مقالات
عمرو الملاح: العلامة خير الدين الأسدي..مسيرة حياة
عمرو الملاح – التاريخ السوري المعاصر
ولد محمد خير الدين الأسدي عام 1900 في حي الجلوم بقلب مدينة حلب القديمة لأب هو الشيخ عمر رسلان “أسد” كان من رجال الدين، ويعمل أستاذاً للصرف واللغة العربية في المدرسة العثمانية المعروفة آنذاك.
ودفع اعتزاز الوالد بالعربية وشغفه بها إلى تغيير كنية العائلة من “رسلان” إلى “أسد”، ورسلان كلمة تركية تعني أسد، وأضاف خير الدين إليها ياء النسبة في تصدير مؤلفاته فأصبحت “أسدي”.
وقد نشأ الأسدي كأبيه على الاهتمام باللغة، وتلقى تحصيله العلمي في المدارس الرسمية حتى بلغ “الرشدية” التي تقابل الثانوية اليوم. إلا أن والده الشيخ عمر أخرجه نهائياً من الرشدية، وألحقه بالمدرسة العثمانية؛ فأعطي غرفة فيها وأصبح مجاوراً كسائر المجاورين الذين نزلوا فيها. ثم ما لبث أن تابع تحصيله العلمي معتمداً على نفسه بالمطالعة الخاصة.
واستطاع الأسدي بحكم ولادته ونشأته في حي شعبي أن ينهل الثقافة الشعبية بالمعايشة. وكان عصامياً يبني نفسه بنفسه، وينفق كل ما يكسبه في شراء الكتب واقتناء التحف منذ حداثته، حتى أسس مكتبة عدها الفيكونت دي طرازي في كتابه المرجعي “خزائن الكتب العربية في الخافقين” من أضخم المكتبات الخاصة في المدينة بقوله: “تعد مكتبة الأسدي العصامي من أكبر الخزائن في سورية ولبنان”، فتوافرت له بذلك ثقافة موسوعية كانت له رصيداً كبيراً استمد منه المادة الرئيسة لوضع معجمه الكبير (موسوعة حلب المقارنة) وغيره من مؤلفاته التي أثرت المكتبة العربية.
وبعد زوال العهد العثماني كان الأسدي من أوائل معلمي اللغة العربية ومدرسيها، وكان يُرغم طلابه على التحدث بالعربية الفصحى. وقد اشتغل حينئذ في عدة مدارس، ومنها “العربية” و”الشرقية” و”الفاروقية”. وفي غضون ذلك تجلت ريادته العلمية حين ألف كتابه الأول “قواعد الكتابة العربية” (حلب 1341هـ)، الذي أراد فيه أن يتوخى “سهولة العبارة من القواعد والتطبيقات وجمع الأحكام بطريقة عصرية”.
وكان منذ بداية حياته ميالاً إلى التجديد والإبداع؛ ففي عام 1922 كان أول من خلع الطربوش في حلب قائلاً: “لم يسبقني إلى خلعه أحد، وكان الناس يتغامزون ويقولون أنني جننت، ويقول آخرون: هذا كفر وزندقة”.
كما كان به ميل إلى المسرح والتمثيل، فأنشأ لطلابه مسرحاً. وفي عام 1923 قرر إخراج مسرحية “الاستقلال”، فقد كان لا يعدم وسيلة ينمّي بها في طلابه حب الاستقلال والحرية، ويزرع بذور الثورة على الاستعمار في قلوبهم، وبدأ تدريب طلاب المدرسة الفاروقية على المسرحية، وفي يوم العرض وضع في كيس كمية من البارود الذي يستعمله الأطفال في مسدساتهم، وأخذ يوزعه على الطلاب قبل ظهوره على خشبة المسرح حرصاً على أن يكون جو المعركة أقرب إلى الحقيقة، وفجأة انفجرت في يده قطعة من البارود أدت إلى التهاب الكيس بأكمله، وأصيب في يده كما أصيب بعض الطلاب. لكنه طلب من طلابه إكمال العرض، ثم أغمي عليه. وبعد أيام كان قد فقد كفه اليسرى بعد مداواة فاشلة.
وأثرت هذه الحادثة عليه كثيراً؛ فازداد عكوفاً على البحث، وانطواءً على نفسه، وانسحب إلى مكتبته التي كانت تنمو بسرعة يعبّ فيها من خلاصة الفكر وجوهر الحقائق عبًّاً. وقد ترك التدريس في الفاروقية نهائياً بعد الحادثة تلك مباشرة. وأخذ يدرس اللغة العربية في مدرسة “الهايكازيان” الأرمنية حيث لقي فيها التقدير، وعرَّبَ مع زميل له (تشيستويان) “ملحمة عروج أبي العلاء” للشاعر الأرمني اسحاقيان، ثم ما لبث أن تعاقد أيضاً مع “الكلية العلمانية” (اللاييك) التي سميت فيما بعد “المعهد العربي الفرنسي”.
وفي غضون ذلك، كان الأسدي ينفق بسخاء على شراء الكتب والأبحاث التي يجريها على الرغم من دخله المحدود فأثر هذا، بالإضافة إلى اعتناقه لأراء النباتيين، في ضعف صحته ومرضه في عام 1945؛ فقرر أن يهب مكتبته الضخمة لمؤسسة خيرية تعوله لقاءها، فأقنعه العديد من كبار المسؤولين في المدينة يتقدمهم المحافظ إحسان بك الشريف، ومنهم أيضاً رئيس البلدية المهندس مجد الدين الجابري، ومدير دار الكتب الوطنية آنذاك الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، بتقديم مكتبته إلى دار الكتب الوطنية بحلب التي كانت آنذاك في طور إعادة التنظيم، وذلك لقاء مرتب شهري يحدده هو. فاشترط أن تُسْنَدَ إليه وظيفة قيّم فرع الاختصاص ليرشِدَ الباحثين والمؤلفين إلى المراجع، وأن يتقاضى لقاء ذلك مرتباً شهرياً قدره 250 ل.س، فاتخذت الترتيبات لنقل المكتبة إلى دار الكتب الوطنية عام 1946، وبعد مدة شجر خلاف بينه وبين رئيس البلدية الذي كانت تتبع له دار الكتب الوطنية آنذاك، فأقيل من وظيفته وظل يعيش على هبة المكتبة وما يأتيه من تدريس بضع ساعات يُكلف بها. ثم ما لبث أن حُرِمَ من هبة المكتبة (هذا المبلغ الضئيل). وذلك بموجب قرار من المجلس البلدي عام 1963 بذريعة أنه أخذ تعويضات توازي قيمة المكتبة أو تفوقها.
إلا أن الأسدي سرعان ما بدأ في تكوين مكتبة أخرى بعد عام 1946، وأضحت مكتبته الجديدة هذه بما حوت من كتب متنوعة شاهدة لصاحبها بالثقافة الموسوعية. ولا ريب أن مكتبة بهذه الأهمية كانت تساعد صاحبها على إنجاز العمل في معجمه الكبير (موسوعة حلب المقارنة) التي بدأها في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، وكانت تستغرق جل أوقاته. وهناك ما يشير بالفعل إلى أن الأسدي قد ترك لآخر الموسوعة ثبتاً بالمصادر العربية والأوروبية التي أفاد منها لإنجاز هذا العمل والتي تحتوي على 300 مصدر. وقد سجل الأسدي نفسه في المقدمة أنه قد ضم إلى عمله “ذيل فوات موسوعة حلب” وثبت المصادر في الآخر، إلا أنه لم يتم العثور لا على الذيل ولا على ثبت المصادر.
وكان الأسدي شديد الولع بالأسفار، فكان كثيراً ما يغادر حلب إلى مدينة أخرى سعياً وراء كلمة أو عبارة، وعلى الرغم من رقة حاله وضيق ذات يده فقد كان يصر على القيام بجولات علمية على مختلف البلدان ليسعى فيها إلى البحث عما يهمه من أمور علمية، وإلى اللقاء مع العلماء والباحثين، وإلى التردد على المكتبات العامة. وهكذا نعرف الآن أنه قد قام في الفترة الممتدة بين عامي (1946-1959) بسبع رحلات علمية زار فيها كلاً من فلسطين، ومصر، وتركية، والعراق، وإيران، ويوغوسلافيا، وهنغاريا، وبلغاريا، والنمسا، وليبيا، وتونس، والمغرب، وإسبانيا.
و بعدما أعيد تنظيم “جمعية العاديات” في عام 1950، عين الأسدي أميناً للسر ثم ما لبث أن أصبح نائباً للرئيس وبقي في هذا المنصب حتى وفاته.
وفي غضون ذلك، رفد الأسدي المكتبة العربية بعدة كتب زادتها ثراء على ثراء وأكدت ريادته في مجال البحث العلمي، ومنها: كتابه الذي تناول فيه بالعرض والتحليل اسم مدينته والمعنون “حلب- الجانب اللغوي من الكلمة” (حلب 1951)، أتبعه بكتابه “يا ليل” (حلب 1957) الذي خصصه بكامله لاستقصاء أصل هذه العبارة الشائعة لدى العرب حتى يصل إلى تفسيره الخاص.
والواقع أن ريادة الأسدي لم تقتصر على مجال البحث العلمي وحسب، وإنما تجلت في مجال الشعر أيضاً. فحتى حين نظم الشعر ونشر ديوانه الأول “أغاني القبة ” (حلب 1951) كان من الرواد لما أصبح يسمى لاحقاً “قصيدة النثر”.
وفي عام 1956 ترك التدريس في “الكلية العلمانية” (اللاييك) بعد أن اندلعت النار فيها، وحصل على تعويض مادي اشترى فيه أسهماً في شركة الغزل والنسيج لتكون له مورداً ثابتاً يعيش منه.
واضطر إلى الالتجاء إلى وزارة التربية ليحصل على بعض الساعات في التدريس، وقد بقي يدرِّس في إعداديتي “إسكندرون” و”الحكمة” مدة طويلة.
وفي عام 1961 تلقى أكبر صدمة مادية في حياته تركته حزيناً لمدة طويلة، فقد أُممت شركة الغزل والنسيج وخسر بذلك ما كان له فيها من أموال دفعة واحدة.
وفي 24 تشرين الثاني من عام 1967، ولمدة أربعة أيام عقد الأسدي ندوة عن لهجة حلب، كانت القاعة كل مساء تمتلئ بالرواد، يسألونه عن كلمات حلبية فيجيبهم عنها من معجمه الكبير (موسوعة حلب المقارنة)، كما كان يذيع مساء كل جمعة من إذاعة حلب حديثاً مماثلاً.
لم يقتصر الأسدي على نشر الكتب التي يطبعها على نفقته الخاصة على الرغم من وضعه المادي الصعب، وإنما كان يرسل المقالات العلمية والتحقيقات اللغوية والتاريخية إلى الصحف والمجلات العربية والسورية، ومنها: “الرسالة”، و”العمران”، و”الضاد”، و”الكلمة”، و”الحديث”، و”الجماهير”.
وفي عام 1970 زار سد الفرات، ولما رأى عظمة المشروع التفت إلى صديقه وتلميذه القاضي نبيه الجبل وقال: “أنا الآن سامحت الحكومة بأموالي التي أخذتها مادامت تصرفها على مثل هذه المشاريع”.
وفي أخريات حياته تجددت الاتصالات بينه وبين بلدية حلب لتشتري منه مكتبته الجديدة وموسوعته التي أشرف على إنجازها، ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين.
ونظراً لأن الأسدي لم يتزوج فقد بقي وحيداً بعد وفاة والديه، فآثر أن ينقل نفسه إلى “دار العجزة” ليستقبل الموت هناك.
وقد اكتشفت إدارة الدار وفاة هذا النزيل في صباح 29 كانون الثاني من عام 1971، فأرسلته للدفن دون أن تعلم أحداً. ودفن الأسدي وحيداً في ذلك اليوم، ولم يعرف أحد أين دفن.
وهكذا فقد رحل الأسدي عن الدنيا وفي نفسه غصة من المدينة التي أحبها بشكل لا يوصف حتى قال فيها: “أحببتها وعقتني، وخلدتها فنفتني”.
وبعد وفاة الأسدي المأساوية اتخذت بعض الإجراءات لإعادة الاعتبار إليه، وكان من أهم الإجراءات تلك وضع الأديب عبدالفتاح رواس قلعه جي كتابه المرجعي “العلامة خير الدين الأسدي: حياته وآثاره” (دمشق 1980) الذي تناول فيه حياة الأسدي وملامح عصره ومصادر ثقافته ومؤلفاته المطبوعة منها والمخطوطة، وعنه نقلت مادة الترجمة له في هذه المقالة، تلى ذلك الشروع في طبع معجمه الكبير (موسوعة حلب المقارنة).
كما كرم الأسدي بعد رحيله بمنحه وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى في عام 1983.
ولقد مثل صدور “موسوعة حلب المقارنة” بأجزائها السبعة، والتي تقع في 3236 صفحة من القطع الكبير، في الفترة بين عامي (1981- 1988) عن جامعة حلب باعتناء الأديب محمد كمال حدثاً ثقافياً مهماً في حلب، نظراً للقيمة الكبيرة التي يتمتع بها هذا العمل الموسوعي المهم من جهة، ونظراً للظروف الخاصة التي أحاطت بحياة المؤلف ووفاته من جهة أخرى.
ومع أن فكرة الموسوعة كانت في البداية أقرب إلى المعجم الذي يهدف إلى الكشف عن جذور اللهجة الحلبية وأصولها، إلا أن ثقافة المؤلف الموسوعية حوّلت هذا المعجم اللغوي إلى موسوعة “إثنوغرافية” شاملة، إذ أصبحت تشمل أسلوب أهل حلب بما فيه من استعارت ومجازات وتوريات، والأمثال والحكم والحكايات والنوادر والشتائم والحيل، ومراسيم الأفراح والأتراح والمواويل والعادات والتقاليد والخرافات والاعتقادات لأهل حلب، وأنواع الأطعمة والأشربة والحارات والأسواق والخانات في حلب، والقبائل الضاربة في أرباضها، ونبذ عن الأسرات والأعلام فيها.
وفيما يتعلق بالهدف الأصلي من هذا العمل الموسوعي، أي الكشف عن جذور لهجة حلب وأصولها، نجد أن المؤلف يحرص على التوقف عند كل مفردة من مفردات اللهجة الحلبية ليوضح أصلها العربي أو غير العربي (السرياني، الفارسي، التركي، الكردي، الإيطالي.. إلخ)، وإذا كانت المفردة عربية فيحرص في هذه الحالة على تتبع انتقالها إلى اللغات الأخرى. ومن هذه اللغات الأخرى التي يركز عليها المؤلف باستمرار نجد اللغات (اليونانية، والألبانية، والبلغارية، والقرواطية، والرومانية).
وبالاستناد إلى هذا يمكن القول إن الأسدي كان من الباحثين العرب الرواد الذين أولوا عنايتهم واهتمامهم بهذا الموضوع على هذا المستوى، إذ إنه على حد معلوماتنا قد سبق الآخرين في التوصل إلى هذه النتائج التي سجلها في موسوعته.
مراجع للاستزادة:
——————-
– بشير فنصة، من نوادر ومناقب المعلم خير الدين الأسدي صاحب الموسوعة الكبرى المقارنة، مجلة “الموقف الأدبي”، ع 120، دمشق 1981، ص 95- 119؛
– عبدالفتاح رواس قلعه جي، العلامة خير الدين الأسدي: حياته وآثاره، دمشق 1980؛
– محمد م. الأرناؤوط، إسهام الأسدي في الكشف عن المفردات العربية في اللغات البلقانية، مجلة “مجمع اللغة العربية الأردني”، ع 48، عمان 1995، ص 211- 261.