عمرو الملاح – التاريخ السوري المعاصر
أدرك السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ( 1876-1909) جينما ارتقى عرش السلطنة العثمانية أنها قد بلغت آخر أطوارها، وأن الضعف الذي تعاني منه كان بنيوياً في مرحلة نشوء نظام الدول-الأمم، وانبثاق عصر القوميات في القرن التاسع عشر، مما حتّم عليه السير في طريق الإصلاح، الذي كان يعده مسألة ملحة.
وخلافًا للصورة التنميطيّة المرسومة عن عبد الحميد الثاني على أنه مناهض للتنظيمات- الاصلاحات، فإن عهده يُعد المرحلة الذهبيّة للتنظيمات العمرانيّة العثمانيّة.
وبهذا الصدد يتحتم على الباحث المنصف أن يميز بين التنظيمات “العمرانية” والتنظيمات “السياسية”.
فقد أقام عبد الحميد الثاني نظام حكم سلطاني ذي طبيعة أوتوقراطية على صعيد التنظيمات “السياسية” من منطلق أن الديموقراطية والحداثة السياسية على النمط الأوروبي أمر بعيد المنال في ظروف التأخر، بينما نجد أن عهد حكمه شهد تحقيق الكثير من الانجازات الضخمة على صعيد التنظيمات “العمرانية”.
إذ كانت مرحلة السلطان عبد الحميد الثاني، ولاسيما في ولايات بلاد الشام ومتصرفياتها، مرحلة ازدهار حضري وتمديني واقتصادي، كما شهدت ارتفاعاً كبيراً في معدلات النمو السكاني والتعليمي، وتحسناً كبيراً في شبكة المواصلات والاتصالات والاندماج النسبي للسوق الداخلية مقارنة بما كانت عليه قبل عهده.
كذلك فقد شهد عهده تنفيذ أكبر برامج العمران والتحضر والتمدين في تاريخ الدولة العثمانية منذ عهد السلطان العظيم سليمان القانوني، على نحو يمكننا معه وصف عبد الحميد الثاني بـ” السلطان المعمار”، وهي التسمية التي يطلقها عليه المؤرخ السوري “جمال باروت”.
وسنحاول في هذه العجالة أن نستعرض بعضاً من منجزاته في بلاد الشام التي تمثلت في إطلاقه، على سبيل المثال لا الحصر، برنامجاً للاعمار الحضري في كل من متصرفية دير الزور (منطقة الجزيرة الوسطى السورية) وشمال شرق ولاية حلب التي كانت تعاني التصحر بعدما دمرها تيمورلنك بشكل تام في ق 15 م، وأهملها أسلافه من سلاطين بني عثمان فأصبحت خراباً يباباً إلى أن أحياها برنامج الإعمار الحضري “الحميديّ” منذ السبعينيات من القرن التاسع عشر. وهي المنطقة التي كان يرى السلطان عبد الحميد أنها بمثابة الرافعة لازدهار بلاد الشام بأكملها وتنميتها.
وهكذا، طور السلطان عبد الحميد ديناميّة جديدة، تمثلت في تحضير البدو, وتحويلهم إلى فلّاحين مستقرين مرتبطين باستصلاح الأرض وزراعتها واستثمارها؛ فوزّع الأراضي السلطانية (الجفتلك الهمايوني) التي تملّكها بموجب قانون الأراضي العثمانيّ على البدو، ومنح شيوخهم ولاسيما في الجزيرة الوسطى (السوريّة) الرواتب وألقاب الباشويّة مقابل ضمانهم الأمن، وتحويل البدو إلى الزراعة، وخلودهم إلى الهدوء، وتأدية الضرائب.
كما شهد عهده إقامة شبكة ضخمة من السكك الحديدية لربط العاصمة اسطنبول بالولايات، ولا يخفى ما لهذه الشبكة من تأثير كبير على التنمية الاقتصادية والإدارية في المدن والبلدات والقرى التي كانت تمر فيها هذه الخطوط، ومنها خط بغداد-حلب-استانبول المتصل بأوروبا، وكذلك خط حلب-حماة-دمشق.
ولعل أهمها تنفيذه مشروع الخط الحديدي الحجازي الذي كان يصل دمشق بالمدينة المنورة، وما واكبه من إنجاز للعديد من مشروعات البنى التحتية التي زادت من أهمية دمشق ووسعت خدماتها في عهده، ومنها جر مياه نبع الفيجة إلى المدينة، وإدخال الكهرباء وحافلات الترامواي، وخط الاتصالات البرقية بين دمشق والمدينة المنورة، وإحداث كلية للطب التي تعد النواة الأولى للجامعة السورية.
كما عرف عن السلطان عبد الحميد اهتمامه بالتصوير الفوتوغرافي وشغفه بالنجارة والرسم بالألوان الزيتية والمائية والعزف علي آلة البيانو وقراءة القصص البوليسية ومطالعة أهم الإصدارات من الكتب الأوربية وترجمتها إلى التركية، وكانت لديه مكتبة خاصة تضم أكثر من مائة ألف كتاب.
مراجع للاستزادة:
==========
– مالكولم ياب، نشوء الشرق الأدنى الحديث: 1792-1923، ترجمة خالد الجبيلي، ( دمشق: دار الأهالي، 1998).
– محمد جمال باروت، “التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية: أسئلة وإشكاليات التحوّل من البدونة إلى العمران الحضري”، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013).