وثائق سوريا
نص رسالة فخري البارودي إلى سعد الله الجابري
نص رسالة فخري البارودي إلى سعد الله الجابري
الشيوعية والفاشستية والتركية في حلب سنة 1937
سيدي الأخ سعد الله الجابري:
في المدة القليلة التي قضيتها في حلب رأيت وسمعت من عدة نواح أشياء لم يسعني إلا أن أذكرها لك بصفتك رئيساً للكتلة الوطنية ووزيراً للداخلية ولك رأيك بعد أن تطلع على هذا التقرير الذي أكتبه إليك بملء الإخلاص والصراحة.
إن الحالة في حلب فوضى أكثر منها في دمشق بالنظر لعدم وجود أحد من معتمدي رجالنا. وقد بدأ نفوذ الكتلة بالتناقض بالرغم من تنظيماتها السابقة، وعدم وجود من يدير دفة الشعب بصورة حازمة غير مغرضة. وقد نشطت الأحزاب بالعمل، وأخض منها الحزب الفاشستي والحزب الشيوعي. وإذا خلا الجو لهؤلاء يوماً من الأيام فالكارثة واقعة على رأس الكتلة بلا شك ولا مبالغة لكثرة الدس من جميع الجهات الرجعية وتنظيم هذه الأحزاب ومساعدتها على ترويج هذه الإشاعات دون أن يوجد للكتلة دعاة يردون هذه الافتراءات ويفتحون أعين الناس. أضف إلى ذلك فساد أخلاق الشبان لانتشار البطالة بينهم حيث لم يعد ثمة شباب يقدر معنى الإخلاص والتفاني في حفظ القومية العربية. ولا أغالي إذا قلت إن كثيراً منهم أصبح بلا خجل عندما يجادلون بعضهم لا يتورعون عن التصريح باستعدادهم لتقديم أنفسهم كسلع تسخر لشتى العناصر الرجعية بل الاستعمارية أيصاً. وأرى اللازب إرسال رجل مخلص قادر يندس بين الطبقات يمكنه أن يطلع بمدة قليلة على ما سأذكره لكم بهذا التقرير.
1-الشيوعية:
تعتبر الهيئة الأولى المنظمة في حلب تنظيماً شعبياً وصل بها إلى قوة تستطيع أن تهدد بها المصالح والأهداف الوطنية السامية. وبرغم التفكك الذي حصل فيها بانسحاب بعض القادة والشباب النشيط لا تزال حركتها في استمرار. فقد أقامت منذ ثلاثة أسابيع حفلة تذكارية للثورة الروسية لوحظ فيها أن اثنين من خطبائها كانا من طلاب معهد التجهيز في حلب. ويجب أن نشير هنا إلى أن تحقيقات أجريت منذ أشهر قليلة في هذا المعهد حول وجود دعاية شيوعية أخرج في أثنائها بعض التلامذة رهن التحقيق، ثم تبرأت ساحتهم رغم مصادرة الناظر بعض كتب شيوعية محضة تدل على وجود دعاية شيوعية فظيعة بين صفوف العمال.
وفي الحركة الأخيرة التي قامت باسم العمال فأنتجت إضراب ما ينوف عن خمسة آلاف عامل من عمال حلب الذين أوفدوا نقبائهم إلى دمشق لمفاوضة الحكومة تحت رئاسة نقيب عمال الميكانيك سعيد السواس السكرتير العام للحزب الشيوعي في حلب. ثم إن في تشكيل النقابات في حلب اليوم حركة واسعة يرمي بها بعض الشيوعيين إلى بذر روح المبادئ الشيوعية يسن صفوف العمال.
أما عمال الأرمن ومؤسساتهم فكلها شيوعية. يوجد للشباب الأرمني ناديان شيوعيان، أحدهما يتخذ اسم أصدقاء الاتحاد السوفيتي، والثاني يتخذ اسم النادي الشيوعي الأرمني، وأعضاؤهما يعملون علناً.
وينبث الشباب الشيوعي العاطل بين الناس للتبشير بمبادئه مدعماً قوله ببراهين وحجج قوية لا يمكن لعمالنا إنكارها أو الرد عليها.
2-الفاشستية ولا نعني بالفاشستية اعتناق المبدأ الدكتاتوري، لأنه لا يوجد بين الشباب من يخطر على باله اليوم أن يقوم كما قام موسوليني، وإنما نعني بها دعايات القنصل الإيطالي المفضوحة وإقامة الحفلات أمام مرأى ومسمع الكتلة الوطنية.
أما الدعاية الإيطالية فحدث عنها ولا حرج. فمجيء أحد زعماء الفاشست قبل ثلاثة أشهر. وإقامة القنصل حفلة خطابية ألقيت فيها الخطب والبيانات المسهبة عن حب إيطاليا للعرب ( أخذ بالك لعيونك السود) والإسلام، وعن اتحاد العادات العربية مع المبادئ والعادات الفاشستية، ثم الدعاية التي يقوم بها أكثر الصحيفيين في حلب لإيطاليا التي تغذيهم بأموالهم، ثم استئجار قنصل إيطاليا سينما الأمبير منذ شهر عرض فيه فلماً إيطالياً فاشستياً يمثل انتصار الثورة الفاشستية.
خلَّ عنك النادي الإيطالي (كازا إيطاليانا) الذي يقبل شباناً على اختلاف درجات ثقافتهم وطبقاتهم الاجتماعية، حيث يجتمع فيه المثقف والأمي والقصاب والتلميذ والزعيم والصحافي…الخ، وتوزع عليهم المشروبات الروحية مجاناً وتقام لهم الحفلات الراقصة التي يتخللها الرقص والأناشيد الإيطالية الحماسية، ولا يخفى ما لهذا النوع من الدعاية من التأثير في نفوس الشبان والشابات، خصوصاً الأغرار منهم أمثال شباننا.
خلَّ عنك المدرسة الإيطالية الليلية التابعة للقنصلية التي تعلِّم مجاناً كل مؤيدي الفاشست ويغشاها شبان وفتيات كثيرون، ويقوم على إدارتها راهبات يحسنِّ اللغة العربية، وأكثر دروسهمنِّ دعاية إيطالية. ثم المدارس التبشيرية (تيراسانتا) بفروعها الثلاثة، ومدرسة الكازا، اللتان تدأبان على عملها ليل نهار. ثم المستشفى الإيطالي الذي تحول في المدة الأخيرة إلى دار دعاية، والذي أخذ على عاتقه أخيراً توليد النساء مجاناً، ودعايات أطبائه أصبحت بالعلن، ودار عيادة مديره هي اليوم أقرب إلى ناد سياسي منها إلى عيادة طبيب.
أما بنك ودي روما فإذا روقب مستخدموه من أبناء العرب مراقبة دقيقة تعرفون منها شيئاً من الأموال التي توزع على أنصاره وإرغام كل من يمكن التأثير عليهم ممن له معهم علاقة مالية بوضع الصور في واجهات محلاتهم ليظهروا للشعب العربي التحسينات التي أجراها الإيطاليون وأدخلوا في طرابلس الغرب والحبشة، والكتب التي تشير إلى ذلك. ككتاب الحبشة المسلمة، وكتاب هذا مالا تريد أن تراه عصبة الأمم في ليبيا، وكتاب إيطاليا في الحرب العالمية، وكتاب الشبيبة الفاشستية، وصوراً تمثل الدوتشي بمظاهر الإنسانية والحنان.
أما البعثات التي تذهب كل عام لإيطاليا فلا تقل خطراً عن هذه المؤسسات ومما يؤلم أن أكثر الأفراد الذين يعودون يصحبون دعاة خطيرين.
أما توزيع القنصلية الإيطالية ثلاثين كيساً من الطحين على الفقراء حركة باب، فهذا أتركه لفطنتكم. وأخيراً فقد وصلت أصابعها إلى المدارس بواسطة الحزب السوري القومي. وقد أصبح في مدرسة التجهيز مقدار أربعين تلميذاً من هذا الحزب. وعددهم كل يوم بازدياد، حتى إن بعض العناصر النسائية حتى المسلمة منها دخلت في هذا الحزب.
3-الدعاية التركية:
ولا تقل الدعاية التركية خطراً عن الدعاية الإيطالية، مع قلة مؤسسات الأتراك في حلب. ولكن الخطر هنا من الأتراك هو ضعف النفوس في الطبقة العامة حتى المثقفة من أبناءنا. وقد وزعت منذ شهر مجموعة لأجمل مناظر ولأفخم بنايات وأكبر مؤسسات ومدارس تركيا. وهذه المجموعة تضم أكثر من خمسائة رسم. وقد انتشرت الكتب التركية بالأحرف اللاتينية بصورة فظيعة في المناطق الأرمينية على الأكثر. ومع أني لا أخاف على الأرمن من هذه الدعاية ولكنني أوجس شراً من زيادة انتشارها.
كل هذا يجري في حلب والكتلة نائمة، كما كانت نائمة في دمشق. وإذا دام الحال على هذا فحلب ستخرج من يدنا شئنا أو أبينا:
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها، تولى رعيها الأسد
دمشق في 23 كانون الأول 1937
فخري البارودي
المصدر: أوراق ومذكرات فخري البارودي، إعداد دعد الحكيم، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق 1999م، صـ 138.