي الحديثة التي عرفتها حلب في العصر الحديث بعد “مشفى الرمضانية العسكري”، واعتماد نظام الحجر الصحي، وترخيص كل من مشفى القديس لويس على قطعة أرض عائدة لوقف الجامع الكبير في حي الجميلية، ومشفى الطبيب أسادور ألتونيان في حي العزيزية)، وتأمين المياه الصالحة للشرب وري البساتين (استجلاب بعثات طبية من العاصمة اسطنبول. وكذلك هندسية أجنبية من أجل تحليل ودراسة المصادر المائية، وإيجاد حلول لمشكلة المياه المزمنة في حلب، واحتفار آبار في محلتي العوينة والجميلية وبعض البساتين رفع عليها دواليب هوائية لضخ المياه الجوفية)، وتوسيع شبكة خدمات الصرف الصحي (الكهاريز)، وإنارة المدينة بمصابيح اللوكس التي أطلق عليها أهالي حلب تسمية “الكهرباء”.
كذلك تم تطوير التعليم (تدشين ثانوية داخلية “المكتب السلطاني” كانت الأضخم من نوعها في السلطنة خارج العاصمة اسطنبول في حي الجميلية، وثانوية عسكرية “المكتب الرشدي العسكري” في جوار القلعة، وثانوية للإناث “مكتب رشدي الإناث”، ومدرسة فنية مهنية “مكتب الصنائع والفنون”، وارتفاع عدد المدارس حتى نهاية العهد الحميديّ إلى 130 مدرسة).
وشق شارع مستقيم داخل المدينة القديمة (جادة الخندق)، والتوسع العمراني خارج المدينة القديمة، ونمو مناطق جديدة وفق مخططات تنظيمية تستلهم النمط الغربي (الجميلية، والتلل، والنيال، والسليمانية، والإسماعيلية، والحميديّة، والجابرية)، ووضع أول مخطط طبوغرافي (تنظيمي) لمدينة حلب ارتبط بسيرورة التوسع العمراني المديني الكبيرة التي بلغتها المدينة حتى أواخر القرن التاسع عشر، وتمثل هدف هذا المخطط في تطوير المدينة عمرانياً، واعتماد المخطط التنظيمي الشطرنجي على الطريقة الأوروبية للشوارع المتوازية والمتعامدة والمتسلسلة، وانفتاح الواجهات عليها، وتضمن المخطط توسع المدينة نحو الغرب والشمال الغربي حتى متنزه السبيل الذي كان قائماً في ذلك الحين، وجرى تعبيد الشوارع باستخدام حجر البازلت الأسود، وتطوير منطقة باب الفرج التي أصبحت صلة الوصل بين القسم التجاري للمدينة ممثلاً بأسواقها والقسم العمراني السكاني الجديد في شمالها. كما أصبحت منطقة بستان (كل آب) المتاخمة لباب الفرج مركز خدمات المدينة الفندقية والمصرفية والتجارية الحديثة، وإقامة جسور فوق نهر قويق تربط المدينة القديمة بمناطق التوسع العمراني الجديد غربها، وبناء مخافر عدة، وارتفاع المعالم التذكارية (برج ساعة باب الفرج الذي كان يمثل رمزاً للحداثة والتغيير)، وإنشاء الحدائق والمتنزهات بوصفها رئات مدينية للنشاط الاجتماعي (المنشية الصغيرة في حي العزيزية، ومتنزه السبيل)، وتدشين محطة الشام في حي الجميلية إيذاناً باتصال حلب بالسكك الحديدية وحماه ودمشق من جملة مشروعات كثيرة أخرى يطول حصرها.
لقد كان من شأن المشروعات العمرانية التي جرى تنفيذها بحلب في عهد السلطان عبدالحميد الثاني بقيادة النخبة البيروقراطية الحلبية ضمن إطار برنامج الإعمار الحضري “الحميديّ” أن أدت إلى تعافي حلب من خرابها العمراني الذي تسبب به زلزال العام 1822 ودمارها الاقتصادي من جراء افتتاح قناة السويس في العام 1869 وتحول طريق التجارة الدولية عنها، وإعادة إعمارها، وتطوير اقتصادياتها، وعبورها إلى الحداثة، واضعة بذلك الأساس للتطور والتوسع العمراني التي ستشهده لاحقاً، وجاعلة الأرضية مهيأة لها لكي تبني مستقبلها الاقتصادي.