أولاً – خلفية مشروع سورية الكبرى:
منذ تأسيس الأمير عبد الله بن الحسين إمارة شرقي الأردن في عام 1921 لم ينسى عرش أخيه فيصل في سورية وظل طوال حياته يطمح في توحيد سورية تحت حكمه.
استمر هذا المشروع في مقدمة الموضوعات السياسية الخارجية لشرق الأردن على مدار ثلاثين عاماً حتى إغتياله عام 1951م.
تمثلت بداية محاولات الأمير للجلوس على عرش سورية في استعانته بالاستقلاليين السوريين في حكومته، ولكن سرعان ما أنقلب عليهم مقابل تعاونه مع الفرنسيين ولاسيما بعد حادثة إغتيال الجنرال غورو في القنيطرة.
اتبع الأمير عبد الله سياسة تعميق علاقاته مع سلطات الانتداب الفرنسي في سورية وفي الوقت نفسه كانت لديه رغبة قوية في قيام السوريين بثورة الفرنسيين، ولطالما حرص على إفهام الثوار السوريين اللاجئين إلى إمارته أنه لن يحجم عن مساعدتهم(1).
كان الأمير عبد الله يعتقد بأن هذه السياسة تمكنه من جذب وتأييد الطرفين له، ولكنه لم يستطع أن يجمع بين النقيضين، فعجز عن التوفيق بين إرضاء الفرنسيين ومساعدة السوريين في آن واحد. وهذا ما دعاه لأن يتخذ موقفاً مضاداً تجاه السوريين لكسب تأييد فرنسا في سبيل تحقيق أطماعه الخاصة بسورية، وهذا ما دعاه إلى تقديم عرض للفرنسيين للجلوس على عرش سورية مقابل إخماد الثورة فيها(2).
أدى عدم تجاوب الأمير عبد الله مع السوريين وتعاونه مع الفرنسيين إلى تراجع مكانته لدى الوطنيين السوريين، وشكل هذا عائقاً جديداً أمام محاولاته للوصول إلى عرش دمشق، فلم يعد عبد الله في نظر الكثيرين أحد رجال العرب المنادين بالوحدة العربية بل أصبح شريكاً لفرنسا وبريطانيا في سياستهم ضد العرب، وطامعاً في نفوذ شخصي له في سورية.
في تلك الأثناء وبعد أن استقر الوضع للملك فيصل الأول في العراق ظل يطمح أن يوحد “سورية الكبرى” تحت حكمه، ثم يضمها إلى العراق، ورافق ذلك تطلع السوريين إلى مساعدته.
وبينما كان نجم الملك فيصل يبزع لدى السوريين كان اسم الأمير عبد الله يقترن إقتراناً كاملاً ببريطانيا، لذلك تطلعت شريحة واسعة إلى الملك فيصل.
وفي مطلع ثلاثينيات القرن العشرين تجدد أمل فيصل بالنسبة إلى عرش سورية، إذ بدا وكأن موقف فرنسا فد تغير بعض الشيئ، وأن الحكومة الفرنسية لم تعد تمانع قيام مملكة في سورية يكون على رأسها أحد الهاشميين وخاصة فيصل.
ثانياً – طرح المشروع:
توفي فيصل في الثامن من أيلول عام 1933 وتركت وفاته فراغاً أعطى الملك عبد العزيز بن سعود فرصة ليتسلم قيادة الحركة العربية ويقوي نفوذه داخل سورية، لكي يستطيع السيطرة عليها، ويمنع الأمير عبد الله من تنفيذ طموحه فيها.
أما الأمير عبد الله بن الحسين فقد اعتبر وفاة فيصل فرصة لتزعم الأسرة الهاشمية ولإعادة طرح مشروع “سورية الكبرى” لأن الوفاة أزالت عائق “الزعامة” الذي منع الأمير عبد الله من مطالبته بعرش سورية عندما كان فيصل حي يرزق.
بدأ عبد الله بسلسلة من المراسلات إلى بريطانيا يلح فيها على وحدة سوريا الكبرى، خاصة بعد اشتداد الحركة الوطنية في سوريا والمطالبة بالاستقلال.
ففي الثاني والعشرين من شباط 1936 رفع مذكرة إلى الحكومة البريطانية، يطلب فيها توسط الحكومة البريطانية لدى فرنسا لتأسيس حكم عربي هاشمي في سوريا والأردن، كخطوة أولى في سبيل الاتحاد العربي، إلا أنّ إصرار الفرنسيين على البقاء في سوريا، وتراجع التنافس البريطاني الفرنسي نتيجة ظهور الخطر النازي في ألمانيا، حالت دون تحقيق ذلك.
مع قيام الحرب العالمية الثانية دخل مشروع سوريا الكبرى مرحلة تاريخية جديدة، فقد أخذ الأمير عبد الله يدعو إلى وحدة سوريا الكبرى بكل أقطارها، وحاول استغلال ظروف الحرب، معلنا الوقوف إلى جانب بريطانيا، وأعلن في 16 أيلول 1939 الحرب على ألمانيا.
وعلى أثر التصريح الذي ألقاه وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن(Anthony Eden) بتاريخ 29 أيار1941، والذي قال فيه أن بريطانيا ستقدم دعمها لأي مشروع وحدوي ينال موافقة الجميع.
وفي 1 تموز 1941 قرر مجلس الوزراء الأردني أن الحكومة الأردنية تعتبر التصريح اعترافا بوحدة البلاد السورية، وأن الحكومة تطلب من الأمير عبد الله جمع كلمة البلاد السورية، والاتصال المباشر بالحكومات الوطنية السورية. وجاء رد الحكومة البريطانية محذرا الأمير عبد الله من إجراء أي تقارب أو اتصال مباشر مع الحكومة السورية، وإرجاء الأمر حتى تستقر الأوضاع.
استمر الأمير عبد الله في مساعيه للوصول إلى وحدة سوريا الكبرى؛ فوجه دعوة إلى أوليفر لتلتون Oliver Lyttelton)) ممثل وزارة الحرب في الشرق الأوسط، حرص فيها على التأكيد على ضرورة وحدة البلاد الجغرافية والقومية، بعد تحرير سوريا من جيوش الانتداب الفرنسي. وفي 13 أيلول 1941 زار لتلتون عمان، وتم بحث الوحدة السورية مع الأمير عبد الله ورئيس وزرائه توفيق أبو الهدى. وكان الرد البريطاني بضرورة التريث إلى أن يصبح الموقف أكثر استقرارا.
وفي خطاب العرش الذي ألقاه الأمير في افتتاح الدورة العادية للمجلس التشريعي بتاريخ 22 تشرين الثاتي 1941، ربط بين تصريح إيدن وتحقيق مشروع سوريا الكبرى معتبرا إياه هدفا قوميا وغاية وطنية. وفي الرابع والعشرين من شباط 1943 صرح إيدن أمام مجلس العموم البريطاني بأن بريطانيا تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب لتعزيز الوحدة الاقتصادية والثقافية والسياسية، على أن تأتي الخطوة الأولى من العرب أنفسهم.
ثانياً – محاولة التطبيق :
في عام 1943م استنتج الأمير عبد الله أن بريطانيا لا تدعم مشروعه، فأخذ يعمل على إعداد صيغة رسمية للمشروع، لنقله من مجرد دعوة عامة، إلى دعوة رسمية منظمة.
دعا الأمير عبد الله إلى مؤتمر وطني عقد في عمان في الخامس والسادس من آذار 1943، وانبثق عن الاجتماع تشكيل لجنة عهد إليها بوضع مشروعين لتحقيق الوحدة السورية.
سمي المشروع الأول “الدولة السورية الموحدة”، وتضمن استقلال سوريا الطبيعية ووحدتها، في ظل نظام ملكي دستوري، وإيجاد إدارة خاصة في بعض مناطق فلسطين لحفظ حقوق الأقلية اليهودية، وكذلك الحال بالنسبة للبنان، وأن يؤلف بعد ذلك اتحاد من الدول السورية الموحدة والعراق، تنضم إليه أية دولة عربية تريد ذلك.
أما المشروع الثاني فسمي “مشروع تأسيس دولة سورية اتحادية”، ونص على تأسيس اتحاد سوري مركزي يضم شرقي الأردن وسوريا الشمالية ولبنان وفلسطين، تكون عاصمته دمشق، ويكون برئاسة الأمير عبد الله. كما نص المشروع على تأليف اتحاد عربي من الدولة السورية الاتحادية والعراق، تنضم إليه أية دولة عربية ترغب ذلك.
وفي الثامن نيسان 1943 جدد الأمير عبد الله دعوته إلى وحدة بلاد الشام، داعيا إلى عقد مؤتمر في عمان لمناقشة مسألة الوحدة، وفي 18 أيار 1943 أرسل مذكرة إلى الحكومة البريطانية تضمنت الصياغة الرسمية لمشروع سوريا الكبرى.
وخلال المشاورات التي قادها رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس للوصول إلى صيغة وحدوية عربية، بعث الأمير عبد الله بتاريخ 24 آب 1943، برئيس وزرائه توفيق أبو الهدى إلى مصر من أجل التشاور في قضية الوحدة، مزودا إياه بمجموعة من التعليمات لتكون أساسا لمباحثاته مع النحاس، تضمنت أن أية وحدة ستكون عديمة الجدوى قبل أن تتحد البلاد الشامية، أو أن يتشكل بينها اتحاد تعاهدي بحيث تبقى الحكومات الإقليمية كما هي.
وخلال مباحثات تأسيس الجامعة العربية أرسل الأمير عبد الله مذكرة إلى مصطفى النحاس في السابع والعشرين من أيلول 1943، طلب منه فيها ضرورة أن تعمل الحكومات العربية على تحقيق وحدة سوريا الكبرى أولا، لأن هذه الوحدة هي الوسيلة للوصول إلى وحدة عربية كاملة.
بعد إعلان الاستقلال في 25 أيار 1946، استمر الملك عبد الله في الدعوة إلى مشروع سوريا الكبرى؛ ففي خطاب العرش أمام المجلس التشريعي في 11 تشرين الثاني 1946، دعا إلى وحدة بلاد الشام كهدف رئيسي له ولحكومته، وفي الرابع من آب 1947 أصدر الملك عبد الله بيانا أشار فيه إلى أن الدعوة إلى وحدة سوريا الكبرى لا بد أن تأخذ شكلا عمليا، وأكد أن شكل الحكم في الدولة السورية الكبرى أقره المؤتمر السوري العام سنة 1920، أما النظام الجمهوري الذي يتمسك به البعض في سوريا، فهو نظام أوجدته التجزئة الاستعمارية، فإما الرجوع إلى الأصل، أو إجراء استفتاء جديد. وفي نهاية البيان دعا الأقاليم الشامية وحكوماتها إلى عقد مؤتمر تمهيدي يقرر وضع الوحدة، أو الاتحاد السوري موضع التنفيذ، وتحديد مركز فلسطين من هذه الوحدة على الوجه الذي يوقف خطر الصهيونية. جاء اغتيال الملك عبد الله في العشرين من تموز 1951، ليضع حدا نهائيا للمطالبة بوحدة سورية كما تصورها الأمير/ الملك عبد الله طيلة ثلاثين سنة من حكمه(3).
رابعا – الجهود الدعائية:
شهد عام 1945 جهوداً حثيثة بذلها أمير شرق الأردن عبد الله لتنفيذ مشروع سورية الكبرى داخل سورية نفسها، بعد الإحباطات التي تعرض لها الأمير، وبعد أن أدرك أن بريطانيا لن تسانده في مشروعه.
ضمن هذه الجهود والمساعي، اضطر إلى أن يقوم بتحركاته الخاصة، ويدعم مشروعه بنفسه، ومن خلال رجاله ومؤيديه داخل سورية، كما أنه حاول أن يستميل بعض المسؤولين الفرنسيين، ويتصل بهم من أجل المناداة به ملكاً على سورية، مقابل موافقته على عقد المعاهدة التي تريدها فرنسة حينذاك(4).
قام الأمير عبد الله بتوزيع جهوده الدعائية داخل سورية، في مختلف الجهات، وحاول أن يستغل الخطاب الذي ألقاه الرئيس شكري القوتلي في السادس والعشرين من شباط 1945، في مجلس النواب، والذي أعلن فيه : (إننا نرحب، ترحيباً لا محاباة فيه، بأن تكون سورية الكبرى جمهورية عاصمتها دمشق).
وكان القوتلي قال في حديثه مع وزير مصر المفوض في سورية، إن شروطه لقبول سورية الكبرى أن تكون جمهورية، وأن يكون ذلك باختيار أبنائها، وألا يتسرب إليها الطغيان الصهيوني، وهو مالم يعجب الأمير عبد الله.
استغل الأمير عبد الله خطاب القوتلي، وقام بالاتصالات بالجماعات المؤيدة لمشروعه داخل سورية، عن طريق قنصل الأردن في دمشق، عبد المنعم الرفاعي، الذي قام بجهود عديدة من أجل تعبئة هذه الجماعات لصالح الأمير ومشروعه.
اصدرت عدة هيئات وأحزاب في سورية على أثر ذلك منشورات وبيانات انتقدت فيها خطاب القوتلي وهاجمته. ولعل من أهم هذه المنشورات بيان (الحزب العربي) في دمشق الذي أعلن أن خطاب الرئيس وحديثه عن سورية الكبرى على أساس أن تكون جمهورية عاصمتها دمشق، هو عبارة عن فكرة خاصة بالقوتلي، لأن الوحدة السورية هي هدف جميع أبناء الأمة. كما أصدرت جماعة (الأحرار) بياناً آخر هو نفس المضمون.
على الرغم من الرقابة الشديدة، فإن نشاط تلك الجماعات كان يزداد، مدعوماً من الأمير عبد الله، الأمر الذي أقلق الحكومة السورية، وقد أذاع صبري العسلي وزير الداخلية، بياناً هاجم فيه هذه الجماعات، وأعلن رفض الحكومة للمنشورات التي تصدر عنها.
لم تتورع الحكومة الأردنية عن إعلانها تأييد تلك الجماعات، والوقوف وراءها، واتضح ذلك في خطاب رئيس وزراء شرق الأردن في العاشر من آذار 1945 الذي أبدى سروره لازدياد عدد الذين يعملون لتحقيق مشروع (سورية الكبرى).
حاول وزير الخارجية السورية، جميل مردم بك، أن يوقف هذه الحرب الكلامية التي عملت على توتير الأوضاع بين الأردن وسورية في وقلت لا يحتمل الخلاف، أثناء وضع ميثاق جامعة الدول العربية. فالتقى بقنصل الأردن في سورية، عبد المنعم الرفاعي، وأبلغه أنه اتفق مع سمير الرفاعي رئيس الحكومة الأردنية في القاهرة، على عدم القيام بأي عمل يسبب الخلاف. وقد لاحظ مردم بك في لقائه أن الرفاعي لم يكن بعيداً عن هذه الحملة. كما أجاب الرفاعي بأن الحرب الكلامية كانت نتيجة خطاب القوتلي الذي اشترط النظام الجمهوري في مشروع سورية الكبرى، مما يعتبر هجوماً مباشراً على الهاشميين.
لم يقتصر تأييد (سورية الكبرى) والتخلي عن النظام الجمهوري على هذه الجماعات، وهذه المنشورات، بل وصل إلى داخل مجلس النواب، وصار له مؤيديه مثل حلمي الأتاسي نائب حمص، وحسن الحكيم الذي قدم كتاباً إلى رئيس الوزراء، تضمن الحقائق التاريخية لوحدة سورية، مؤكداً فيه أن شكل الحكم أمر ثانوي.
لم تقتصر الدعاية للمشروع في تلك الفترة على نشاط بعض السوريين، بل إن الأمير عبد الله كان يتحرك في جهات أخرى أيضاً. فأثناء هذه الخلافات داخل سورية بسبب المشروع، سعى الأمير إلى استمالة وزير العراق المفوض في سورية، للعمل لصالح المشروع. وقد طلب الأمير عبد الله حينها من ابن أخيه، الأمير عبد الاله الوصي على عرش العراق، وألح في طلبه، مما جعل الوزير العراقي يطلب من حكومته أن تعفيه من منصبه، لأنه يرفض وبشكل قاطع التعاون مع الأمير عبد الله (5).
(1) طربين (أحمد)، الوحدة العربية بين 1916- 1945، بحث في تاريخ العرب الحديث منذ قيام الثورة العربية حتى نشوء جامعة الدولة العربية، معهد الدراسات العربية العالمية، القاهرة عام 1957م، صـ 77.
(2) خلة (كامل محمود)، التطور السياسي لشرق الأردن – مارس 1921، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلام، ليبيا- طرابلس، عام 1983م، صـ 364م.
(3) الغويين (فيصل خليل)، المواقف العربية والدولية من مشروع سوريا الكبرى، المؤتمر الدولي – “الملك المؤسس (الشخصية والقيادة والتاريخ)”، جامعة الحسين بن طلال – 22 – 24 حزيران 2021م.
(4) وثائق وزارة الخارجية المصرية، الأرشيف السري الجديد، محفظة 1498، ملف 37 / 50 / 53 ج1، القنصلية المصرية في القدس من القنصل العام لوكيل الخارجية في 8 شباط 1945م,(
(5) مكاوي (نجلاء)، مشروع سورية الكبرى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2010، صـ 138-139
اقرأ:
الجهود الدعائية لمشروع (سورية الكبرى) داخل سورية 1945
الموقف الأردني من سلخ لواء اسكندرون 1939
بطاقة هوية من لواء اسكندرون – 1937
صحيفة الجزيرة 1939 – مصير أملاك اللاجئين في لواء اسكندرون
صحيفة الجزيرة 1939- السلطات التركية تسلمت مقدرات لواء اسكندرون
مهند الكاطع: تغييرات الحدود السورية – التركية (1916-1939)
جميل مردم بك .. لواء إسكندرون واسطة العقد السوري
عمرو الملاّح:سنجق الاسكندرون لا يفصل عن حلب
صحيفة 1947- مشروع سوريا الكبرى ووزير المستعمرات البريطانية السابق