You dont have javascript enabled! Please enable it!
سلايدشهادات ومذكرات

م.عبد الرحمن الجاسر: خير الدين اﻷسدي ورحلة العذاب 

 

 

م.عبد الرحمن الجاسر– التاريخ السوري المعاصر

العلامة الحلبي (محمد خير الدين اﻷسدي ) ، مؤرخ سوري راحل ، حائز على وسام اﻹستحقاق السوري من الدرجة اﻷولى .
ولد في حي الجلوم بمدينة حلب عام 1900 ، وتوفي فيها بتاريخ 29 كانون اﻷول 1971 بعد رحلة عظيمة من العطاء والكفاح ، واليوم يكون قد مضى على رحيله 46 عاما” .
إن المرء ليحار ، هل يطلق عليه لقب المتنبي ( مالىء الدنيا .. وشاغل الناس ) !! فقد  ملأ الدنيا بعلومه ومؤلفاته ، وأشغل الناس في حياته وبعد مماته ؛ بإرثه العظيم ( موسوعة حلب المقارنة ) وغيرها .
أم أطلق عليه لقب أبو العلاء المعري ( رهين المحبسين ) ، مع أختلاف الصفات ، فاﻷسدي كان رهين محبس الظلم الذي عامله به مجتمعه ، ورهين وحدته المؤلمة .

منذ أيام قليلة ، كنت بنقاش مع صديق عزيز وقديم ووفي ، درسنا معا” في ( مدرسة الحكمة ) بحلب في منتصف ستينيات القرن الماضي ، وكان أستاذنا العلامة اﻷسدي رحمه الله ، صديقي هذا يحمل شهادة الدكتوراه اليوم ، وكان محور نقاشنا حول العلامة اﻷسدي ، بمناسبة الذكرى 46 لرحيله عن هذا العالم الفاني ..
حدثني الرجل فقال متنهدا” :
( سأقص عليك مأساة اﻷسدي مما رأيته بعيني ، والذي حزنت عليه خلال حياته ، ويوم رحيله ؛ كحزني على أغلى الناس ممن فقدتهم ) .
قال : ( لقد دعاني اﻷسدي عام 1967 لبيته كي أتناول طعام الغداء معه ، فتوجهت لشقته المتواضعة في حي – الشيخ طه – ، قرب الجامع ، وصعدت درج العمارة ، وقرعت الجرس ، ففتح لي اﻷسدي الباب مرحبا” ، وقد أرتسمت على محياه الفرحة والسرور ، حين رأى من يزوره ويهتم به ، وقال لي : تفضل يا إبني ، زارتني البركة ، وأهلا” وسهلا” بك ، وكنت أحمل بعض الطعام الذي يشتهيه أستاذي ، ﻷكمل المائدة التي أعدها لي رحمه الله .
جلست والعلامة اﻷسدي على تلك المنضدة الخشبية المتواضعة ، بعد أن فرشناها بأصناف الطعام الشهي ، ولاحظت تعابير الحزن تعود لملامح اﻷسدي من جديد !! وبأن فيضا” من مشاعر القهر واﻷلم تكمن في عينيه ونفسيته ، وحاولت أن أظهر نفسي بأنني لم ألحظ ذلك ، ورحت أمازحه وأقص عليه أخبار الشارع والحياة اليومية في حلب .
قال لي : لنبدأ بتناول الطعام ، يالله سم بالله وتفضل ، كانت هناك لوحة معلقة على الجدار خلف اﻷسدي ، كتب عليها بخطه :
(( مافي زمانك من ترجو مودته ، ولا صديق إذا جار الزمان عليك ؛ وفا )) !!
أحسست بأنني أكاد أختنق ، ولا أستطيع ابتلاع اللقمة !! وسألته بعد تردد وخجل : لماذا يا أستاذ محمد خير هذه النظرة التشاؤمية للحياة ؟ وأنت العالم الكبير ، والحكيم العظيم ؟ فأجابني : (( والظلم من شيم النفوس ، فإن تجد ذا عفة ؛ فلعله لا يظلم . )) ، ثم أردف قائلا” : (( طالما هناك رب العالمين .. فهو لن ينساني )) .
وتابع اﻷسدي حديثه الحزين قائلا” : (( إن النفس أمارة بالسوء يا ولدي ، فماذا تنتظر من تلك النفس البشرية !! )) .
وهنا لاحظت بأن الدموع تترقرق من عيني اﻷسدي دون إرادته ، وقد بلغ من العمر عتيا” !! وكأن العبرات كادت أن تخنقه !! فقلت في نفسي : أعوذ بالله من قهر الرجال ، وحسبي الله ونعم الوكيل .
لكن اﻷسدي ، حاول أن يخفي كل تلك المشاعر ، واﻵلام الحزينة ، وتظاهر بأن كل شيء على ما يرام !! وقال لي : لنكمل طعامنا ، وراح يهتم بضيافتي وإكرامي ، وبالرغم من فارق السن بيننا ؛ إلا أنه كان شديد اﻹهتمام بالضيف ، فيرحب به ، ويرفع من شأنه .

وبعد أن انتهينا من الطعام ، قام بإعداد القهوة وشيئا” من الحلوى ، وجلس مقابلي يحدثني عن مؤلفاته ، ويروي لي كيف يقضي يومه ، بين التدريس في مدارس حلب ، ويمضي الوقت اﻵخر في اﻷسواق واﻷحياء القديمة ، وبعد رحلة متعبة ، يتجه للحديقة العامة ، ليجلس بين أحضان الطبيعة ، وخرير نوافير المياه ، وضحكات اﻷطفال ، وأصوات الباعة المتجولين .
ثم يتابع العودة لبيته في حي الشيخ طه ، وحكى له وبحسرة عن سوء معاملة أشقياء الحي الفجرة ، الذين كانوا يهينونه ، ويعتدون عليه بالضرب مجتمعين ، مع الشتم والسخرية !! وكذلك حكى لي كيف يعيش ببيته وحيدا” ، يتدبر أمور حياته ، ويعكف على الكتابة والتأليف والتوثيق .
كان يمشي ببيته وكذلك في الشارع ، مطرق الرأس ، مهموما” ومحسورا” ، وحين مالت الشمس للمغيب ، أستأذنت من العلامة اﻷسدي ، وشكرته على حسن إستقباله وكرمه وضيافته ).

– انتهى كلام صديقي –

 إنه العلامة ( محمد خير الدين اﻷسدي ) ، ترك لنا إرثا” عن حلب لا ينضب ، ووثق ودون كل تراثها بتفاصيله عبر موسوعة حلب المقارنة ، عاش مقهورا” ومضطهدا” من الناس ، ومات وحيدا” ومظلوما” في دار العجزة ( المبرة ) بحلب ، بين كتبه وأوراقه ومسودات موسوعته ..
أوصى بأن يكتب على قبره فقط إسمه ( خير الدين اﻷسدي ) ، لكن ومن سخرية القدر ؛ لم تتحقق له حتى هذه اﻷمنية البسيطة !! فضاع قبره ، وضاعت جثته الطاهرة !!
رحل اﻷسدي في نهاية عام 1971 مودعا” إحدى وسبعين عاما” من الكفاح والترحال والحزن ، لكنه لم يبخل على حلب بالعطاء السخي من التدوين والتأليف والتوثيق ..
وبمناسبة ذكرى مرور 46 عاما” على رحيل العلامة ( محمد خير الدين اﻷسدي ) ، نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى ، بأن يتغمده برحمته ، وأن يسكن روحه الطاهرة في جنات ونعيم ..
فإلى جنة الخلد يا خير الدين اﻷسدي …



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى