سلايد
عمرو الملاح: العلاقة بين آل مظلوميان أصحاب فندق بارون وأحمد جمال باشا
عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
العلاقة بين آل مظلوميان أصحاب فندق بارون وأحمد جمال باشا.. بين السردية الشفاهية والواقعة التاريخية
تقول الحكاية إن فندق بارون الشهير بحلب اتخذ إبان الحرب العالمية الأولى مقراً للقيادة المشتركة العثمانية-الألمانية. وحينما وصل الفريق أول أحمد جمال باشا وزير (ناظر) البحرية وقائد الجيش الرابع العام إلى المدينة أقام على شرفه الجنرال الألماني أوتو ليمان فون ساندرز باشا مأدبة فاخرة بذل الأخوان أرمين وأونيك مظلوميان صاحبا الفندق في إعدادها جهداً كبيراً. فما كان من جمال باشا إلا أن طلب إلى الأخوين مظلوميان إعداد وليمة مماثلة يرد بها على تلك التي أقامها الجنرال الألماني على شرفه، ليتفاجأ، عندئذ، برفض أرمين مظلوميان طلبه هذا في وقت لم يكن يجرؤ فيه أحد على أن يرد طلباً لجمال باشا. وعندما سأله عن سبب رفضه أجابه مظلوميان: “إنني من أجل الباشا لا أعد وليمة مماثلة بل أعد وليمة أفضل بكثير”. راق لجمال باشا هذا الجواب ونشأت بينهما صداقة عميقة.
لا تخلو الحكاية هذه التي تنتمي إلى السرديات الشفاهية من التبسيط المخل بل والسطحية التي لا تلامس جوهر العلاقة الخاصة التي كانت تربط بين آل مظلوميان وأحمد جمال باشا إبان الحرب العالمية الأولى، وما كان لها من تأثير على مصائر المرحلين الأرمن الذين جرى توطينهم في سوريا في مرحلة شهدت تطبيق الحكومة “الاتحادية” المركزية في استانبول برنامج الإبعاد (ديبورتيشن) للأرمن من ولايات الأناضول الشرقية؛ وذلك على خلفية بروز النزعة القومية الانفصالية “الأرمنية”، ومساندة بعض الوحدات الأرمنية لجيوش الإمبراطورية الروسية الزاحفة نحو الدولة العثمانية، واحتلالها أراض كانت تعتبرها “أرمنية”، ووقوع مجازر وعمليات إبعاد على يد هذه الوحدات بحق سكان المناطق تلك وجلهم من الأكراد.
والواقع إن حلب أصبحت في صيف العام 1915 مركزاً لتجمع المرحلين الأرمن الذين تدفقوا عليها قبل أن يصار إلى توزيعهم في كل من حماة ودير الزور. كما أنها اتخذت مقراً لتنفيذ عمليات الإغاثة الإنسانية لمساعدتهم. وسيضطلع آل مظلوميان الذين يحظون برعاية جمال باشا بدور محوري في العمليات الإغاثية تلك التي سيسهلها جمال باشا.
وعلى النقيض من الصورة التنميطيّة المرسومة عن جمال باشا على أنه أحد مهندسي ما يسمى بـ “الإبادة الجماعية الأرمنية” إلى جانب كل من طلعت باشا ناظر الداخلية، وأنور باشا ناظر الحربية، الذين كانوا يعرفون بـ “ثالوث الباشوات الأتراك” (طلعت وجمال وأنور) القابضين على مقاليد السلطة في الدولة العثمانية والقياديين في “جمعية الاتحاد والترقي”، التي أصبحت بمثابة الحزب الحاكم في السلطنة في مرحلة ما بعد الإطاحة بالسلطان عبدالحميد الثاني، فإن السياسة التي انتهجها جمال باشا إزاء “المسألة الأرمنية” اتسمت بقدر كبير من المرونة بخلاف سياسة طلعت باشا الأكثر تشدداً وتطرفاً وعنفاً.
ترجم جمال باشا هذه السياسة في شكل التقرب من الأرمن المقيمين في مناطق بلاد الشام غير المشمولين بقرارات الإبعاد التي أصدرتها الحكومة الاتحادية في اسطنبول، ومن بينهم آل مظلوميان، إلى جانب تهيئة ظروف أفضل لإعادة توطين المرحلين الأرمن في المناطق الخاضعة لسلطته، وإيصال المساعدات الإنسانية لهم، متوسلاً بالصلاحيات شبه المطلقة الممنوحة له بحكم إشغاله مناصب ناظر البحرية العثمانية، وقائد الجيش الرابع العثماني، والحاكم العسكري على ولايات بلاد الشام (سورية-دمشق، وحلب، وبيروت) ومتصرفيتيها (القدس ودير الزور) مجتمعة، وكذلك بموجب حالة الطوارئ والأحكام العرفية المعلنة في البلاد بسبب الحرب العالمية الأولى التي كانت دائرة آنذاك.
ويعزو المؤرخ الفرنسي الأرمني ريمون هـ. كيفوركيان المعاملة التي تلقاها المرحلون الأرمن على يد جمال باشا والتي اتسمت بالرأفة مقارنة بسواه من المسؤولين “الاتحاديين” إلى أسباب محض سياسية تتعلق بالخطط التي كان يعدها للاستقلال عن الدولة العثمانية، وتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً على بلاد الشام بأكملها، في الفترة التي كانت ترسم فيها الخرائط تمهيداً لاقتسام تركة السلطنة العثمانية، التي كانت على وشك التفكك والانهيار. كما يعتبر كيفوركيان أن جمال باشا اتخذ هذا الموقف “المتميز” إزاء الأرمن في مسعى منه للحصول على موافقة الحلفاء على تحقيق أهدافه.
ويذهب المؤرخ السوري أمين سعيد- وهو المعاصر لتلك الأحداث- إلى المذهب ذاته معتبراً أن جمال باشا استعان بالأرمن في فتح قناة اتصال مع الحلفاء “فأخذ يحاسنهم، ويتقرب إليهم، ويدخل الذين يبلغون حدود الأقطار في سلطته تحت جناح حمايته”.
بهذا الصدد، نشر سعيد في كتابه المرجعي “الثورة العربية الكبرى” مقتطفات من الوثائق السرية التي عثر عليها البلاشفة الروس في مقر وزارة خارجية روسيا القيصرية في أواخر العام 1917، وتتعلق بسعي جمال باشا للاتفاق مع الحلفاء.
وتشير الوثائق السرية تلك التي تعود إلى الفترة الممتدة بين تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1915 وآذار/ مارس من العام 1916 إلى وجود صلة بين أحمد جمال باشا وقادة أرمن إبان وجوده في بلاد الشام، وتوسيطه إياهم في طرح “مشروع اتفاق” على الروس الذين سيتولون لاحقاً عملية تسويقه لدى كل من بريطانيا وفرنسا، يتضمن اعتراف “الدول المتحالفة” به سلطاناً على اتحاد يتكون من سوريا، وفلسطين، والعراق، وعربستان، وكيليكية، وأرمينية، وكردستان، مقابل أن يرضى جمال باشا بأن تترك المضائق واستانبول للحلفاء، ويتعهد أن يترك الطريق حرة لمساعدة الأرمن.
والواقع إن انفتاح جمال باشا على الأرمن وحرصه على إقامة أفضل العلاقات مع قياداتهم وناشطيهم في المجال الإغاثي، وفي مقدمتهم آل مظلوميان، وكذلك التدابير التي اتخذها وما اتصفت به من الرأفة حيال المرحلين الأرمن، لا يمكن فهمها واستيعابها إلا إذا وضعناها ضمن سياقها التاريخي.
وفي ظل الحظر الذي فرضته الحكومة “الاتحادية” المركزية في استانبول على عمل منظمات الإغاثة الدولية كان لافتاً الدور المحوري الذي اضطلع به أرمين وأونيك مظلوميان صاحبا فندق “بارون” الشهير، اللذين وصفهما كيفوركيان بأنهما كانا من الوجهاء المحليين الذين كانت لديهم حظوة عند جمال باشا، في إقامة شبكة سرية تكوّنت نواتها في حلب ووسّعت نطاق عملها تدريجياً ليشمل المنطقة بأسرها، وكانت لها ارتباطات حتى بالعاصمة استانبول ذاتها.
وستتولى الشبكة السرية تلك إيصال المساعدات الإنسانية، ولا سيما الغذائية منها والتي كان يقدمها جمال باشا ذاته، على المرحلين الأرمن حتى دير الزور، وتوفير الرعاية للأيتام، وإخفاء الشبان والمثقفين، وكلها أنشطة كان يمولها بصورة أساسية مجلس إدارة مندوبي الإرساليات الخارجية في الولايات المتحدة عبر مشفى عينتاب الأمريكي.
ولئن توصّل طلعت باشا ناظر الداخلية، أواخر تموز/ يوليو من العام 1915، إلى معرفة أن موفدَين أرمنيين أرسلا من حلب إلى دير الزور، يوزعان الأموال على المرحلين فأمر باعتقالهما، فإن كثراً آخرين مرّوا من دون أن ينتبه إليهم أحد وأنجزوا مهماتهم من دون أن يثيروا الريبة. وأفلح الأديب الأرمني يرفانت أوديان (1869- 1926)، على سبيل المثال، في التسلل إلى حلب بتواطؤ من موظف أرمني يعمل في السكك الحديدية، ليقيم في ميتم موضوع تحت رعاية سيدة ألمانية صديقة لجمال باشا، الذي تغاضى عن أنشطة هذه المؤسسة الخاصة بالأرمن. وما إن تعرّض أوديان للمضايقات حتى توجّه بكل بساطة إلى أونيك مظلوميان، صاحب فندق “بارون” المشغول غالباً من جانب القيادة العامة للجيش الرابع، والذي عُدّ ملاذاً للمثقفين الأرمن وسط سيل المرحلين. وواقع الأمر أن أهم أحد أنشطة الشبكة تلك إنما تمثل في منح الأفضلية لإنقاذ الأدباء، إدراكاً منها أن “بقاء الأمّة” لا يمكن أن يتحقق إلا بهذا الثمن، على حد وصف كيفوركيان.
وما كان عمل صاحبي فندق “بارون” ليمرّ من غير أن يلفت انتباه طلعت باشا وزير الداخلية الاتحادي الذي أمر في صيف العام 1916 بفتح تحقيق في أنشطتهما، على نحو ما يؤكد المؤرخ التركي تانر أكشام. ولسوف يستغل طلعت باشا مغادرة جمال باشا مدينة حلب إلى القدس مؤقتاً ليصدر تعليماته بترحيل آل مظلوميان إلى الموصل؛ فما كان من جمال باشا إلا أن تدخل، ممارساً ضغوطات على الحكومة الاتحادية المركزية للحيلولة دون تطبيق قرار الترحيل واستبداله بالنفي المؤقت إلى جبل لبنان الخاضع لسلطته.
وفي نهاية العام 1917 عاد الأخوان مظلوميان إلى حلب ليرحبا، بعدئذ، في فندقهما بالفريق مصطفى كمال باشا، الذي سيعرف لاحقاً بمصطفى كمال “آتاتورك” مؤسس تركيا الحديثة وبطلها القومي في أعين مريديه.
وأما راعيهما جمال باشا فسرعان ما تكشفت اتصالاته السرية بالحلفاء بعد الثورة البلشفية التي قامت في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1917، وتسربت الوثائق والمراسلات التي تدينه إلى القابضين على السلطة الفعلية في العاصمة اسطنبول ممثلين بقرينيه المنافسين له، ألا وهما الباشوان أنور وطلعت. وجرى، عندئذ، التعجيل بإبعاده عن سورية والقضاء على حلمه بتنصيب نفسه حاكماً أو ملكاً على بلاد الشام، وعزله من مناصبه كافة، وتجريده من جميع صلاحياته الاستثنائية، والاكتفاء بتسميته عضواً في هيئة الإدارة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي.
مراجع
– أمين سعيد. الثورة العربية الكبرى: تاريخ مفصل وجامع للقضية العربية في ربع قرن. المجلد الأول. مكتبة مدبولي. القاهرة، لا تا؛
– Raymond Kévorkian. The Armenian Genocide: A Complete History. London and New York: I.B. Taurus, 2011;
-Taner Akçam, ‘Guenter Lewy’s The Armenian massacres in Ottoman Turkey’, Genocide Studies and Prevention, Volume 3, Issue 1, April 2008.
ولماذا حدثت مجازر شنيعة بحق الأرمن في دير الزور اذا كان جمال باشا المسؤول أيضا على تلك المدينة؟