عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
لا يملك الباحث المنصف إلا أن يلحظ المنهجية العلمية التي اعتمدتها الباحثة القديرة أ. د. لمياء الجاسر في مقاربتها لموضوع “ترميم” قسطل السلطان الذي بناه السلطان سليمان القانوني بحلب في العام 1533 بعدما أوشك على الاندثار، وبناء برج الساعة فوقه وعلى أساساته في العام 1899.
ومما لا ريب فيه أن الاستشهاد برواية مؤرخ حلب الغزي في كتابه المرجعي “نهر الذهب في تاريخ حلب” أمر مهم.
بيد أني أعتقد بأن قراءة الكتابات والنقائش التي تتضمنها اللوحات الرخامية التذكارية المثبتة على برج ساعة باب الفرج والوقوف على دلالاتها التاريخية إنما هو عمل لا يقل أهمية، وذلكم هو مسعى محمود وجهد مشكور بادرت به الباحثة أ. د. لمياء الجاسر.
ولم تكتف الباحثة أ. د. لمياء الجاسر، وهي من نخبة الأخصائيين في علم الآثار وتمتلك خبرة طويلة في هذا المجال ولديها رصيد كبير من الكتب المرجعية، بقراءة النصوص والنقائش التي تعلو برج الساعة، وإنما عاينت الموقع ولاحظت الفروقات القائمة بين عمارة القسم السفلي من طرفي برج الساعة وبين ما فوقهما، مما جعلها تقرر أن القسم السفلي هو قديم للغاية وأنه من بقايا قسطل السلطان.
صحيح أن الغزي في الجزء الثاني من كتابه المرجعي “نهر الذهب” قد أشار إلى واقعة “هدم قسطل السلطان”.. وأنه “جدد في مكانه حوض مستور بنى عليه برج الساعة” (نهر الذهب، طـ دار القلم العربي، ج2، ص 164).
ولكننا نجد أن الغزي في سياق عرضه لحادثة عزل رائف باشا عن ولاية حلب لم ينوه بقيام الوالي المذكور بـ”تجديد” قسطل السلطان، وإنما ذكر أمراً مناقضاً لذلك تماماً مفاده قيام الوالي المذكور بمحو أي أثر يربط الموضع الذي أقيم فيه برج ساعة باب الفرج بقسطل السلطان، واستبداله للقسطل ببدعة الساعة التي هي من بدع الإفرنج (كذا!)، على حد وصف الغزي، وأن ذلك كان السبب الرئيس وراء عزل السلطان عبدالحميد الثاني للوالي رائف باشا وفقاً لرواية الغزي.
يقول الغزي في الجزء الثالث من “النهر” تحت عنوان “عزل رائف باشا” ما نصه: “أزال أثرا عظيما من آثار السلطان سليمان خان، وهو القسطل المعروف باسم قسطل السلطان.. بعد أن محا أثره بنى في موضعه برج الساعة الذي هو من بدع الفرنج” (نهر الذهب، ج3، ص 349).
بينما نجد أن أحد الألواح الرخامية المثبتة على برج الساعة، التي قامت مشكورة الباحثة أ. د. لمياء الجاسر بقراءة كتاباتها وتوثيقها، يتضمن نصاً يشير صراحة إلى “تجديد” قسطل السلطان بعدما أوشك على الاندثار، وليس إزالته ومحو أثره في عهد الوالي رائف باشا كما ذكر الغزي؛ وذلك سنة 1317 هـ/ 1899 م كما هو منقوش على برج الساعة، وليس سنة 1316 هـ/ 1898 م على نحو ما ذكر الغزي الذي يبدو أنه كان يكتب مستعيناً بذاكرته، مستعرضاً أحداثاً مضى عليها ما يزيد على ربع قرن من الزمان حين ألف كتابه.
والنص هو:
1- لما كان المنهل الذي أنشأه ساكن الجنان حضرة السلطان سليمان.
2- الأول سنة تسعماية وأربعين حين قدومه إلى حلب قد أشرف
3-على الدثور لتقادم عهده فسعى خلافة مولانا المعظم حضرة السلطان
4-ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني جدد
5- من أصله مع علاوة عليه الساعة فوقه وذلك سنة ألف
6-وثلاثمائة وسبع عشرة بعد الهجرة كتبه صادق
ولعلي أشير هنا إلى أنه مما يؤكد افتقار رواية الغزي للدقة هو أن إقامة برج الساعة بحلب في العام 1317هـ/ 1899 م تزامن مع إقامة أبراج ساعات مماثلة في كثير من المدن والحواضر العثمانية، ومن بينها اسطنبول. وكلها أقيمت إحياء لذكرى مرور خمس وعشرين عاماً على ارتقاء السلطان عبدالحميد العرش، والذي كان يعتبرها رمزاً للحداثة والتغيير.
وذلكم هو أمر لا ينتقص من مكانة الغزي ولا يقلل من أهمية عمله التاريخي الرائد، بقدر ما يهدف إلى إعادة النظر ببعض ما أتى على ذكره من الوقائع واعتبارها مسلمات لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها.
وأحسب أن جزء من الإشكالية إنما يكمن في تحميل البعض لعبارة وردت في اللوحة الرخامية أكثر مما تحتمل، ألا وهي: “جدد من أصله مع علاوة عليه الساعة فوقه”.
وإن قراءة متأنية للنص تؤكد ترجيح الباحثة أ. د. لمياء الجاسر بأن المقصود بعبارة “جدد” هو “رمم”.
ولعلي أشير إلى أن مفهوم “الترميم” بمعناه الحالي متأخر نسبياً، ولم يكن يستخدم في النصوص العربية في وقت متأخر من القرن التاسع عشر، وإنما هو من المصطلحات الاختصاصية ولم يجر اعتماده إلا بعدما أقرته مجامع اللغة العربية في مرحلة ما بعد زوال العهد العثماني.
ونحن نستذكر هذه الحقبة من تاريخ حلب العمراني التي كانت سمتها الازدهار والتشييد والبناء لا بد أن نشير إلى نقطة أخرى وثيقة الصلة بموضوع البحث ومغيبة، مع الأسف، عن الذاكرة التاريخية الحلبية وتتعلق بهوية البناة الحقيقيين لبرج ساعة باب الفرج، ومن بينهم رئيس بلدية حلب آنذاك مرعي باشا الملاح الرئيس الثاني للجنة الخاصة التي أنيط بها إقامة البرج وتجهيزه وترميم قسطل السلطان، بينما كان الوالي رائف باشا الرئيس الأول للجنة. وهو ما تؤكده ترجمته الرسمية المحفوظة في الأرشيف العثماني ولدي نسخة منها، وكذلك الكتاب السنوي لولاية حلب (سالنامة) للعام 1317 هـ/ 1899 م.